دبلوماسية هزيلة، هزائم بمجلس الأمن وتعصّّب للاحتلال الاسرائيلي
ردّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على ما ورد في كتاب «نار وغضب: داخل بيت ترامب الأبيض» لمؤلفه مايكل وولف، بشأن مؤهلاته العقلية لحكم الولايات المتحدة، قائلا «أنا متزن.. وعبقري جدا»، واستدل بنجاحه في عالم الأعمال والبرامج التلفزيونية.. لكن متابعين للشأن الأمريكي يتساءلون ماذا حققت عبقرية ترامب لأمريكا منذ توليه الحكم؟
في 20 جانفي 2017، استلم دونالد ترامب مهامه بشكل رسمي كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية بعد فوز مثير للجدل على مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون.
استهل ترامب، واجباته الرئاسية بشعار «أمريكا أولا»، في ظروف مشحونة للغاية، بعد مباشرة مكتب التحقيقات الفيدرالي «أف بي آي»، تحقيقات معمّقة حول مزاعم تدخل روسيا في نتائج الانتخابات ووجود اتصالات بينها وبين فريق ترامب أثناء الحملة الانتخابية.
لقد وجد الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الأمريكية، نفسه في عين إعصار الأجهزة الأمنية الفاعلة وكبريات المؤسسات الإعلامية، التي نفذت إلى مكتبه داخل البيت الأبيض واضعة يدها على معلومات ونقاشات سرية وداخلية نشرتها للجمهور الواسع.
لم يستطع ترامب، أن يظهر للرأي العام الأمريكي أنه مسيطر على الوضع بشكل فعلي، وبدا كمن يقود سفينة في بحر هائج وسط فوضى عارمة داخل قمرة القيادة، بدليل أنه لم يفلح في تحقيق أي شيء خلال الـ100 يوم الأولى ما عدا التغريد على موقع تويتر، بلغة أبعد ما تكون عن اللغة الدبلوماسية المعتمدة في كلام الرؤساء.
صاحب القرار
أمام الضغوط الكبيرة التي مارسها عليه المدير السابق لمكتب التحقيقات جيمس كومي، لجأ الرئيس الأمريكي إلى تكليف صهره وكبير مستشاريه جاريد كوشنر بالتكفل بملف الاتصالات مع الروس، ليتفرغ كلية لإدارة شؤون البلاد.
وأول ما لجأ إليه ترامب لاستعادة التوازن، هو اتخاذ القرارات المفاجئة وغير المتوقعة، ليؤكد أنه «صاحب سلطة فعلية» حتى وإن تعلق الأمر بقرارات لا تلقى إجماع دائرته المقربة.
لقد كان شهر ماي 2017، حاسما جدا لدونالد ترامب، حيث بدا أخيرا أنه استوعب إلى حدّ بعيد معنى أن يكون رئيسا لقوة عالمية كالولايات المتحدة الأمريكية، وما يمنحه ذلك من صلاحيات واسعة، حيث تخلص من جيمس كومي الذي أزعجه كثيرا من منصبه كرئيس للـ»أف بي أي»، رغم علمه بأن ذلك قد يمنح إشارات حقيقة على علاقة روسيا بحملته الانتخابية.
وقبل ذلك بأيام قليلة استعرض ترامب القوة العسكرية لبلاده، عبر استهداف مطار الشعيرات بسوريا، بصواريخ طوماهوك، متراجعا عن موقفه الذي كان معتدلا إلى حد ما تجاه النظام السوري بقيادة بشار الأسد.
تنفيذ الوعود
حاول الرئيس ترامب، صناعة الاستثناء في شؤون الحكم والسياسة، إذ غالبا ما كان وفاء الرؤساء بوعودهم الانتخابية صعبا للغاية، لكنه وفي أسبوعه الأول بالبيت البيض، اتخذ قرار حظر السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية على مواطني 7 دول إسلامية.
وكشف مايكل وولف في كتاب «نار وغضب: داخل بيت ترامب الأبيض»، أن القرار اتخذ يوم الجمعة، كتنفيذ لوعده الانتخابي بتقليص هجرة المسلمين إلى أمريكا تفاديا لهجمات إرهابية محتملة، وأوضح أن القرار لا يتعلّق بنظرة عنصرية تجاه المسلمين فقط وإنما «لأحداث أكبر قدر من الفوضى بالمطارات».
وبعد صراع مع القضاء لعدة أشهر أقرت العدالة الأمريكية قرار ترامب بحظر السفر مطلع ديسمبر الماضي، كما تمكّن في الشهر ذاته من إلغاء قانون «أوباماكير» للرعاية الصحية على مستوى الكونغرس.
وأعلن ترامب مطلع جوان الماضي، انسحاب بلاده، من اتفاق باريس حول المناخ، بحجة حماية أمريكا وشعبها لكونه يضعف قدراتها الاقتصادية.
ولعلّ أخطر ما أقدم عليه ترامب، هو توقيعه لإعلان «الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الاسرئيلي وأمره نقل سفارة بلده من تل أبيب إلى المدينة المقدسة» يوم 06 ديسمبر 2017، منفذا أحد أبرز وعوده التي صاغها كصفقات مع ممولي حملته الانتخابية من اللوبيات الداعمة للصهيونية.
دبلوماسية من نوع آخر
اضطر موقع التواصل الاجتماعي الشهير «تويتر»، مطلع الأسبوع الجاري، لإصدار بيان رسمي، يؤكد فيه «عدم إلغاء أو تعليق حسابات رؤساء دول»، بسبب تصريحاتهم المثيرة للجدل، والمقصود من البيان هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي «هدّد باستخدام الأسلحة النووية» عندما تحدى زعيم كوريا الشمالية قائلا «زري النووي أكبر وأقوى من زرك وهو أكثر فعالية وكفاءة» واستهجن ناشطون هذا الخطاب العنيف.
ولا يتوقف ترامب، عبر حسابه الرسمي، عن نعت خصومه من رؤساء الدول ومستشاريه بالبيت الأبيض وحتى وسائل الإعلام بمصطلحات عامية بعيدة كل البعد عن اللغة الدبلوماسية، فقد وصف الزعيم الكوري الشمالي كيم جون أون بـ»رجل الصواريخ» و»المجنون».
وشنّ الرئيس الأمريكي هجوما عنيفا على مؤلف كتاب نار وغضب ومستشاره السابق ستيف بانون ووسائل الإعلام الأمريكية، وقال عن وولف أنه «كاذب ومجنون»، وعن مستشاره السابق ستيف بانون «أنه فقد وظيفته وعقله أيضا»، وعن القنوات الإخبارية أنها «كلاب ضالة»، ووصف غريمته هيلاري كلينتون بـ»البلهاء».
المال ورقة ضغط وعقاب
في ردّه على تشكيك الصحفي مايكل وولف في قدراته العقلية لحكم بلد بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، قال ترامب مدافعا عن نفسه «لقد درست في أكبر المعاهد الأمريكية وكنت متفوقا، وجمعت آلاف المليارات وأسست شركة ناجحة وفزت بالانتخابات الرئاسية من أول محاولة، هذا لا يعني أنني ذكي وحسب وإنما عبقري ومتزن ..بل عبقري جدا».
وكلمة «المليارات»، تصدرت دون شك القاموس اللغوي للرئيس الأمريكي سواء خلال حملته الانتخابية أو بعدها، إذا يربط كل شيء وبشكل صريح بالمال والصفقات محاولا التباهي بقدراته العالية في مجال الأعمال وإمكانية استغلال ذلك في خدمة المصالح العليا لأمريكا.
وفي أكبر زيارة له إلى الشرق الأوسط وبالضبط إلى المملكة العربية السعودية، منتصف ماي 2017، أين لقي استقبالا تاريخيا، أصدر ترامب تصريحا غريبا لم يكن بمستوى القمة العربية الإسلامية - الأمريكية.
وقال ترامب بعد عودته إلى أمريكا مغردا «عدت لكم بمئات المليارات من الدولارات من الشرق الأوسط، والتي ستعني المزيد من الوظائف .. الوظائف.. الوظائف!»، في إشارة إلى الاتفاقيات التي أبرمها مع الجانب السعودي والتي ناهزت 350 مليار دولار.
وحتى عندما أعلن انسحابه من اتفاق باريس حول المناخ، برّر ترامب قراره قائلا: «الدول نفسها التي تطلب منا البقاء في الاتفاق هي الدول التي تكلف أميركا تريليونات الدولارات من خلال ممارسات تجارية قاسية وفي كثير من الحالات مساهمات ضعيفة في تحالفنا العسكري المهم».
وتحوّل المبدأ الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دعامة رئيسية لسياسته (أمريكا أولا)، إلى شعار «إدفع مقابل حماية أمريكا»، فقد سلم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال زيارتها له بالبيت الأبيض في مارس 2017، فاتورة بقيمة 300 مليار دولار كديون لحلف الناتو، متهما البلدان الأعضاء فى حلف شمال الأطلسى، بالإخلال بالتزاماتها المالية على حساب الولايات المتحدة الأمريكية.
حتى على الصعيد الدولي
هوس الرئيس الأمريكي بالمال، تأكد أيضا على مستوى العلاقات الدبلوماسية لأمريكا بباقي دول العالم، إذ بات يلجأ إليه كورقة ضغط على الدول لتسير في فلك سياسته أو كأداة عقابية على مواقفها المعارضة له.
وخلال جلستي مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة التي دعت إليها الدول العربية والإسلامية لإلغاء قراره بشأن القدس، لجأ ترامب مجددا للتلويح بسلاح الأموال في وجه كل من يصوت ضد أمريكا وقال: «إنهم يأخذون مئات الملايين من الدولارات وربما مليارات الدولارات ثم يصوتون ضدنا. حسنا، سنراقب هذا التصويت. دعوهم يصوتون ضدنا. سنوفر كثيرا ولا نعبأ بذلك».
وفي أول تغريدة له بمناسبة العام الجديد شنّ ترامب هجوما عنيفا على باكستان، قائلا: «إن الولايات المتحدة أعطت باكستان أكثر من 33 مليار دولار من المساعدات في السنوات الـ15 الأخيرة، في حين لم يعطونا سوى أكاذيب وخداع معتقدين أن قادتنا أغبياء».
وأعلنت الخارجية الأمريكية في 04 جانفي الجاري وقف المساعدات المالية عن اسلام آباد تنفيذا لتهديد ترامب، فيما اعتبرت صحيفة الواشنطن بوست الخطوة بأنها خطأ فادح.
ولم يتوقف الرئيس الأمريكي عند هذا الحدّ، حيث ألمح إلى وقف المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية إذا لم تعد للمفاوضات، وغرد على تويتر «نحن ندفع للفلسطينيين مئات ملايين الدولارات سنويا ولا ننال أي تقدير أو احترام. هم لا يريدون حتى التفاوض على اتفاقية سلام طال تأخرها مع إسرائيل»، مضيفا «بما أن الفلسطينيين أصبحوا لا يريدون التفاوض على السلام، فلماذا ينبغي علينا أن ندفع لهم أيا من هذه المدفوعات المستقبلية الضخمة؟».
ولم يسجل التاريخ، أن تعامل رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، بهكذا طريقة في قيادة البلاد وتعزيز نفوذها في الساحة الدولية، حيث اتخذ كافة الرؤساء على اختلاف انتماءاتهم الجمهورية أو الديمقراطية المبادئ الأمريكية «الحرية، الديمقراطية والعدالة»، كأداة للحكم والتحكم في خيوط السياسية بمستوى عال من الدبلوماسية وتنويع أوراق الضغط (التدخلات العسكرية، العمل الاستخباراتي والضغط الدبلوماسي).
عزلة وتراجع
تحمّس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بشكل مفرط في دعم الاحتجاجات التي شدهتها المدن الإيرانية مطلع السنة الجديدة، وعبر عن مساندته الكبيرة للمتظاهرين ضد الحكومة الإيرانية.
بعد أسبوع، أعلن الحرس الثوري الإيراني إخماد الاحتجاجات، ولعلّ لترامب فضل كبير في ذلك، حيث أدى دعمه المفرط للمتظاهرين إلى تقوية الحجة لدى الحكومة الإيرانية لتأكيد التدخل الأجنبي في تأجيج الوضع من جهة، كما أنه لا يملك أدنى مصداقية داخل إيران من جهة أخرى، خاصة وأنه معروف بمواقف معادية للدول الإسلامية.
خاب ظن ترامب من تلك المظاهرات، وتواصل تهاطل الهزائم الدبلوماسية على رأسه داخل قبة مجلس الأمن الدولي، بعدما انفض الاجتماع الذي دعت إليه أمريكا حول الأحداث التي شهدتها إيران دون أي قرار بل وتحوّل إلى انتقادات لاذعة للدبلوماسية الأمريكية التي تدخلت بشكل فاضح، في قضية داخلية لا تشكل خطرا على السلم والأمن الدوليين.
وقبل هذا، وبالضبط في 18 ديسمبر الماضي، اضطرت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية بمجلس الأمن إلى استخدام حق الفيتو ضد قرار يدين اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للاحتلال الاسرائيلي بينما صادق 14 عضوا عليه.
وصوتت 123 دولة بالجمعية العامة للأمم المتحدة من أصل 193 دولة لصالح قرار يؤكد على رفض أية تغييرات على وضع مدينة القدس، غير آبهة بتهديد ترامب ووعيده.
وقالت السلطة الفلسطينية، إن الولايات المتحدة، باتت جزءا من الصراع التاريخي، ولم تعد مؤهلة لرعاية أية مفاوضات سلام مستقبلية بعد انحيازها الفاضح لصالح الاحتلال.
الشركاء الأوروبيون
ومنذ انتخابه، لم يحقّق ترامب أي انسجام في المواقف مع شركائه الأوروبيين، خاصة من جانب الفاعلين داخل الاتحاد الأوروبي، الذي رأوا فيه تهديدا لتماسك اتحادهم وقدوة للتيار اليميني المتطرف.
واستاء قادة أوروبا، من تصريحات ترامب بشأن مساهماتهم المالية في حلف الناتو وانسحابه الأحادي من اتفاق المناخ، وانتقدوا اعترافه الانفرادي بالقدس عاصمة للمحتل الصهيوني واعتبروا الخطوة تهديدا للسلام في الشرق الأوسط، ولم يشاطروه في أي من القرارات البارزة التي اتخذها من وصوله إلى سدّة الحكم.
لذلك تبدو الولايات المتحدة الأمريكية، في وضع مختلف اليوم، وباتت وحيدة في الساحة الدولية دون أدنى التفاف ودون زخم حولها، وهو وضع غريب لم يسبق أن تواجدت عليه، والأخطر من ذلك، أن العالم بات يراقب بذهول شديد ما يصدر عن ترامب من قرارات مفاجئة لا يمكن التحكم في عواقبها، فلا يمكن التنبؤ بتصرفات من يهدّد باستخدام الزر النووي، ويوافق على مخطط جهنمي ينهي به تواجد فلسطين من الخارطة بتواطؤ فاضح مع الاحتلال الاسرائيلي، ويدعم بشكل علني مظاهرات معارضة داخل دولة ذات سيادة.
ويبقى من الصعوبة بما كان إقناع الرأي العام العالمي بأن ترامب «متزن وعبقري جدا»، وإلا كيف يهدّد زعيم كوريا الشمالية ويشتمه في مرات عديدة، ويقول في مرات أخرى أنه يتشرف بلقائه.
وسيخضع الرئيس الأمريكي لفحص طبي شامل في 12 جانفي 2017، على خلفية تلعثمه خلال قراءته بيان الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الاسرائيلي.