تقاسم تجربة مكافحة الإرهــاب مـع إفريقيـا
حقّقت الدّبلوماسية الجزائرية التي تعمل في هدوء ودون صخب إعلامي استعراضي كما يفعله البعض، إنجازات هامّة خلال السنة المودّعة في الدفاع عن القضايا العادلة، وعدم المتاجرة ولا المساومة على أيّ من مواقفها السياسية النّابعة من نشاطها النّضالي الممتد إلى الثّورة التّحريرية، ما جعلها رمزا يحتذى به في العالم العربي، الإفريقي والدولي، وأكسبها احتراما وثقة كبيرين.
رغم التّعقيدات والظّروف المتشنّجة التي يعرفها العالم والمنطقة العربية على وجه الخصوص، فقد واصلت الآلة الدبلوماسية الجزائرية نشاطها، متشبّثة بمبادئها التي دافعت عنها عبر الأجيال لا سيما حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم التدخل في الشّؤون الداخلية للدول.
وساهمت تجاربها المكتسبة عبر السّنين والمصداقية التي أصبحت تحظى بها بين الدول في جعل مواقفها وأفكارها نموذجا لحل العديد من القضايا، خاصة ما ارتبط باستبعاد الخيارات العسكرية في حل الأزمات المتفجرة هنا وهناك، والاعتماد على الحلول السياسية السّلمية كونها أقصر الطّرق وأسلمها لتجاوز أي معضلة.
وفي هذا الاطار، سجّلنا جنوحا دوليا للخيار السّلمي في ليبيا، الذي ظلّت الجزائر ترافع لأجله مند بداية الأزمة، وهي إلى الآن تواصل بذل الجهود لإنجاحه حتى لا تسقط الشّقيقة الشّرقية في براثن صراع دمويّ داخليّ سيأتي على المنطقة بأسرها.
حلّ أزمات المنطقة أولوية
تعاطت الدبلوماسية الجزائرية ولازالت بآلية حكيمة مع الأزمات التي تشهدها دول الجوار والإقليم، من منطلق إدراكها بأنّ تداعياتها يمكن أن تطالها، حيث أصرّت على أنّ الحل الوحيد للمعضلة اللّيبية والأزمة في مالي يكون داخليا
وبمنظور إقليمي عبر الطّرق السياسية، خاصة بعدما أثبتت التّجارب كارثية التدخلات الخارجية والخيارات العسكرية.
وقد واصلت الجزائر في السنة المودّعة جهودها لمرافقة الإخوة اللّيبيّين في سعيهم وراء حل سياسي للأزمة في بلادهم عن طريق الحوار والمصالحة الوطنية، معزّزة بذلك دور الممثل الخاص الاممي غسان سلام، الذي طرح خارطة الطريق الجديدة لمساعدة اللّيبيّين على بلوغ برّ الأمان.
واحتضنت الجزائر في مناسبات عدة فرقاء ليبيا لإقناعهم بالجنوح إلى السّلام، كما شاركت في اجتماعات عقدت هنا وهناك حول ليبيا حرصا منها على عدم ترك المجال مفتوحا أمام ملهبي الحروب للزجّ بالشّقيقة الشرقية في أتون صراع دمويّ سيشعل المنطقة بأسرها، ورغم العراقيل والصّعوبات فالجزائر تعمل في صمت ودون ضجيج لتسوية الأزمة اللّيبية في أقرب وقت.
دعم السّلام في مالي ونصرة القضيّة الصّحراويّة
كما واصلت الدّبلوماسية الجزائرية دفع الحوار بين الإخوة في مالي من أجل تجاوز خلافاتهم ومباشرة تنفيذ اتفاق السّلم والمصالحة الوطنية الذي توّجت به الجزائر وساطة دامت أشهرا، وجنّبت من خلاله الجارة الجنوبية الوقوع فريسة أزمة دموية استغلّها الارهابيّون لبسط هيمنتهم على المنطقة.
وانطلاقا من مبدأ الدفاع عن القضايا العادلة في العالم، عزّزت الدبلوماسية الجزائرية دورها، وكثّفت جهودها لحماية القضية الصّحراوية من المؤامرات التي يحيكها الاحتلال المغربي والمتواطئين معه للاجهاز عليها.
وشهدنا في السنة المودّعة كيف وقفت الجزائر ومعها الدول المنتصرة لحق الشّعوب في الحرية وتقرير المصير، في وجه محاولات المغرب زعزعة مكانة الجمهورية الصحراوية في الاتحاد الافريقي، إذ تجلى بوضوح أنّ عودته إلى المنتظم القاري كانت مدفوعة برغبة جامحة في طردها منه، لكن السّحر انقلب على السّاحر، وتلقّى المغرب صفعات أليمة في مختلف الاجتماعات التي عقدها الاتحاد الافريقي وآخرها قمّة كوت ديفوار، إذ تمسّك الجميع بالجمهورية الصّحراوية عضوا مؤسّسا للمنتظم الافريقي، وجدّدوا التزامهم بمبدأ استقلالها.
مع فلسطين...
لا يؤمن الفلسطينيون بنزاهة موقف دولة في العالم من قضيّتهم مثل إيمانهم بنزاهة وصدق الموقف الجزائري منها، ففلسطين في وجدان كل جزائري، ودعم الدبلوماسية الجزائرية لها ثابت، وسيستمر إلى أن تقوم الدولة الفلسطينية.
والأكيد أنّ الجزائر التي لازالت بصمتها في القضية الفلسطينية راسخة سواء
في 1974 عند التعريف بها في الأمم المتحدة، أو في 1988، حيث تم إعلان قيام الدولة الفلسطينية على أرضها، ستواصل دعمها للشّعب الفلسطيني لمواجهة التحديات الصّعبة التي يواجهها، خاصة قرار ترامب الجائر.
التّعامل مع القضايا العربية بحكمة
كعادتها عندما يتعلق الأمر بالأزمات التي تشهدها الدول العربية الشّقيقة، فإنّ الجزائر تحرص كل الحرص على أن يكون موقفها محايدا، لكنها في ذات الوقت لا تقف موقف المتفرّج أو الذي يصطفّ مع هذا الطرف أو ذاك وهو يحمل بنزينا يرشّ به نزاعا أو مشكلة يمكن تسويتها في بدايتها.
فعندما نشبت الأزمة داخل البيت الخليجي في 5 جوان الماضي، جاء موقف الجزائر مخالفا للكثير من مواقف الدول التي سارعت إلى اتخاذ مكانها إلى جانب طرف على حساب آخر، وأبدت الكثير من الحكمة في التعاطي مع المسألة الحسّاسة على اعتبار أنها تدور بين أشقّاء لا يمكن أن يعيشوا في صدامات سياسية من جهة، ومن جهة أخرى لأن المنطقة مشبّعة بالأزمات والحروب والتحدّيات الأمنية، وهي في غنى عن خلاف جديد يمكن حلّه بالحوار.
موقف الجزائر من الأزمة الخليجية متجانس مع موقفها من الحرب في اليمن، إذ رفضت الانضمام إلى التحالف العربي، من منطلق أن دستورها يمنع مشاركة قواتها العسكرية خارج الحدود، ولأن عقيدتها السياسية تقوم على مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤون الغير.
خيارات أثبتت نجاعتها
كثيرون آخذوا الجزائر على موقفها من الأزمة السورية، واعتبروه منحاز للنظام، لكن الحقيقة أن انحياز الجزائر كان منذ البداية لسوريا البلاد والدولة والشعب، فقد رفضت الزجّ ببلاد الشام في دوّامة الحرب الأهلية التي يكون الجميع خاسرا فيها، باستثناء الذين يغذّونها بالسّلاح.
وصدحت منذ البداية بالحلّ السلمي، لكن أحدا لم يستمع إليها في ظل الضجيج الذي كان يحدثه مؤجّجو الحرب، ومضى الجميع يشحذ سكاكينه لنحر بلاد الشام، لكن وبعد أن تحقّق «خراب مالطا»، عاد الجميع ليرافع للخيار السلمي كطريق وحيد لإنهاء الأزمة السّورية.
تقاسم تجربة مكافحة الإرهاب مع إفريقيا
الذكيّ هو ذاك الذي يتعلّم من المآسي، والجزائر تعلّمت كثيرا ممّا عاشته في تسعينيات القرن الماضي، خاصة ما تعلّق بمكافحة الإرهاب، لهذا فهي تعمل على تقاسم تجربتها مع أفريقيا على وجه الخصوص، لأنها باتت تعاني أكثر من غيرها من هذه الظاهرة العابرة للحدود، وكثيرون يرشّحونها لتكون ملاذا للإرهابيين الفارّين من سوريا والعراق.
وفي هذا الاطار، احتضنت عاصمة الغرب الجزائري وهران قبل أسبوعين بالاشتراك مع مفوضية الاتحاد الافريقي ندوة رفيعة المستوى تحت عنوان:
«أجوبة حقيقية ودائمة في مواجهة الإرهاب: مقاربة إقليمية».
الاجتماع سعى إلى تحديد السبل التي من شأنها ضمان مكافحة فعالة ودائمة للإرهاب والتطرف، وكان فرصة للجزائر لتقاسم تجربتها في هذا المجال مع شركائها الأفارقة.
والنّتائج التي خلص إليها المنتدى سترفع إلى القمة الإفريقية المقبلة بأديس أبابا، التي ستنعقد مع أواخر جانفي المقبل.
كما احتضنت الجزائر في أكتوبر الماضي الاجتماع الإقليمي الأول للمنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب حول العلاقة بين الجريمة المنظمة العابرة للأوطان والإرهاب.
حصيلة هامة أنجزتها الدّبلوماسية الجزائرية الهادئة خلال السنة المودّعة، ونتائج فعّالة دعّمت الدور الجزائري الرّائد في حل الخلافات بين الدول سلميا، وهذا الدور يعدّ تقليدا قديما تمرّست عليه الدبلوماسية الجزائرية منذ الاستقلال، ونذكر على سبيل المثال اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران في 1975،
ودورها في تحرير الرّهائن الأمريكيّين بطهران سنة 1979، وتسوية النّزاع الإثيوبي الاريتري سنة 2000.