جدل سياسي غير مسبوق قائم حاليا عقب طرد داعش إلى غير رجعة من الرقة وهذا بين الولايات المتحدة وروسيا، وما ورد على لسان ترامب غير موجود في قاموس بوتين.. ونعني بذلك إثارة الشقّ السياسي من قبل الأمريكيين وهذه سابقة لم نقف عندها منذ اندلاع هذا النزاع الدموي، كون المبادرة كانت بحوزة الروس.. لا يعلو صوت فوق صوتهم.
الأمريكيون غابوا طيلة سنوات عن المنطقة، كما اعتادوا على استعراض عضلاتهم في بؤر أخرى، لكن هذه المرة بما يسمى بـ «قوات سوريا الديمقراطية» التابعة لهم في حين يسجل تخليهم عن «الجيش الحر» عندما انهار وتقهقر إلى الوراء وحلّقت محله «فصائل المعارضة» خاصة المتشدّدة منها، التي قادت العمل المسلح إلى غاية ما تعيشه اليوم، من انسحابات خلف الخطوط، فإلى أين يتوجّه هؤلاء ؟ وأين مستقرهم ؟
التهليل الأمريكي بإلحاق ضربة موجعة بداعش وإجباره على مغادرة هذه المنطقة، أثار حفيظة روسيا التي لم تهضم هذا التحوّل السريع في خريطة المجال الحيوي الذي كان تحق مراقبتها بشكل دائم ولا أحد كان يعتقد بأن قوات سوريا الديمقراطية قادرة على استرجاع كل هذه المساحة بالرغم من أن مصادر هذا التنظيم كشف بأنه ترك ٦٥٧ عنصر في ساحة الوغي، وخسر داعش ١٣٧٠ مسلح، ولم يترك الروس الفرصة تمر دون العودة إلى تذكير هؤلاء ومن يدعّمهم بأن نسبة ٩٢٫٦ ٪ من الأراضي السورية انتزعت من تنظيم الدولة الإسلامية، وتطهير ٢٠٠ هكتار بإزالة ٦٨٠٠ عبوة ناسفة بالرغم من هذا الحضور الروسي على الساحة غير أن ما حدث في الرقة لن يسمح به القادة العسكريون الروس، حتى لا يكون هناك شرخ في المسار الذي دشنه هؤلاء منذ أن وطأت أقدامهم هذا البلد.
في هذا السياق، يعتبر تصريح نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ربايكوف الذي وصف ما جرى بالرقة، بالخطوة الكبيرة في محاربة الإرهاب، أن بلاده تنطلق من ضرورة تطوير التعاون الوثيق، والشامل في مكافحة هذه الظاهرة، لتقليل التداعيات غير المرغوب فيها.
وهذا الكلام الصادر عن هذا المسؤول الروسي إنما يترجم حجم الخلافات العميقة بين البلدين بخصوص الوجود في هذا البلد، بشكل خفي لا يؤثر على علاقات البلدين بقدر ما يكون الميدان المقياس اللائق والمناسب، للكشف عن القدرة في احتلال المزيد من الأرض.
ففي كل مرة يكشف الروس بأنهم التقطوا صورا لأمريكيين نزلوا ضيوفا عند «الفصائل المتطّرفة» وكلما حصلوا على مثل هذه المعطيات يكشفون عنها مباشرة دون تردد للرأي العام الدولي.. وفي مقابل ذلك يسارع الروس لإدانة مثل هذه الاتصالات ويجدّدون دعوتهم لشريكهم بمحاربة جدية للإرهاب.. لكن لا حياة لمن تنادي الأمريكيون تمادوا في هذا النهج، اعتقادا منهم بأن مخالف لما يتبعه الروس، ورهانهم على قوات سوريا الديمقراطية أتي بثماره عندما أبعدوا داعش من الرقة، وما يزال شريط أحداث حلب في أذهان القيادات العسكرية الامريكية إلى درجة إبداء استغرابهم ودهشتهم بما يجري أمام أعينهم، من سحق كامل للمدينة ومن حالفه الحظ وكتب له العيش، طلب منه مغادرة البلدة رفقة المسلحين في حافلات إلى وجهات مجهولة.
وبالتوازي مع ذلك، فإن ما يسمى بـ «مناطق إزالة التوتر» لا يعترف بها الأمريكيون، وعرقلوا الروس فيما رهنوا عليه في جلب المنطقة الثالثة ألا وهي إدلب.. كل الأمال المعلقة على هذه الجهة ذهبت أدراج الرياح وبقيت مجرد «رغبات» لا يقدم عليها الأمريكيون من خلال الموالين لها من «فصائل» مادامت تعتبر ورقة من الأوراق الضاغطة المعمول بها.
ولا يفهم المتتبعون ماذا يعني قرار قوات سوريا الديمقراطية تسليم تسيير مدينة الرقة لمجلسها المدني، قصد تولي عملية إعادة الإعمار بكل هذه السهولة بعد الأرقام عن عدد ضحاياها عند دخول هذه المدنية، لن تهدى هكذا أو تعطى على طبق من ذهب لمن هبّ ودبّ بل الذين حرروا المدينة هم أصحاب القرار الحاسم في تشكيل هيئة تابعة لها، فمن الصعوبة بمكان الاعتقاد بأن أعضاءها من المدنيين بل هم عسكريون بزي مدني، وما نسمع من عند هؤلاء مجرد ذر الرماد في العيون. ومن جهة أخرى فإن وراء قوات سورية الديمقراطية، ترسانة خيالية من الدعم المادي الأمريكي الذي أوصلهم إلى تحرير منطقة محصّنة كانت حصنا منيعا لـ «داعش» ناهيك عن المستشارين العسكريين الأمريكيين الذين يوجهون الهجومات عن بعد.
وتبعا لهذا فقد حذّر التحالف الدولي من أن استرجاع الرقة لا يعني هزم الإرهاب، فالمعركة ما تزال متواصلة في هذا الإطار إلى غاية دحر داعش كلية. والرسالة هنا لها دلالات أخرى، لا تقف عند هذا الحدّ «بل أن الاستقرار ليس غدا» وهذا يؤدي حتما إلى القول بأن مشاريع التسوية الروسية تبدو مبتورة وعرجاء إن استمر العمل الانفرادي الأمريكي بدون تنسيق مع الطرف الآخر» وهذا الهامش المناوراتي الذي تركه الأمريكيون لأنفسهم لم يكن عفويا، أو ناجم عن سوء تقدير في قراءة الأحداث وإنما هدفه هو التراجع من أجل القفز إلى الأمام وما حدث في الرقة خير دليل على ذلك.
وحاليا، فإن الرقة فتحت للأمريكين شهية إعادة إثارة الملف السوري، «بأبعاده السياسية» وهذا ما جاء على لسان ترامب الذي طرح الخيار الدبلوماسي خلافا ما يسجل على الروس.
فأين موقع كل هذه السلسلة غير المتناهية من اجتماعات «أستانا» بالنسبة للأمريكيين؟ إلى حدّ الساعة أدبيات خطاب الأمريكيين لا يتناول تلك المحادثات وغائبين حتى على الحضور «خوفا من أي التزام يذكر».
وشغلهم الشاغل هو البحث عن إطار تفاوضي آخر يحمل وزن ما وقع في الرقة، وهذا ما يرفضه الروس لأن الطبعة توجد في مرحلتها الـ ٧ المقررة لاحقا بالرغم من أنها «غامضة» ولا يدري أحد ما يقع هناك بسبب تلك العبثية في الاتفاق على جدول الأعمال الذي تحدّده التصريحات بدل من الأطراف المشاركة «دي ميستورا» تجاوزته الأحداث ولم يعد قادرا على تسوية هذا النزاع مسموح له أن يناقش كل شيء ما عدا الشقّ السياسي لذلك ما يزال كل شيء يراوح مكانه وفي حلقة مفرغة.