جدّد قادة دول الاتحاد الأوروبي في ستينية التأسيس، تمسّكهم “بالوحدة الأوروبية” للصمود في وجه الزوابع التي تهدّد المجموعة بالتفكك، ولم يلغي تأكيد الوفاء لمعاهدة روما (1957) حالة الارتباك السائدة منذ أزيد من سنة، وبات الترقب والحذر الشديد خارطة عمل للتعامل مع التحديات المستعصية.
اختارت بلدان المجموعة الأوروبية قصرا يعود لعصر النهضة في العاصمة الايطالية روما، لعقد قمّة استثنائية للاتحاد الأوروبي، الأسبوع الماضي، وحرصت على رمزية المكان الذي شهد ميلاد الهيئة في الـ 25 مارس من سنة 1957، لتأكيد الثبات على عهد “الشراكة الاستثنائية والتقريب بين الشعوب”.
وأمام الضّربات التي يتلقّاها الاتحاد من الجهات الأربع، تبنّت الدول المؤثّرة إستراتيجية “هجوم معاكس”، استهدفت من ورائها التقزيم المعنوي لأعدائها وإظهار التماسك المتين رغم الهزات القوية التي تعرضت لها.
وتوّج البيان الختامي للقمّة بالتّأكيد على أنّ “الاتحاد واحد لا ينفصم”، وأن “أوروبا هي مستقبلنا المشترك”، وصرّح رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر: “يجب أن تطلق قمة روما بداية فصل جديد من أجل أوروبا موحّدة من 27 دولة”، في إشارة إلى تمزيق صفحة بريطانيا التي قّررت المغادرة.
وفي مقابل ذلك، تفرض التحولات العالمية التي حدثت بشكل متسارع على أعضاء الاتحاد الأوروبي، تحديات حقيقة لا تتوقّف مواجهاتها على إرادة القادة السياسيين وإنما بخيارات الشعوب عبر صناديق الاقتراع، خلال الانتخابات المنتظرة في أكثر من دولة، وكذا القدرة على مواجهة الدعاية الإعلامية التي تروج لأفكار “ شعبوية”، صادرة عن التيارات اليمينية وتجد كل الدعم والمساندة من قوتين قطبيتين هما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، اللتان تتقاسمان نفس القناعة بشأن أوروبا رغم تباين أهداف كل منهما.
ترامب... الحليف المثير للغضب؟
غادرت المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل أراضي الولايات المتحدة في الـ 17 مارس المنقضي “محبطة للغاية”، بعدما تيقّنت أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يريد التخلي عن أفكاره بشأن أوروبا، بدليل تسلمها من يده فاتورة بقيمة 375 مليار دولار كدين لحلف الناتو على بلادها.
وقال مصدر حكومي ألماني كشف المعلومة لصحيفة “صنداي تايمز”، أنّ “المحادثات التي جمعت ميركل بترامب مثيرة للغضب وأنه أراد من خلال الفاتورة إضعاف الطرف الآخر”.
ولاشك أنّ ترامب الذي جهر بدعمه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتوقعه لحاق دول أخرى بها، لم يكن يقصد من وراء طلبه إضعاف برلين، وإنما توجيه ضربة معنوية قوية للمجموعة الأوروبية من خلال ألمانيا التي تعتبر حجر الزاوية.
وفيما بدى للبعض أن ترامب الرئيس مختلف عن ترامب المرشّح، بعد تخليه عن الخطابات الاستفزازية وتهنئته في آخر مقابلة صحفية مطلع الأسبوع الجاري مع “الفاينانشل تايمز”، لما أسماه “بنجاح الكتلة الأوروبية في لمّ شملها بعد خروج بريطانيا”، لم يصدر منه ما يثبت تراجعه عن أفكاره، فمنذ اعتلائه الحكم بشكل رسمي رفض الحديث عن أيّة حسنة لاستمرار 27 دولة أوروبية تحت سقف الوحدة.
وما إصراره على دفع دول الاتحاد الأوروبي تعويضات مالية للناتو مقابل حماية أمن أوروبا، إلا دليل على رفضه الإبقاء على الحلف التقليدي بين بلاده والدول الأوروبية مجتمعة، فلا يريد الاستمرار في خوض حروب بالنيابة عنها على حساب الخزينة الأمريكية، إلى جانب رغبته في دفن الفكر الليبرالي الحر واختلاط الحضارات والتعامل مع كل دولة كاملة السيادة.
ويعود سبب اختلاف الرئيس الأمريكي مع الدول الأوروبية ككتلة، إلى رؤيته الخاصة لأمريكا ونظرته الانعزالية لمستقبلها بعدد محدود من المهاجرين واللاجئين، ولا يريد تلقي توبيخات ودروس أخلاقية تصدر عن أوروبا بشأن الانفتاح والتعايش المشترك والتضامن وتمازج الثقافات.
وسبق له أن انتقد سياسية أوروبا تجاه اللاجئين، مستهدفا على وجه الخصوص المستشارة الألمانية أنجيلا ميركلا قائلا: “إنّها سياسية رائعة ولكنها ارتكبت خطأ فادحا بسماح لدخول ذلك العدد الهائل من المهاجرين”.
وقبل صدور النتائج الصادمة للانتخابات الأمريكية، كان قادة الاتحاد الأوروبي يهونون من تنامي قوة أحزاب اليمين المتطرف داخل المجموعة، ويراهنون على وعي الناخبين لمواجهة ما يسمونه “الخطاب السخيف والمتطرف” لأمثال العنصر الهولندي خيرت فليدرز.
ليجدوا أنّ مثيل لوبان وفليدرز، بلغ كرسي الحكم في أعتى دولة في العالم، وأن قوة مناضلي الشعبوية والتطرف والعنصرية باتت حقيقة يجب التعامل معها بحذر وعلى جبهات مختلفة.
روسيا ... المستفيد الأكبر
الرئيس الروسي فلادمير بوتين، وخلال لقاء إعلامي أول أمس، ردّ على سؤال حول العقوبات الغربية على بلاده قائلا: “أنا أنطلق من أنّ تلك العقوبات لن تدوم إلى الأبد، وإذا أصبحت أبدية، فإنّ قيودنا ستكون إلى الأبد على تلك السلع التي نستطيع إنتاجها بأنفسنا إلى أسواقنا”.
وما هو معلوم، أنّ الخلاف بين روسيا والاتحاد الأوروبي وأمريكا لا يعود إلى الملف السوري، أو تبادل المنتجات الفلاحية أو النفطية، وإنما لصراع النفوذ والسيطرة على خط التماس المتمثل في أوكرانيا التي كانت أرض معركة ساخنة حسمها بوتين بالضربة القاضية عندما أعاد شبه جزيرة القرم إلى جناح بلاده سنة 2014.
ويكشف تاريخ الخلافات الطويلة بين روسيا والاتحاد الأوروبي وأمريكا، المبررات التي تجعل من الرئيس فلادمير بوتين “في قمة الارتياح من تفكك الكتلة الأوروبية وانشطارها إلى أجزاء مجزّأة”. فهو لا ينسى تجاهل أوروبا ورموز الفكر الليبرالي لحروب الأقليات التي نشبت داخل روسيا، وسعادتها الغامرة بتهاوي الاتحاد السوفياتي أواخر الثمانينات.
ومن مصلحة روسيا مواجهة كل دولة أوروبية على حدى بدل التعامل مع مجموعة كاملة تتقاسم التجارة والاقتصاد وتحرك الأشخاص، لذلك لم تبخل البنوك الروسية على دعم مرشحة اليمين الفرنسي المتطرف مارين لوبان ماليا، وتعاطف مع فوز ترامب الانعزالي على حساب هيلاري كلينتون التي كانت تحضر لخطة تنافسية شرسة مع بلاده.
صراع القيم والتّعصّب
ارتفعت مشاكل الاتحاد الأوروبي مع الأحزاب اليمينية المتطرفة بداخله والمدعومة من قبل أمريكا وروسيا، مع ارتفاع أعداد اللاجئين الفارين من نيران الحرب البشعة في سوريا والعراق والرافضين لحياة البؤس بإفريقيا جنوب الصحراء منذ النصف الثاني لسنة 2014، حيث وجد قادة الاتحاد الأروبي أنفسهم بين مطرقة القيم الإنسانية القائمة على التضامن والتسامح والاندماج والتعايش بين المجتمعات والحضارات التي ظلّت ترفعها كشعارات لعدة عقودة، وسندان الجماعات الداخلية المنغلقة على نفسها الرافضة للآخر.
كما انتهى الأمر بزعماء البلدان الأوروبية أمام ورطة أخلاقية ناتجة عن تداخلاتهم السافرة في شؤون الدول التي تنهشها الأزمة وعجزهم عن المساهمة في حلها، يقابلها غول الهجمات الإرهابية الذي غذى مخاوف اليمين المتطرف.
وبات المواجهة مفتوحة بين التمسك بالشعارات العالمية التي رفعت منذ الحرب العالمية الثانية، وسيادة الدول وخصائصها المجتمعية والدينية (المسيحية) للتعامل مع ما يراه العقلاء إرهابا لا دين له، وبين من ينعته المتعصّبون” الخطر القادم من بلاد المسلمين”.
وقد عبّر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عن تخوفه من بلوغ ترامب كرسي البيت الأبيض، بتوجيه رسائل متكررة إلى الشعب الأمريكي مفادها “علينا أن نتصدّى لكل من يهدد قيم أمريكا بالزوال”.
ويبدو أنّ القضاء الأمريكي استوعب الرسالة بشكل سريع عندما تصدّى لقرار دونالد ترامب حول منع استقبال المهاجرين من 7 دول إسلامية استثنى منها العراق فيما بعد، مستندة إلى قوة الدستور التي لا تعترف بالفرقات بين البشر مهما كانت.
ولا فرق بين ترامب الذي قال مدير حملته الانتخابية “أمريكا للبيض”، وبين مارين لوبان التي تنادي يوميا بطرد المسلمين وخروج بلادها فرنسا من الاتحاد الأوروبي لاستعادة استقلاليتها السياسية والمجتمعية.
الأمن والاقتصاد... سلاحا المواجهة؟
لم يجد قادة الاتحاد الأوروبي من الرد على خطابات التخويف والكراهية، سوى على التمسك بالقيم والتأكيد على “أهمية التلاحم في مرحلة تتسم بتنامي الظاهرة الإرهابية”.
وعكس القراءات التي يقدمها اليمين المتطرف لمواجهة الذئاب المنفردة التي تقوم بعمليات انتحارية، اعتبر وزراء دول المجموعة الأوروبية أن تفكّك كتلتهم سيضعف إستراتيجية مكافحة الإرهاب بسبب صعوبة تبادل المعلومات وتنسيق جهود الأجهزة الأمنية التي تعتمد حاليا قاعدة بيانات مشتركة تقريبا.
وفي الوقت الذي يسوق المتعصّبون للحد من حرية الأشخاص، تعتقد البلدان الأوروبية أن التنقل السلس ضمان لملاحقة المتورطين في الأعمال الإجرامية والإرهابية ويزيل الإجراءات المعقدة في حالة فرض تأشيرة خاصة بكل دولة.
وترى في تماسكها دعامة لانتعاش الاقتصاد ومواجهة الأزمات المالية المستعصية، إلى جانب التصدي لشبح البطالة وتوفير امتيازات تجارية كبيرة للمواطنين، هذه الامتيازات جعلت عدد واسعا من الإنجليز يخرجون للتظاهر ضد انسحاب بلادهم من الاتحاد الأوروبي شهر جوان الماضي.
لقد نجحت دول الاتحاد الأوروبي في الذكرى الستين أن تجدّد ثباتها على الوحدة، غير المواعيد الانتخابية المقررة في فرنسا وألمانيا وبعض الدول الأخرى، وانعكاسات سياسات بوتين وترامب يجعلها أمام مسلك شائك يعجّ بالمخاطر.