تساءل المبعوث إلى سوريا دي ميستورا عن غياب الولايات المتحدة عن الملف السّوري خلال جولات الحوار بأستانا، وما تبع ذلك من لقاءات جانبية تحضيرا لموعد جنيف المقرّر في غضون الأيام القادمة ريثما يستكمل توضيح الرّؤية فيما يتعلق بتركيبة الوفود المشاركة، وكذلك مضمون هذه المشاورات.
والابتعاد الأمريكي هذا، مبني على منطق آخر غير الذي يتبادر إلى ذهن المتتبّعين، عبّر عنه ترامب صراحة عندما أبدى نيّته في إقامة مناطق آمنة في سوريا إلى غاية انتهاء الأزمة بدلا من فتح أبواب الولايات المتحدة لأناس لا نعرفهم.
وهذا في حد ذاته جواب صريح على قلق دي ميستورا تجاه عدم حضور أمريكا إلى أستانا، وتخوّفه من تخلّفها عن المحطّة القادمة.
بالنّسبة لإدارة ترامب، فإنّ الولايات المتحدة ليست في حالة حرب في تلك المنطقة المترامية الأطراف، وعليه فهي غير معنية بأي مغامرة عسكرية قد تكلّفها ثمنا باهضا مستقبلا، فهذه البديهية السياسية في قراءة الأحدات تشير صراحة إلى قلب المعادلة باتجاه الحرص ضمنيا على الأمن القومي الأمريكي، هذا ما يفهم من وضع المناطق الآمنة وجعل تلك الجهة «غير آمنة» بدليل اشتعال الأوضاع في كل الجهات، واستغلّ البعض هذا الخلط في تأمين حدوده ونقل المعارك إلى المدن السّورية باسم مكافحة الإرهاب والإرهابيّين. وسقف التدخل في سوريا تقلّص تدريجيا إلى غاية اندثاره نهائيا، بالأمس فقط كان الحديث عن الحظر الجوي، اليوم تغيّر التوجه نحو توفير المناطق الآمنة لكل الذين فرّوا من الأعمال التّخريبية.
فما معنى المناطق الآمنة؟ هي الأقل ضررا من الحظر الجوي الذي أهلك ليبيا فيما سبق، لكن مفهومه غامض من النّاحية الإجرائية، فمن يشرف على إدارتها وتسييرها: الأمم المتحدة أم أمريكا؟ هذا من جهة ومن جهة ثانية من هؤلاء الأشخاص الموجودين في هذه المساحات هل هم سوريون أم من جنسيات أخرى وصفهم ترامب بـ «النّاس الذين لا نعرفهم»، وهذا الكلام له أكثر من دلالة إذا ما تمّ تحليله وفق النّسق الصّادر عن ترامب. ما يشـير إليه رئيس الولايات المتحدة بعد شهر من تولّيه هذا المنصب هو البقاء وفيا لسياسته المناوئة للمهاجرين، ومعنى ذلك أنّ مراقبة هؤلاء تكون بالصّيغة القبلية أي في عين المكان دون وصولهم إلى المطارات الأمريكية، وترامب يصر على هذه الطّريقة في كل مرة يجتر هذا الكلام أمام أنصاره ووسائل الإعلام.
وبهذا يكون الرّئيس الأمريكي قد انفرد بجزء من الملف السّوري ألا وهم المهاجرون الذين يقلقونه كثيرا، ودخل في صراع مع القضاة من أجل منعهم من دخول أراضي بلده، وتعهّد بأن يسقط ما أقرّه القضاة في بعض الولايات الأمريكية إن آجلا أم عاجلا.
وهذا المفهوم الرّاديكالي للأمن القومي هو الذي أدّى إلى كل هذا التّداخل عفوا التّعقيد في التّعامل مع المهاجرين، والصّفة الممسوحة عليهم هي أنّهم إرهابيون إلى إشعار آخر، والتّحقيق معهم أو التحري في أحوالهم لا يتطلّب أبدا الإتيان بهم إلى الأراضي الأمريكية وإنما العمل المطلوب ينجز خارج هذا البلد.
هذه هي رسالة ترامب من أبعاد «المناطق الآمنة»، ولا يهمّه ما يجري في أستانا أو جنيف لأنّ أولوياته مسطّرة مسبقا تعتمد على القاعدة الذّهبية بالنّسبة للأمريكيّين ألا وهي إبعاد الخطر عن أراضيهم وتركه في جهات أخرى من هذا العالم.
والدليل على ذلك أو ما يجب أن يفهمه دي ميستورا هو عندما عين الأمريكيون سفيرهم للمشاركة في أشغال حوار أستانا، من هنا يفهم بأنّ تقليص مستوى التّمثيل إلى تلك الدرجة يعني بأنّ ما يجري لا يهمّهم بتاتا وإنما سجّلوا حضورهم فقط، لذلك لا نستغرب إن غاب هؤلاء لاحقا. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنّ المبادرة اليوم توجد بحوزة الروس، في توجيه وإعادة تركيب المشهد السياسي في سوريا!؟ وفق رزنامة دقيقة نحن بصدد إنجازها دون أن يشعر بها البعض.
إعادة صياغة الأرضية السياسية في سوريا أرادها الرّوس أن تكون سورية - سورية، لذلك جمع كل الفاعلين في بناء تصور المرحلة القادمة على أسس جديدة، بدءاً بإعداد الدستور وإقامة المؤسسات، هذا الطّرح يختلف عمّا اقترحه دي ميستورا فيما سبق عندما حدّد ١٨ شهرا تبدأ بمرحلة انتقالية وتنتهي بالانتخابات مع تحييد رموز النّظام القائم، هذا غير قائم اليوم.
لا يمكن للأمريكيّين أن يركبوا القطار وهو يسير، هم يدركون أيما إدراك بأنّ الانضمام لهذا المسعى إنما يلحق بهم الأضرار المعنوية، ويقلّل من الأخذ بمقترحاتهم بعد أن أنجز الرّوس العمل المطلوب في هذا الشّأن، وأرادوا أن يبقى الوضع على حاله في سوريا، ماعدا البعض من الرّوتوشات بمحاولة إقناع المعارضة بأن تتحوّل إلى شريك في العملية السياسية، وتتخلّى عن العمل المسلّح.
لذلك فإنّ التّوازن في المفاوضات التي يبحث عنه دي ميستورا لا يجده اليوم لأنّ الميدان تتحكّم فيه روسيا، تركيا وسوريا، الأمريكيّون غير موجودين، حتى الأمم المتحدة بعيدة كل البعد عمّا يقع، لذلك فإنّ السّند المفقود يعد عائقا بالنّسبة للمبعوث الأممي، وهذا عندما تجاوزته الطّروحات الحالية، ولاحظ غياب الانسجام المتعوّد عليه عند الأمريكيّين في التّنسيق بينهما، لذلك استاء لوجوده وحيدا.