القارة عمق استراتيجي للجزائر يجب استثماره إقتصاديا وثقافيا
يرى الدكتور جمال منصر أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ڤالمة، أن إفريقيا عبرت عقود العنف والاضطرابات الدموية المروّعة، وهي تتّجه نحو الاستقرار رغم بعض الأزمات التي تواجهها هنا وهناك.
ويؤمن الدكتور منصر وهو يستعرض لجريدة “الشعب” الوضع الإفريقي،بأن السمراء هي قارة المستقبل والتحديات التي تعترضها، لا يمكن مواجهتها بجهود منفردة وإنما تحتاج إلى تنسيق وعمل جماعي بعيدا عن التدخل الخارجي المبني دائما على المصالح.
توقّف الجامعي عند المكانة المتميّزة التي تحظى بها الجزائر إفريقيا، داعيا إلى ضرورة استثمارها في مجالات عدة منها ما توصف بالدبلوماسية الاقتصادية والثقافية. كل التفاصيل في هذا الحوار الذي أجرته معه “الشعب”.
”الشعب “ - رغم بعض الأزمات، فإن وضع إفريقيا حسب المراقبين السياسيين هو أحسن من العقود الماضية، حيث كانت مرتعا للحروب الأهلية المدمرة وحملات الإبادة و المجازر في أكثر من دولة، فما قولكم؟
الدكتور جمال منصر: لعلّ أهم ما يميز إفريقيا، أنها ليست فضاء جيوبوليتيكيا متجانسا تنطبق عليه نفس الأحكام، ويخضع للقياس بنفس المعايير. بعض الدول نجحت في ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية، ما ساعدها للتفرغ لمسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية ونشر التعليم الذي له دور كبير في نشر ثقافة التعايش والسلم، وبعضها الآخر، لا زال يعاني من مأزق بناء الدولة الوطنية، مما جعلها تفقد تدريجيا احتكارها المشروع للعنف، ووصل بعضها إلى حدّ الانهيار كما حدث في الصومال أو الانقسام كما حدث في السودان.
مع ذلك يرى المهتمون بالنزاعات أن إفريقيا عبرت العقود الأعنف، وأنها تتجه مع مطلع الألفية الجديدة إلى وضع أكثر استقرارا في جل مناطق القارة.
القول هذا لا ينفي أن الأمن الوطني والإقليمي في القارة لا زال يعاني العديد من التهديدات ويواجه الكثير من التحديات الحقيقية المتنامية، التي تستحيل مواجهتها بجهود منفردة وإنما تحتاج إلى تنسيق الجهود والعمل جماعيا وفق رؤى واضحة، لمواجهة هذه المخاطر والتحديات، كمعضلة الإرهاب، وتخفيض نسبة وفيات الأطفال، وتحسين الأوضاع الصحية للنساء الحوامل، ومحاربة الأوبئة على غرار الإيدز والإيبولا، وتحقيق تنمية مستدامة محافظة على البيئة.
السلام خيار المستقبل
ظاهرة صحية نسجلها في الأعوام الأخيرة، وهي الخيارات السلمية التي تسارع الدول التي تعاني الأزمات إلى تبنيها، كما حدث في مالي الذي اختار المفاوضات لحل مشكل الشمال، وجمهورية افريقيا الوسطى وأيضا ليبيا، وحتى انقلاب بوركينافاسو لم يتبع بانزلاق أمني فهل هذا يعني أن إفريقيا تعلمت من تجاربها المريرة؟
نعم إفريقيا تعلمت من تجاربها، وكذلك من تجارب الآخرين، وبدأ الأفارقة يدركون أن الكثير من القضايا والمسائل الخلافية يمكن أن تسوّى سلميا، وأن فاتورة النزاعات العنيفة لم تعد مقبولة على كل المستويات، والسّلم قبل أن يرسخ كممارسة سياسية يجب أن يكون قناعة ثقافية وحضارية، وطريقة معالجة الأزمة في مالي أثبتت بما لا يدع مجالا للشك بأن افريقيا تلميذ نجيب يستوعب الدروس جيدا وقادر الذهاب إلى الأبعد في البناء الوطني اعتمادا على الذات.
على ذكر مالي ما قولكم في عملية السلام الجارية هناك ودور الجزائر فيها؟
ما تتبناه الدبلوماسية الجزائرية وتدافع عنه في تعاملها مع الملف المالي هو أن الوضع في هذا البلد لا يحتاج فقط إلى حفظ السلم بمفهومه التقليدي، وإنما هو بحاجة إلى تطبيق ما أصبح يعرف “ببناء السلم” الذي يقوم على اعتماد معايير طويلة المدى تهدف إلى وضع ميكانيزمات لإدارة سلمية للنزاع، مع إظهار الأسباب البنيوية المسببة له، لذلك حرصت الدبلوماسية الجزائرية على تبني مجموعة من الإجراءات والترتيبات التي بدأ تنفيذها في مرحلة ما بعد انتهاء هذا النزاع، بهدف ضمان عدم النكوص أو الانزلاق إلى العنف مجدداً، وذلك بإحداث تغيير في بعض عناصر البيئة التي شهدت التوتر لخلق بيئة جديدة من شأنها تقليل المتناقضات التي دفعت إلى الاصطدام وتعزيز عوامل الثقة بين أطرافه وأيضا القدرات الوطنية على مستوى الدولة من أجل إدارة نتائج النزاع ولوضع أسس التنمية المستدامة التي تعتبر مفتاحا للسلم في مالي وفي المنطقة بأسرها.
الحوار شرط أساسي
لتسوية أزمة ليببا
ليبيا مازالت تبحث عن الخلاص والحوار يتعثر بها، فكيف تنظرون إلى
واقع هذه الأزمة ومستقبلها؟
ربما يكون العنوان العريض الذي يصلح لتوصيف الوضع الليبي الراهن “العنف والفوضى”، بعد أن باتت أحداث القتل
والاختطاف والاحتجاز لمواطنين ليبيين،وحتى لموظفين دوليين وأجانب، تتم بوتيرة معتادة، ومحاصرة واستهداف المؤسسات الحيوية، وتعطيل الموانئ تجرى بشكل يومي، وبذلك تبدو التقديرات متشائمة إزاء مستقبل العملية السياسية في ليبيا، وإمكانية الوصول لدولة مؤسسات قوية تفرض إرادتها بقوة القانون، وتحقق الأمن والاستقرار، وتسير للأمام لا للخلف، فعلى خلاف نماذج أخرى كتونس مثلا، ليس المطلوب فقط إصلاح الهياكل السياسيّة والاقتصادية ومؤسسات الدولة في ليبيا أو تعزيزها وحسب، بل يجب بناؤها من العدم أيضاً.
وفي ظل مثل هذه التحديات، يبدو مستقبل ليبيا رهنَاً بقدرةِ زعمائها الجدد على مجابهة متطلبات حاسمة في مختلف الميادين خاصة منها الأمنية والسياسية، من خلال تعبئة فرص التعاون، لاسيما مع جيرانها في مختلف المجالات خصوصا في الجانب الأمني والحد من انتشار السلاح، وتظهر في هذا المجال الجزائر كشريك مهم على السلطات الليبية أن تلتفت إليه.
بعيدا عن الأزمات إلى أين يمضي الاقتصاد الإفريقي اليوم؟
من المتوقع أن ينمو اقتصاد أفريقيا بنسبة 5% سنة 2016، بينما كانت النسبة بحدود 3.5% عام 2013 و3.9% عام 2014. ومع ذلك لا يزال يوجد واحد تقريبا من كل اثنين من الأفارقة، يعيش في فقر مدقع، ويظل مبدأ عدم المساواة في الدخل فيها من بين أعلى المعدلات في العالم.
وكما تشير التقارير المتخصصة، فإن نمو القارة في المستقبل سيكون محكوما بالتزايد السكاني المطرد فيها، إذ يتوقع أن يبلغ تعداد الأفارقة نحو المليارين في السنوات الخمس والثلاثين المقبلة.
وحسب الخبراء، فإن الطفرة السكانية في أفريقيا قد تعيد سيناريو الطفرة الاقتصادية في كبريات اقتصاديات آسيا مثل الصين والهند.
ويبدو أن أفضل مسار لتقدم إفريقيا يكمن في تحويل النمو المرتفع إلى نمو مستدام وشامل من خلال رفع الإنتاجية في جميع قطاعات الاقتصاد وخلق فرص عمل جيدة.
حضور الجزائر الإفريقي قوي لم يوظف اقتصاديا وثقافيا ما العمل؟
إفريقيا عمق استراتيجي للجزائر التي تحظى بمكانة متميزة لدى غالبية دول السمراء، لهذا على بلادنا أن تستثمر هذه المكانة في مجالات أخرى كالمجال الاقتصادي، وذلك من خلال زيادة نسبة الارتباط التجاري بدول القارة التي يمكن أن تكون سوقا واسعا للمنتوجات الجزائرية، كما يمكن للجزائر أن تعزز مكانتها في افريقيا من خلال ما بات يعرف بالدبلوماسية الثقافية.