تمرّ أربع سنوات وثمانية أشهر على اندلاع الأزمة السورية التي أخذت منذ الأول أبعادا إقليمية ودولية فحوّلتها إلى ساحة اقتتال بدأ بين أبناء الوطن الواحد قبل أن يتطور إلى حرب دخلتها أطراف خارجية، من خلال جماعات إرهابية مدجّجة بالسلاح وأخرى تمثل مصالح لدول تسعى لإعادة ترتيب المنطقة وتقسيمها طائفيا ومذهبيا.
بالطبع أول المستفيدين من احتراق سوريا وتشتيت شعبها الكيان الصهيوني، الذي يستغل الظرف لتنفيذ مخططات تهويد القدس ومواصلة برنامج إبادة الشعب الفلسطيني ضمن خطة تقتيل ممنهجة تنفذ يوميا فيما العالم منقسم بين منكفئ على نفسه ومنشغل بالتوجهات التي تسلها المنظومة الدولية. وبعد أسبوعين على الأقل يعاود أطراف مؤتمر فيينا الذي انعقد الجمعة الأخير (30 أكتوبر 2015) اللقاء لتعميق ورقة العمل التي وردت في البيان الختامي، والذي حقق تقدّما يمكن البناء عليه لإيجاد مخرج ضمن المبادئ والقواعد المؤسسة للقانون الدولي، والمتضمنة في ميثاق الأمم المتحدة وأبرزها حماية الدولة وحق الشعوب في تقرير مصيرها ومكافحة الإرهاب.
حقيقة أثمر مؤتمر فيينا بقيادة روسيا والولايات المتحدة بالتنسيق مع الأمم المتحدة، وبحضور دول فاعلة في الملف السوري نتائج لها دلالات أبرزها التأكيد على وحدة سوريا، وبالتالي رفض أي مشروع للتقسيم واعتماد خيار الحل الدبلوماسي للأزمة، وبالتالي استبعاد اللجوء إلى العمل العسكري واسع النطاق الذي يقود حتما إلى حرب مفتوحة قد تحرق أطرافا أخرى. وقد أكّد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني مجدّدا أنّ الحل الدبلوماسي أفضل سبيل لتجاوز المرحلة الراهنة، ومن ثمة قطع الطريق أمام الجماعات الإرهابية التي تسعى إلى إثارة وتكريس الفوضى في المنطقة وتهيئة الأرض لدعاة “سايس بيكو 2”.
لكن لا يزال بالمقابل الخلاف بين محاور اجتماع فيينا بشأن مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد ودوره في المسار الدبلوماسي المستقبلي، وفيما يطالب محور واشنطن برحيله وعدم مشاركته في المسار، يؤكد محور موسكو أن المسألة تتعلّق بالإرادة الصريحة والسيدة للشعب السوري الذي يحسم الجدل عن طريق انتخابات ديمقراطية يشارك فيها كافة أبناء الشعب السوري دون إكراه أو إقصاء، ويتماشى هذا مع ميثاق الأمم المتحدة الذي يعتمد مفهوم كيان الدولة.
ولعل المثال القائم في العراق نسبيا وليبيا واليمن يقدّم الصورة القاتمة لأوطان أزيلت فيها الدولة بالتدخل العسكري الأجنبي، وتشجيع وصول منظمات تعتمد الإرهاب والعنف المسلح إلى مقاليد السلطة، وامتدت تأثيرات الوضع الجديد إلى أوروبا جراء الهجرة والنزوح.
هذا الوضع المخيف جراء حلول عصابات محل الدولة بكل ما يعتريها من عيوب ونقائص قابلة للمعالجة وضع سوريا بين فكي كماشة، فكها الأول يريد انتزاعها لصالح الجماعات الإرهابية التي تسيطر على الوضع في الأرض بقيادة “تنظيم الدولة”، والفك الثاني يريد انتشالها من قبضة الدمويين الذين يهيمنون على مختلف التنظيمات المصنفة “معتدلة”، والتي يرتقب أن تدعى للمشاركة في الديناميكية السياسية في وقت أصبح من الصعب التعريف بهوية المعارضة المعتدلة، التي لديها قناعة بالحل الدبلوماسي ولا تحمل في برنامجها أي توجه للانتقام واجتثاث من يعارضها، ولا تتردد في انتهاج المصالحة لطيّ ملف مأساة لم يكن ليصاب بها الشعب السوري لو لم يتسلّل إلى صفوفه غرباء عن الشام. لكن لا يزال الوضع في الميدان ملتهبا ويختلف كلية عن أجواء فيينا، خاصة مع دخول جماعات مرتزقة مسلّحة وإرهابية وأخرى تعمل لحساب الكيان الصهيوني مرحلة جديدة في ارتكاب جرائم يندى لها جبين الإنسانية، آخرها وضع عسكريين أسرى وعائلتهم في أقفاص كدروع بشرية لمواجهة الهجمة التي يشنّها الجيش السوري والمقاومين من أبناء الشعب السوري، الذين يتمسّكون بحرية بلدهم ورفض الانسياق أمام إرادة عصابات تدفّقت إلى الشام من شتى بقاع العالم، بما في ذلك من أوروبا نفسها التي تعلن دول منها مواقف غامضة بين رفضها للإرهاب وتمسّكها بتدمير مكوّنات الدولة السورية.
إنّ جلوس وزير الخارجية الأمريكي كيري ونظيره الروسي لافروف جنبا إلى جنب للنظر في إمكانية الحل مؤشر للتدليل على أنّ الدبلوماسية قادرة على فعل المستحيل “كونها فن الممكن” أمام حجم وقوة العنف المسلح الدائر رحاه في مدن وقرى كانت قبل اندلاع الأزمة واحات للعيش الهادئ ووجهات للسياح يطبعها التسامح والإخاء بين أفراد الشعب الواحد والمتنوع ثقافة وانتماء وعقيدة. ويمكن للرّجلين إذا ما تغلّبت الحكمة وروح المسؤولية تجاه الشعوب والعالم برمّته تسطير الطريق الدبلوماسي بتحديد الهدف المشترك بإنهاء أمر التنظيمات الإرهابية، وتهيئة المناخ للشعب السوري المغلوب على أمره ليقرّر مصيره بانتخابات غير مشروطة ولا إقصاء لأحد فيها احتراما للسيادة الوطنية، ولعل أفضل مخرج أن تكون هناك مرافقة لبناء التعددية وفقا لتقاليد وقيم البلد.