توقفت الخبيرة في الشؤون الأمنية والعلاقات الدولية الأستاذة رتيبة برباش عند الاعلان عن تشكيل حكومة التوافق في ليبيا،وقالت بأنها جاءت كثمرة لجولات عسيرة من الحوار احتضنت بعضها الجزائر في الرّبيع الماضي. وأوضحت السيدة برباش الأستاذة في العلاقات الدولية والعلوم السياسية بجامعة الجزائر لـ “الشعب”، أنه لا خيار أمام الليبيين سوىّ تحقيق الوحدة التي من شأنها أن تخلق الاستقرار السياسي والاقتصادي والامني، وحذّرت من أن التأخير في تشكيل حكومة الوفاق سيؤدي إلى إطالة أمد معاناة الشعب الليبي ويفيد الإرهابيين الذين يستغلون الفوضى لتوسيع نفوذهم وتمديد إجرامهم.
كما عرّجت الخبيرة على التداعيات الرهيبة للأزمة الليبية على المنطقة،وخلصت الى ان الحل السياسي ضروري لحلحلة المعضلة الامنية وعودة الاستقرار الى ليبيا بعد أربع سنوات من العنف.
«الشعب” راهنت الجزائر على الحل السلمي في ليبيا، واقتنعت المجموعة الدولية بهذه المقاربة، فما حظوظ نجاح الجهود الاممية في حلحلة الأزمة الليبية التي ألقت بظلالها الداكنة على المنطقة بأكملها؟
رتيبة برباش: باعتبار الجزائر من الدول المجاورة لليبيا فهي تتأثر بما يحدث فيها من عنف وصراع متواصل وهجمات إرهابية تؤثر كذلك على أمن المنطقة واستقرارها.
لقد سعت الجزائر كطرف اقليمي وكبلد مجاور وشقيق الى ايجاد حل عاجل للازمة الليبية وذلك بتبني مقاربة سلمية بدل الحل العسكري، من خلال تقديمها لمبادرة سياسية تتمثل في استضافتها لجولتين من الحوار بين الاطراف المتصارعة في ليبيا في شهر مارس وافريل 2015.
وهدفت الجزائر من خلال مبادرتها هذه الى جمع فرقاء ليبيا حول طاولة حوار واحدة لوقف الاقتتال والوصول الى توافق على خارطة طريق تتضمن حلا للازمة، وتمنع الاحتكام إلى السلاح لحل الخلافات، وتسحب ذرائع التدخل العسكري الاقليمي والدولي في ليبيا، وتقود الى بناء مؤسسات الدولة وقطع الطريق على تمدد وانتشار فكرة الجماعات المسلحة حتى لا تتسرب عبر الحدود الى الجوار، وتشكيل منظومة اتصال ودعم، وقيام سلطة مركزية تحتكر حيازة السلاح وتمنع تدفقه الى المحيط .
لقد انطلقت الجولة الاولى من الحوار في مارس الماضي بمشاركة العديد من الاحزاب والسياسيين الليبيين الذين رحبوا بلقائهم في الجزائر تحت رعاية الامم المتحدة التي تلقفت المقاربة السلمية الجزائرية ودعّمتها.
وفي جولة الحوار الأولى المنعقدة يومي 10 و11 مارس 2015 أكد وزير الشؤون المغاربية والاتحاد الافريقي والجامعة العربية السيد “عبد القادر مساهل”، “أن قضية ليبيا تسلك الآن مسارا سياسيا لحلها عن طريق الحوار بين كل الأطراف هناك وهو أمر هام جدا” وحدّدت الجولة ثلاثة محاور أساسية، تتعلق الأولى بعرض دراسة وثيقة اعدتها الامم المتحدة بهدف ايجاد حل سلمي سياسي شامل للازمة في ليبيا، والمحور الثاني يتعلق بمتابعة الاعمال المنجزة من طرف مجموعات العمل الاخرى كالبرلمانيين والمجتمع المدني والجماعات المسلحة، أما المحور الثالث فتناول دراسة الوضع العام في ليبيا الذي يعد مقلقا بسبب استعمال الاسلحة وتصاعد العنف.
أما الجولة الثانية من الحوار الوطني الليبي فعقدت يوم 13 أفريل 2015 بالجزائر العاصمة تحت اشراف الامم المتحدة أيضا،وخصّصت لمناقشة التقرير النهائي الهادف الى إيجاد حل سلمي لهذه الأزمة، وتغليب المصلحة العليا للشعب الليبي وتوحيد الجهود لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية.
بالرغم من كل الجهود المبذولة من طرف الجزائر لإيجاد حل سلمي وسياسي لحل الأزمة في ليبيا، الا أن هذا الهدف لم يتحقق على ارض الواقع واستمر التدهور الأمني سيّد الموقف، كما استمر التمزق السياسي والانهيار الاقتصادي وهذا ما جعل البعض يشكك في نجاعة الخيار السلمي ويطرح فكرة التدخل العسكري التي عارضتها الجزائر بشدة وعملت كل ما في وسعها للإبقاء على العملية السياسية التي يبدو بأنها أتت ثمارها من خلال مقترح تشكيل حكومة وفاق وطني.
أسماء في إدارة المرحلة الإنتقالية
على ذكر الاتفاق لتشكيل حكومة وفاق وطني الذي أعلنه المبعوث الاممي “برناردينو ليون” نهاية الاسبوع الماضي، ما قولكم حول هذا الانجاز وامكانية تنفيذه على أرض الواقع؟
على الرغم من ردود الفعل المعارضة لتشكيل حكومة وحدة وطنية في ليبيا وعلى رأسها المتشددين من الجانبين، الذين لازالوا يعتقدون بإمكانية تحقيق المزيد من المكاسب من خلال القتال، ورغم صراع الزعامة بين الحكومتين المتنافستين (حكومة طبرق المعترف بها دوليا وحكومة طرابلس، والعراقيل التي ظل المؤتمر الوطني العام يضعها رغبة في إجراء المزيد من التعديلات على الاتفاق الأولي، وبعد عام من الجهود الحثيثة والعمل مع أكثر من 150 شخصية ليبية من كل المناطق، أعلن المبعوث الاممي “بيرناردينو ليون” نهاية الاسبوع الماضي تشكيل حكومة وحدة وطنية، وهو الاعلان الذي ساندته كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وايطاليا وإسبانيا وبريطانيا وكل المجموعة الدولية التي دعت الى تنفيذه بسرعة.
وقد تم اقتراح الاسماء التي يمكن أن تدير الفترة الانتقالية في ليبيا برئاسة مجلس رئاسي وحكومة وحدة وطنية.
كما تم اقتراح إنشاء مجلس أعلى للدولة يترأسه “عبد الرحمن السويحلي” عضو المؤتمر الوطني، وحكومة وحدة وطنية يترأسها “فايز السراج” عضو مجلس النواب في طبرق وثلاثة نواب له.
والنواب الثلاثة لرئيس الحكومة هم: “أحمد امعيتيق” و«فتحي المجبري” و«موسى الكوني”، وهم واحد من الغرب، والآخر من الشرق، والثالث من الجنوب.
كل هذه الجهود اعتقد انها سوف تعطي ثمارها ولو على المدى البعيد، بحيث انه لا خيار امام الليبيين إلاّ تحقيق هذه الوحدة التي من شأنها ان تخلق الاستقرار السياسي والاقتصادي وحتى على المستوى الأمني، كما أن التأخير في تشكيل حكومة وحدة، لن يؤدي إلا الى إطالة أمد معاناة الشعب الليبي وهو يفيد الإرهابيين الذين يسعون لاستغلال الفوضى وعلى رأسهم تنظيم “داعش”.
الأزمة الليبية تتجاوز المعضلة السياسية الى المأزق الأمني فما هي خيارات اعادة الامن الى ليبيا خاصة ان “داعش” الارهابي أصبح رقما صعبا في معادلة الفوضى السائدة هناك؟
الُمعضلة الأمِنية تقابلها في اللغة الإنجليزية The Security Dilemma، وفي مرحلة متطورة يعبُر عنها بمصطلح المأزق الأمني وليس المعضلة الأمنية، الأزمة الليبية أو المعضلة الليبية شهدت مراحل متطورة وخطيرة، حيث شهدت ليبيا مسيرات واحتجاجات مناهضة للنظام لكنها اختلفت عن الأحداث التي وقعت في كل من تونس ومصر، فالتطورات في ليبيا كانت اسرع واعنف واستعمل السلاح مند الايام الاولى خاصة بعد ما اعلن النظام السابق نيته في قمع التمرد والقتال حتى آخر قطرة دم.
وبعد انتهاء عمليات حلف شمال الأطلسي وسقوط نظام القذافي أصبحت ليبيا في وضع اخطر مما كانت عليه، فبعد ان كنا امام دولة فاشلة بكل المقاييس، أصبحنا أمام دولة منهارة تماما في كافة المجالات في ظل غياب مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وغياب سلطة مركزية تفرض نفسها وتدير شؤون البلاد وتضع خريطة العمل نحو مستقبل ديمقراطي لمرحلة ما بعد القذافي، خاصة بعد ظهور عدة كتائب وميليشيات مسلحة تدعي الشرعية والتبعية للدولة وترفض كل اشكال الإجماع والتوافق الوطني، وبالتالي تحولت “الثورة “الليبية الى ازمة دولية، مما صعب حلّها سلميا خاصة امام انتشار وتفريخ الجماعات الارهابية وترابطها مع اشكال الجريمة المنظمة، وأصبحت ليبيا ملاذا آمنا للتنظيم الدموي المسمى “داعش” الذي شكل توافقا مع فروعه في العراق وسوريا، وباتت تجارة المخدرات والأسلحة وتبييض الاموال، والهجرة غير الشرعية بمثابة الداعم المادي واللوجستيكي لتفعيل الأزمة الليبية واعطائها بعدا دوليا خطير.
اللاجئون: الأزمة تتفاقم
اليوم أدرك العالم بأن حل أزمة اللاجئين والمهاجرين تمر عبر حل الأزمتين السورية والليبية، فما وجه الارتباط؟
ما أفرزته الأزمتين الخطيرتين ،السورية والليبية من نتائج دراماتيكية على المستوى الامني، الاقتصادي، والسياسي، اسهم بشكل مباشر في تفاقم ازمة اللاجئين والمهاجرين.
وعلى الرغم من قدم الظاهرتين، الا أنهما برزتا بشكل ملفت للانتباه بعد انفجار الوضع بليبيا وسوريا، وقد اسهمتا في تهديد الامن القومي للعديد من الدول، وأصبحت الهجرة السرية عائقا للتنمية والتطور الاقتصادي والاستقرار السياسي والمؤسساتي في العديد من الأمكنة.
ويُقدر عدد المهاجرين الذين قضوا غرقا في البحر الأبيض المتوسط على مشارف أوروبا بـ22 ألفا منذ سنة 2000، بحسب المنظمة العالمية للهجرة .
وهذا الرقم لم يتم استيعابه بعد سنة 2015، التي من المنتظر أن تكون الأسوأ على الإطلاق من ناحية عدد الموتى غرقا على الحدود الجنوبية لأوروبا.
وبحسب المنظمة ذاتها والتي تقدر مبدئيا عدد الذين قضوا غرقا في المتوسط بـ2000 مهاجر منذ بداية سنة 2015 أي 30 مرة ضعف نفس العدد سنة 2014.
ويبدو ان الغرب بعد أن غرق في أمواج المهاجرين واللاجئين بدأ يعيد حساباته بخصوص خيارات الحل في سوريا وليبيا ويرافع للتسوية السلمية بهما، حيث نراه يحثّ الليبيين على الاسراع في تشكيل حكومة الوحدة، ويوافق على عملية سياسية ببلاد الشام لا تستثني الأسد.
كيف تنظرون إلى مستقبل ليبيا؟
شهدت معظم الدول في المنطقة العربية حراكا شعبيا بدأت ارهاصاته الاولى في الأيام الاخيرة من عام 2010، وبداية 2011، وتمثلت أسبابه في رفض الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم، الا أن التجربة الليبية لم تأخذ نفس المنحى الذي عرفته “الثورات” التي سبقتها، وهذا نتيجة للطابع الدولي الذي أخذته، وكذا العنف والنزاع المسلح الذي ميز المشهد السياسي والأمني منذ بداية الانتفاضة الشعبية في 17 فيفري 2011، بحيث تطورت الاحداث في ليبيا من السيء الى الأسوأ وهذا راجع لعدة أسباب منها التأخير في ملء الفراغ السياسي، بروز الجهوية والقبلية، ضعف المؤسسات السياسية والإدارية لمرحلة ما بعد القذافي، وانتشار الأسلحة والمليشيات، وبالتالي بقيت الفوضى وعدم الاستقرار في ظل استمرار المواجهات المسلحة وغياب سلطة تقوم بضبط الوضع الامني وتسترجع الأسلحة المنتشرة في كافة انحاء البلاد.
وهذا ما جعل ليبيا أمام مصير صعب ومعقّد، وعلى هذا الاساس يمكننا ان نستنتج ان مستقبل الوضع في ليبيا يبقى مرهونا بجنوح ابنائه الى السلام والالتزام بتنفيذ الاتفاق الذي توّج جولات الحوار دون تأخير لتفادي الخيار العسكري وعواقبه الوخيمة لأن ظاهره سيقوم على وقف الاقتتال وإعادة الأمن لليبيا، وباطنه سيكون تحقيق اهداف ومصالح القوى المتدخلة.