أشاد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الجزائر عصام بن نكاع وهو يتحدث عن الموعد التاريخي المقرّر ان تحتضنه عاصمة دولة مالي باماكو بعد غد الجمعة للتوقيع على الاتفاق النهائي للسلم و المصالحة، بالدور الذي لعبه فريق الوساطة وعلى رأسه الجزائر التي أظهرت بأنها لاعب إقليمي فعّال قادت سلسلة المفاوضات الشاقة بصبر وكفاءة، ورافقت الأطراف المالية وأقنعتها بضرورة تجاوز خلافاتها وتغليب المصلحةالوطنية والقبول بالتسوية السياسية كبديل عن العنف والسلاح. واعتبر بن نكاع أن هذه الفرصة قد لا تتاح مرّة ثانية، لهذا على الماليين اقتناصها، وعلى تنسيقية الازواد - كما أضاف -أن تلتحق بركب الموقّعين على اتفاق السلام النهائي لطيّ فصول الأزمة والالتفات الى المستقبل الآمن والمستقر والزاهر .
وخلص إلى أن نجاح العملية السلمية في مالي يجب أن يكون مرجعية لحلّ الازمات التي تتخبّط فيها الكثير من البلدان العربية.
- “الشعب” بعد غد الجمعة ستحتضن دولة مالي حفل التّوقيع على الاتفاق النهائي للسلم والمصالحة، ويأتي هذا الحدث التاريخي ليجهض محاولات عرقلة عملية السلام وإنهاء فصول الأزمة التي تفجرت في ربيع 2012، ما تعليقكم؟
* عصام بن نكاع: مالي مرّت بسنوات صعبة من اللااستقرار، ميّزها التدخل العسكري في الشمال، وبروز جماعات مسلحة نتيجة انهيار الدولة في ليبيا وما نتج عنه من تهريب وانتشار الأسلحة والذخائر الحربية التي استفادت منها مختلف الأطراف المتصارعة، علاوة على أن الحركات الانفصالية في الشمال كانت في صراع مستمر مع حكومة باماكو كنتيجة للإرث الاستعماري.
شيء طبيعي أن تحدث بعض المناوشات في هذا الوقت الحسّاس، من جهة لأن الظرف هو أصلا عدم الاستقرار وصعوبة وطول مسار هذه الأزمة وتعقدها وتعدّد أطرافها، حيث تشارك فيها ستة أطراف وهي: الحركة العربية للأزواد، التنسيقية من أجل شعب الأزواد، تنسيقية الحركات والجبهات القومية للمقاومة، الحركة الوطنية لتحرير الأزواد، المجلس الأعلى لتوحيد الأزواد والحركة العربية للأزواد المنشقة، من جهة أخرى، كل الظروف التي تسبق المفاوضات واللقاءات الحاسمة تبرز هذه المظاهر لكي يثبت كل طرف قوّته في الميدان ويجلب انتباه الأطراف الأخرى إلى جدية مطالبه، باختصار إنها لا تعدو أن تكون مناورات للحصول على اكبر قدر من المكاسب في المفاوضات، خاصة وأن الأمر يتعلّق بقرب التوصل إلى اتفاق نهائي لحل الأزمة.
و بخصوص من يقف وراءها؟ بطبيعة الحال هناك أطراف مباشرة وهي الجماعات المختلفة المتواجدة على الساحة كما سبق ذكره، وأطراف غير مباشرة أو أيادي خفية، حيث تقوم بعض الأطراف الخارجية بتغذية الأزمة، محاولة بذلك تفجير الوضع وتأزيمه.
هذه الأيادي الخارجية التي تحرك الوضع في غير صالح الشعب المالي، ألفت الاصطياد في المياه العكرة، هدفها فقط تحقيق مصالحها الاقتصادية والسيطرة على ثروات المنطقة والحصول على عقود الاستثمار، وهي أيضا تستثمر في الوضع المتأزم لبيع السلاح، ووضع قواعد عسكرية وتفتيت مالي مثلما حدث في السودان، سوريا، وليبيا، كما يكون الهدف الاسمى لها هو التشويش أو محاولة إفشال الوساطة الجزائرية ومحاولة تقزيم دورها الإقليمي والدولي.
لكن كما يقال “على قدر أهل العزم تأتي العزائم” واليوم هناك إرادة وعزيمة تجعلنا نتفاءل بأن إرادة الأطراف المالية في الحل السلمي هي أكبر من كل العراقيل، إنها تعي جيدا النتائج الوخيمة في حالة عدم التوصل إلى اتفاق نهائي يطوي فصول الأزمة، وتدرك بأن الفرصة قد لا تتاح بمثل هذه الظروف في المستقبل أو كما سبق وقال وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة أن “هناك اليوم نضج يحملنا إلى التفكير بأن الجميع يحرص على تقديم مساهمته من أجل تجاوز الصعوبات”.
في نظري هذا أهم شيئ، كما أن إعادة بناء الثقة بين ممثلي الشعب هي أساس نجاح الحوار وبناء دولة قوية قادرة على حماية أي مواطن مالي في أي إقليم كان، وهذا يكون طبعا بعودة الحياة العادية وخلق أنشطة اقتصادية يستفيد منها الجميع، ولكي يتحقق هذا وجب أخذ قضية شمال مالي كأولوية.
الوساطة الجزائرية تكسب المصداقية
- لعبت الدبلوماسية الجزائرية دورا كبيرا لتحقيق هذا الانجاز الهام؟
* صحيح، وبكل موضوعية لا تكفي هذه الأسطر المتواضعة لتقييم دور الجزائر الكبير في مجال استتباب السلم والأمن الإقليميين وفي العالم، وفي هذا الصدد يجب الإشارة إلى عدة نقاط:
أولا: الجهود المعتبرة في سبيل تحقيق السلام والأمن قد كلفها الكثير، وبلغ الأمر الى درجة اغتيال دبلوماسيين جزائريين أبرياء في العراق ومالي، أي أن الجزائر تأثرت مباشرة بما يحدث، ورغم ذلك لم تدخر جهدا وواصلت جهودها السلمية وهذا من قبيل خصالها والكل يعترف بدورها الفعال في هذا المجال.
ثانيا: إن الجزائر تعتمد أيضا على ما يسمى “بدبلوماسية السخاء” وهذا ليس من منطلق البحث عن الشهرة والصخب الإعلامي، لكن من منطلق المبادئ السامية التي تسير عليها الدبلوماسية الجزائرية، ومن منطلق الخبرة التي اكتسبتها باعتبارها بلد ثوري رائد وكدولة عاشت ظروفا صعبة في مكافحة الإرهاب والتطرف.
ثالثا: رغم أن حل النزاعات من هذا القبيل من المفروض أن يكون من مهام وأولويات التكتلات الإقليمية مثل “المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا “الايكواس” والاتحاد الافريقي ، لكن خصوصية الأزمة وتدخّل أطراف خارجية واستعمال القوة لفرض الأمن، جعل الحل السياسي المبني على ثقة الأطراف يميل إلى اختيار الوسيط الأمثل (الجزائر) التي بدورها تعرف طبيعة الأزمة، فضلا على أن القدر قد منح للجزائر فرصة تاريخية من أجل أن تثبت بأنها لاعب إقليمي فعّال، رغم وجود أطراف تحاول عرقلة جهودها وتقزم من دورها.
رابعا: الدبلوماسية الجزائرية كسبت خبرة كبيرة من خلال التعامل الخارجي مع مختلف الأزمات والكوارث الطبيعية، أيضا يبرز دور الجزائر جليا من خلال جمع كل الأطراف في عملية التفاوض، لأن هذا الأمر لم يكن بالسهل بادئ الأمر لوجود بعض الفواعل السياسية في مالي كانت ترفض مطلقا التفاوض مع “المتمردين” كما تسميهم، ونتج عن ذلك آنذاك فكرة “من يتفاوض مع من؟”.
خامسا: يمكن اعتبار أزمة مالي حق وواجب على الجزائر، حــق تمليه علينا الظروف الإقليمية التي تشهد تنامي الصراعات، الإرهاب والتطرّف، الهجرة غير الشرعية وغيرها، علاوة على أن دولة مالي هي امتداد لأمن الجزائر الخارجي، ومنه فإن حل الأزمة في مالي هو قبل كل شيء من أولى أولويات الجزائر، وفي هذا الصدد المثل يقول درء المفسدة أولى من جلب المصلحة والجزائر معرضة بشكل مباشر لانعكاسات الأزمة المالية والليبية على حد سواء.
كما هو واجب لأن الجزائر بلد محب للسلام والشعب المالي بكل مكوناته شعب جار ما يحتم علينا التكفل بقضيته.
سادسا: رغم أن حل الأزمة يعتبر تحديا كبيرا للجزائر إلا أنها لم تدخر جهدا لإقناع الأطراف بالمسار السلمي، وتحملت كل الظروف المحيطة، وقادت عدة جولات من المفاوضات المباشرة وباشرت عملا جبارا غير مباشر، وهذا كله يحسب للدبلوماسية الجزائرية التي أصبحت محل ثقة واعتراف دولي، ولقيت إشادة من الحكومة المالية، والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة.
كل هذا في سبيل إرساء السلام والاستقرار في مالي وبناء دولة مؤسسات تسودها العدالة والحرية والتنمية والديمقراطية، في إطار الحوار الوطني الشامل واحترام الوحدة الترابية لمالي الذي نص عليه “إعلان الجزائر”.
خيارات مرجعية
- تسوية الأزمة المالية سلميا، يثبت بأن الخيارات السياسية هي طريق الحل لكل النزاعات والمشاكل؟
* لا شكّ في ذلك، ولا بديل عن الخيار السياسي السلمي، العنف لا يزيد إلا الحقد والكراهية ويعمق الجراح بين أبناء البلد الواحد، ويؤدي إلى تأزّم الوضع وإحداث خسائر، ويطيل عمر الأزمة.
والدليل على ذلك، ما يعانيه العراق وسوريا واليمن وليبيا، وحتى التدخل العسكري الفرنسي في مالي لم يأت بنتيجة بقدر ما عزّز من ضرورة اللجوء إلى الحل السياسي.
مالي اليوم أمام فرصة تاريخية لتجاوز محنتها التي كلفتها الكثير، سيما وأن الحوار السياسي يتم بين أيادي آمنة وفي البيت الكبير أي الجزائر.
أن الخيار السياسي يبني ثقة أكبر، جذاب للأطراف المختلفة، وهذا ما يهيئ الأطراف نفسيا إلى قبول التسوية السياسية كبديل للعنف والقوّة العسكرية.
- كيف يمكن للدول التي تعيش نفس الوضع أن تستفيد من تجربة مالي، ونخصّ بالذكر ليبيا؟
* حقيقة ما يجب الاعتراف به أن أطراف النزاع المالي في اعتقادي خطّت خطوة شجاعة وكبير من خلال قدرتها على تجاوز الخلاف في ظلّ الظروف الإقليمية والداخلية الصعبة، وكذا الإرادة الملموسة منهم من أجل إيجاد حل للازمة، مغلّبين مصلحة الوطن، حيث أن قبولها بمبادرة الجزائر والاجتماع معا حول طاولة حوار واحدة هو في حد ذاته انجاز، وخطوة للتطلع نحو مستقبل مشترك أفضل.
لكن للأسف الشديد، هناك العديد من الدول الشقيقة تعيش حالة حرب أنهكت اقتصادها ودمّرت بنيتها التحتية، ونخصّ بالذكر الشقيقة ليبيا، الدولة الغنية بثرواتها، التي تعرضت لمؤامرة حيث اجتمع العالم لتدميرها، في حين وجدت نفسها وحيدة بدون مؤسسات ولا بنية تحتية، بعد أن حقّق المتآمرون أهدافهم وآمنوا مصالحهم.
ليبيا اليوم تشهد أبشع وضع في شمال إفريقيا منذ الاستقلال، نتيجة الأخطاء التي وقعت فيها، وتعنت الأطراف المتصارعة بها، وتركيزها على الحسم العسكري، ما ترتب عنه آلاف القتلى، ناهيك عن المفقودين وما ينتج عن ذلك من آثار اجتماعية واقتصادية.
لكن رغم كل هذه الخسائر وهذا الواقع المرير، فالوقت لم ينفذ والآمال ما تزال معلقة وكل الحلول متاحة لليبيين، ولما لا تكون قضية حل الأزمة المالية هي الإطار المرجعي لحل النزاع في ليبيا، سوريا، اليمن وحتى العراق، خاصة وأن الجزائر قدمت مبادرة مهمة نالت اعتراف حتى الولايات المتحدة.
الرؤية الجزائرية تعتمد على مفهوم السلام الشامل، والأمن في كل أبعاده، فالوضع في مالي مشابه للوضع في ليبيا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إقصاء أي طرف من الدخول في عملية التسوية السياسية للأزمة وبناء الدولة المستقبلية، السلام الدائم في ليبيا هو من صنع الكل لهذا من الضروري الوصول الى اتفاق السلام والثقة في مبادرة الجزائر.
- كلمة أخيرة
* نتمنى أن توقّع الأطراف المالية المتردّدة يوم الجمعة على الاتفاق النهائي للسّلم والمصالحة، وأن يحدوا فرقاء ليبيا حدوها ليسود الاستقرار في المنطقة.
كما نقرّ بفخرنا واعتزازنا بجهود الجزائر واحترافيتها في حل الأزمات والنزاعات ونشر قيم السلم والتنمية التي تفتقدها العديد من الدول.