إحلال النّظرة الإنسانية محلّ الإجراءات الأمنية
ملف سياسي حسّاس وشائك في آن واحد أثير مؤخّرا في برشلونة بإسبانيا خلال ندوة وزارية حول مسار سياسة الجوار الأوروبية، التي تشغل القادة في الضفة الشمالية إلى حد ودرجة لا يمكن تصورهما بحكم تنامي الظاهرة الإرهابية والهجرة الجماعية،
ولا استقرار البعض من البلدان بفعل سقوط الأنظمة. هذا هو التوجه الحقيقي الذي كان وما زال يقلق هؤلاء من باب التّغيير السّريع في الأوضاع الإقليمية في المناطق الجنوبية لبحر الأبيض المتوسط.
وفي هذا السّياق، فإنّ لبنان سيحتضن يومي ٢٣ و٢٤ جوان القادم اجتماعا حول التّنسيق العربي بخصوص سياسية الجوار الأوروبية، والذي سيضم كل من الجزائر، مصر، الأردن، لبنان، تونس، المغرب، سوريا وفلسطين للاطّلاع على وجهات نظر كل بلد، ومناقشة المسائل المطروحة في الوقت الرّاهن.
وتعدّ هذه المبادرة التي أطلقت سنة ٢٠٠٤، وأعيد تقييمها في ٢٠٠٩ وفق مقاربات جديدة، واقعية تتماشى مع انشغالات الحكومات والشعوب، عزّزتها الجزائر باقتراحات قوية كان لها الأثر الإيجابي في محتوى الكتاب الأخضر الصّادر عن المفوضية الأوروبية بتاريخ ٤ مارس ٢٠١٥ منها خاصة ما يعرف بمبادئ المرونة.
وتجيد الجزائر التعامل مع هذا الملف، كون لها تجربة رائدة في هذا المجال من خلال اطّلاعها الواسع على حيثياته، واحتكاكها الكبير مع المسؤولين الأوروبيين خاصة وزراء الخارجية والداخلية، والمشرفين على قطاعات لها علاقة مباشرة بتنقل الأشخاص.
كل الإشكال يكمن في النقطة الأخيرة التي ما فتئت تقلق الأوروبيين إلى سقف مثير، وليس من باب الصّدف أن تدرج “مبادئ المرونة” من قبل الجزائر لإزالة التشدد في الإجراءات الصّارمة التي كانت تطبّق خاصة في منح التّأشيرات.
إن كانت هناك إرادة بضرورة مراعاة الجانب الإنساني في سياسة الجوار، إلاّ أنّ على الأوروبيين أن يندمجوا في هذا المسعى، وهذا من خلال تبنّي رؤية جديدة ونظرة مخالفة لما سبق، بتفضيل الحوار والمشاورات والتّعاون والتّنسيق، لإبقاء هذا المسار قائم على الاستفادة من المزايا المطروحة خاصة ما تعلّق بتنقّل الأشخاص في هذه القارة.
وعليه لابد من القول هنا بأنّ الأوروبيين أدركوا أكثر من أي وقت بأنّ “سياسة الحوار” لا تعني أبدا الإفراط في استعمال الأساليب أو التدابير الأمنية في مطاراتها وحدودها. لذلك ارتأت مع مرور الزمن إلى إدخال تحويرات جذرية في عملها هذا حتى لا يتناقض مع الأبعاد السياسية المندرجة في إطار المبادرات المتّخذة، والكثير من بلدان الضفة الجنوبية احتجّوا على مثل هذا التّضييق المتواصل في تقييد حركية الأشخاص خاصة الرّفض القاطع في أخذ التّأشيرات.
اليوم السياق الإقليمي له دخل مباشر في كيفية التواصل مع تلك البلدان، وهذا بالنظر إليهم على أنّهم شركاء استراتيجيون لا يمكن التخلي عنهم أو إلحاق الضرر المعنوي برعاياهم، هذا ما شجّع الكثير على الإعتقاد بأنّ الأوروبيين جادّين هذه المرة في خيارهم هذا، انطلاقا من تحليلاتهم لواقع وآفاق المنطقة بأكملها، وهذا من أجل بناء سياسة جوار قوية جدّا، تكون وفق الاعتبار الذي ذكرناه سابقا ألا وهو الشّراكة والثّقة المتبادلة.
ويشعر الأوروبيون أنّ السّياقات السّياسية والأمنية اهتزّت في كثير من النّقاط، وشغلهم الشّاغل اليوم هو كيفية التصدي لتداعيات ذلك، وهذا بالبحث عن آليات جادة تمنع أن يكون هؤلاء على مرمى من حجر لما يحدث هنا وهناك، كونها لم تقدر ما ينجر عن ضرب استقرار الشّعوب الآمنة باسم بُعبع الربيع العربي أو شعارات “إرحل”، التي تكلّف بلدانا بأكملها الويلات والمتاعب إلى درجة اندلاع حروب أهلية من أجل من يحكم ويأخذ مقاليد السّلطة. هؤلاء أي الذي يبحثون على “حسن الجوار” هم الذين أحرقوا دولا كانت تنعم بالأمن، كل هذا ماذا ولّد؟ أدّى إلى ما يعرف اليوم بالإرهاب، من داعش ظاهرة عابرة للأوطان، أنصار الشريعة وجبهة النصرة، والأمس القاعدة، هكذا أريد أن يكون الوطن العربي.
هذا الخطر الداهم يؤرق الأوروبيين إلى مستوى يتطلّب منهم التفكير في نشاط سياسي من طراز آخر، ألا وهو تكثيف العمل مع بلدان الضفة الجنوبية من أجل إقامة حزام أمني وجدار عسكري يسمح بإبعاد هذه الجماعات من المجال الأوروبي، وهو ما يعرف بحماية الأمن القومي ومحاربة العدو في مكانه، وعدم ترك له فرصة الانتقال إليك، وهذا هو انشغال القادة الأوروبيّين في الوقت الرّاهن، وهذا هو مفهومهم لسياسة الجوار.