دير ياسين و”جفعات شاؤول”

ماجد مقبل

“جفعات شاؤول” هــو الاسـم الذي أطـلقـه الإسرائيليـون على المستعمـرة التي أقـامـوها على أنقـاض قـرية “دير ياسين” بعد أن دمّروها وارتكبوا المجزرة الدموية الشهيرة المعروفة باسمها في العاشر من أفريل 1948. لقد ظنّوا حينذاك بأنّ إطلاق هذا الاسم الجديد الغريب على القرية العربية الفلسطينية

وهدم بيوتها الريفية البسيطة، سيكون كفيلا بإطفاء الوهج الذي انبعث من دم أبنائها في ذلك اليوم الأسود، لكن الثمانية والستين عاما الماضية ظلت تشبه العام بعد الآخر، بأنّه ما من قوة يمكنها أن تمحو من الذاكرة الفلسطينية سيناريو الإبادة الوحشية الشنيعة التي تعرّضت لها قرية فلسطينية صغيرة تقع غرب مدينة القدس، ولا زالت تدعى “دير ياسين” لأنّ ذاكرة الشعب الفلسطيني دائمة الخضرة وتأبى النّسيان.
وفي الساعة الثانية من صباح 10 أفريل، أعطي الأمر بالهجوم على دير ياسين، وتحرّكت عصابات الارغون والهاجانا (برئاسة مناحيم بيغن الذي أصبح فـيما بعد رئيـس وزراء إسـرائـيـل) لاكتساح القرية من الشرق، وتبعتها مجموعات من عصابة شترين بسيارتين مصفحتين.
ويروي بيغن في حديثه عن المذبحة أنّ العرب الفلسطينيين دافعوا عن بيوتهم   ونسائهم وأطفالهم بقوة، فكان القتال يدور من منزل إلى منزل، وكلّما احتل اليهود بيتا فجّروه على من فيه، وبعد تقدّم بسيط في الظلام، بدأ احتلال القرية بكاملها وتدميرها، ووصل إرهابيو شتيرن وقالوا أنّ المخرج الغربي مفتوح، فقام الصّهاينة باصطياد من خرج من القرية، أما الذين بقوا في بـيوتهم فتم الإجهاز عليهم بالقنابـل، ثم جاءت وحـدة من الهاجانات فحفرت قبرا جماعيا دفـنت فـيـه مائتين وخمسين جثة أكثرهم من النساء والشيوخ والأطفال.
عن هذا القبر الجماعي وعدد الفلسطينيين الذين دفنوا فيه يقول “جاك دي رينيه”، رئيس بعثة الصليب الأحمر الدولي الذي قام بزيارة دير ياسين، وفحص القبر الجماعي، وشاهد أكوام القتلى ووضع تقريرا عن ذلك بالفرنسية:
«لم يرفضوا مساعدتي فحسب، وإنما رفضوا أيضا تحمّل مسؤولية ما يمكن أن يحدث لي، وكانت العصابة ترتدي ملابس ميدان، وكان جميع أفرادها شبانا  ومراهقين، ذكورا وإناثا، مدجّجين بالسّلاح، وكان القسم الأكبر منهم لا يزال ملطخا بالدماء، وخنـاجرهم في أيـديهم، وعرضت فتـاة جميلة تطفو عيناها بالجريمة يديها وهما تقطران دما، وكانت تحرّكها وكأنها ميدالية حرب. حاولت دخول أحد المنازل، فأحاط بي أكثر من 12 جنديا مصوبين بنادقهم الرشاشة نحوي...فقلت لهؤلاء المجرمين رأيي وهدّدتهم و دفعتهم جانبا ودخلت المنزل. هنا تمّت التّصفية بواسطة الرشاشات والقنابل اليدوية والسكاكين. عندما هممت بمغادرة المكان سمعت أصوات تنهدات، وبحثت عن مصدر الصوت مقلبا الجثث، فتعثّرت بقدم صغيرة وحارة، وكانت فتاة في العاشرة من عمرها مزّقت بقنبلة يدوية، ولكنها ما تزال على قيد الحياة، وعندما حاولت حملها حاول أحد الصهاينة منعي. أصدرت أوامري بإخلاء البيوت من الجثث، ولم يكن هناك من الأحياء إلا امرأتين أحدهما عجوز اختبأت خلف كومة الحطب، وكان في القرية أكثر من 400 شخص، وقد هرب ما يقارب الأربعين فقط، وأما الباقون فقد ذبحوا دون تمييز بدم بارد”.
وبذلك أصبح اسم دير ياسين رمزا للفاشية الإسرائيلية، ومؤشّرا حقيقيا على طبيعة الكيان الإسرائيلي الذي أعلن على قيامـه بعد قرابة شهـر على المجـزرة، غير أنّ المعـركة لم تـنتـه بـعد، وسيستمر الصّراع بـيـن دير ياسين وجفعات شاؤول، بين إسرائيل وفلسطين، وتؤكّد بأنّ دير ياسين ورغم مرور أكثر من ستة عقود، لا زالت حيّة في قلب الذّاكرة...في ذاكرة القلب.
* الملحق الإعلامي بسفارة دولة فلسطين

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024