يبدو أنّ المنافسة المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية حتّمت على الأخيرة إعادة النّظر في الكثير من القضايا ومراجعة سياستها الخارجية خاصة اتجاه أمريكا اللاّتينية، وذلك من خلال استعادة الثقة المهتزّة مع دولها جراء سياسات التدخل والوصاية التي خيّمت على العلاقات بين الجانبين، وهي سياسات ألحقت ضررا كبيرا قد يتطلّب الكثير من الجهد، وتقديم الكثير من التنازلات من قبل الولايات المتحدة لاستعادة شيء من الثقة المفقودة مع هذه الدول.
إنّ وصاية واشنطن على أمريكا اللاتينية ليست وليدة اليوم، فهي تعود إلى مقولة مونرو الشّهيرة “أمريكا للأمريكيّين”، التي شكّلت خارطة طريق تمّ على ضوئها تعامل واشنطن مع هذه الدول التي تعتبر الصيد المحمي للولايات المتحدة الأمريكية، التي لم ولن تسمح بخروج أي منها من فلكها. لهذا تراوحت سياسة البيت الأبيض بين التدخل غير المباشر، كما حدث في الحالة الشيلية من خلال الانقلاب على الرئيس سلفادور اليندي وتصفيته سنة 1973 على يد الجنرال بينوشي بدعم ومباركة الولايات المتحدة الأمريكية، أو من خلال التدخل المباشر من خلال إرسال وحدات قتالية أمريكية كما حدث مع رئيس “بنما” منويل نورييغا العام 1988، حيث تمّت الإطاحة به واعتقاله واقتياده إلى الأراضي الأمريكية.
إذا كانت الحالتين الشيلية والبنمية ضمن حالات أخرى شكّلت نجاحا للسياسة الأمريكية، فإنّ الحالة الكوبية ظلّت دائما التحدي الأكبر، فلم تفلح السياسات ــ اللينة منها والعدائية ــ لكل الرؤساء الأمريكيين الذين تعاقبوا على البيت الأبيض من الإطاحة بالثورة الكوبية وبزعيمها فيدال كاسترو أكبر حليف للاتحاد السوفياتي سابقا في المنطقة، والذي اعتبرته واشنطن دائما مصدر تهديد لأمنها القومي.
اليوم وبعد حوالي 60 عاما من الحصار الأمريكي المفروض على كوبا ومن القطيعة الدبلوماسية، يحاول الرئيس باراك أوباما تجريب سياسة الجزرة مجدّدا مع كوبا، منتهزا فرصة قمة الأمريكيتين ببنما ليفتح صفحة جديدة ليس مع كوبا فقط ولكن عبرها مع كل دول أمريكا اللاتينية، من خلال خطاب بدا وكأنّه خطاب توبة واشنطن عن خطاياها السّابقة في القارة، معلنا أنّ زمن التدخل الأمريكي فيها قد ولّى.
يبقى في الأخير أنّ مسار التّقارب بين البلدين مرتبط بمدى استعداد الرئيس باراك أوباما في المضي قدما بسياسة التطبيع مع كوبا، وما هي حجم التّنازلات التي يمكن أن يقدّمها خاصة
وأنّ هافانا ربطت أي خطوة في هذا الاتجاه برفع العقوبات والحصار المفروض عليها لأكثر من خمسين سنة؟ وليس هذا فقط حيث تبقى نقطة أخرى لا شك أنّها ستحدّد مستقبل العلاقات بين البلدين، وهي جزيرة غوانتانامو الكوبية التي تحتلّها الولايات المتحدة منذ ١٩٠٣.
الأكيد أنّه من السّابق لأوانه التنبؤ بمستقبل العلاقات بين البلدين، لكن من الواضح أنّ الولايات المتحدة أدركت جيدا أنّها لن تبقى القوة الأعظم المسيطرة على هذا العالم لزمن طويل قادم، فالأخير يشهد تغيرات جيواستراتيجية كبيرة تمخّض عنها بزوغ قوة جديدة على غرار الصين،
وعودة أخرى إلى المشهد الدولي بقوة
وهي روسيا، والتّنسيق بينهما في شكل كتلة منافسة “البريكس”، وهي كلّها معطيات تحتّم على السياسة الخارجية الأمريكية إعادة النّظر في معادلة “من ليس معي فهو ضدّي”، وسياسة تحديد محاور الشر والخير. ويبدو أنّ هذا المسار قد شرع فيه فعلا، فالتّقارب مع إيران وكوبا وزيارة أوباما إلى بورما سنة 2012 مباشرة بعد انتخابه لعهدة ثانية...إلخ، مؤشّرات تدلّ جميعها على أنّ واشنطن أصبحت تعتمد دبلوماسية استدراكية استباقية هدفها قطع الطّريق أمام منافسيها.