مقاربـة لتطويـر أنظمـة اليقظـة الاستراتيجيـــة لمواجهـة التّهديــدات
مشاريـــع مشتركة مدخـل الاستقـــرار والثّقــــة الدّائمـة
اعتبر الهجوم الإرهابي على متحف الباردو وسط العاصمة تونس أكبر اعتداء يهزّ هذا البلد، الذي شكل نموذجا ناجحا في الانتقال الديمقراطي من بين الدول العربية الأخرى التي عصف بها ما سمي بـ “الربيع العربي”.لتسليط الضّوء أكثر على هذا الاعتداء الإرهابي، وعن خلفياته ودلالاته، كان هذا الحوار الذي أجرته “الشعب” مع الدكتور نسيم بلهول، رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة علي لونيسي بالبليدة، المهتم بالقضايا الأمنية والعسكرية والضابط السابق في القوات الخاصة الجزائرية، كما لديه العديد من المؤلّفات في الشؤون الاستراتيجية والأمنية، ويشرف على مجلات دولية ذات الصلة.
❊ الشعب: ضمن أيّ إطار من الاستراتيجيات الإرهابية تصنّفون الهجوم الإرهابي بمتحف الباردو وسط العاصمة التونسية؟
❊❊ الدكتور بلهول نسيم: يتطلّب فهم الهجوم الإرهابي بمتحف الباردو (وسط العاصمة التونسية) مع ما تحمله العاصمة في الدلالة التقليدية لمفاهيم حروب المباني والخط الكلاسيكي للعنفوان القومي من أساليب الحروب الجديدة، ميزة عملياتية مانحة لمنهج أية جماعة إجرامية أو إرهابية تعمل عبر الحدود هامشا من الإعتبارات الإستراتيجية الفاعلة، فالتنظيم الذي تبنّى العملية هو نتاج إجماع براغماتي واتحاد ميداني بين خطوط الإمبريالية العائدة وإدارة النكاية والتوحش التي توعّد بها الأب الروحي للجيل الرابع من الجهاديين أبي بكر ناجي في كتابه (إدارة التوحش: أخطر مرحلة سوف تمر بها الأمة الإسلامية)، التي تعكس واقع الحبر الإسلاماوي من على القلم الغربي (إستغلال إستخباراتي للغباء الإسلاماوي)، والذي يأخذ من اعتداء متحف الباردو انتقالا نوعيا فنيا في استراتيجية عمل التنظيم والذي يأخذ شكل المنظمة الإرهابية اللامركزية والمتصلة في نفس الوقت، والتي تجد نفسها أقل عرضة إلى الإجراءات التقليدية لمكافحة الإرهاب، التي تستخدمها قوات الأمن المنظمة تنظيما هرميا، ومع غياب آليات سيادية قومية تونسية (قوة عسكرية صلبة) يفتح أمام هذا التنظيم رواق تعتنق من خلاله فكرة الجيل الرابع من الحروب: “هذا النوع من الحروب يمثل صعوبات واضحة لآلة الحرب السيادية”.
بالتالي فإنّ تنظيم داعش (صناعة الإرهاب بصيغة الماك موت الأمريكية US Mc Death) يجد نفسه من خلال عملية متحف الباردو قد تحول من منظمة تدار مركزيا، إلى شركة مانحة لامتياز القيام بالهجمات الإرهابية في جميع أنحاء العالم ونقاط الحلقة الأضعف منه بالأخص، ولهذا يجد المراقبون الأمنيون في المنطقة العربية صعوبة فهم هذه الجماعة، تتبعها وتعقبها، فبينما كنا ننتظر مواجهة ما كان يطلق عليه القاعدة، لدينا الآن تهديد جديد يأخذ بعدا تكتيكيا حركيا لامركزيا، وهذا بحد ذاته يعتبر تحديا كبيرا.
❊ ما هو وجه الشبه بين عملية تونس واعتداء تيقنتورين سنة 2013 من حيث تعاطي مصالح الأمن التونسية مع الاعتداء؟
❊❊ تعرضك المبادرة بالهجوم للضرر في أغلب الأحيان، فأنت تكشف استراتيجيتك وتحد من خياراتك. والتعاطي الأمني التونسي مع الحدث الإرهابي كشف عن هشاشة مركز الثقل للتوجيه الفني والعملياتي السيادي التونسي، ولو حاولنا تقييم عملية صنع القرار الأمني التونسي وفقا للمعايير الموضوعية الميدانية المرتبطة بمركز التوجية الإستخباراتي وعلاقته بنظم الإنذار المبكر نجدها ناقصة، وهو ما أكسب نخبة الأمن القومي الجزائري تفوقا ميدانيا (المبادأة والسبق العملياتي)، ما يتعلق بموقعة تيقنتورين التي كانت أشبه بحرب باردة (نظرا لتداخل العمليات الإستخباراتية) والتي فرخت لعملية إستعراضية تضاف لخانة الفعالية المحسوبة من دون نرجسية في حسابات الجيش الوطني الشعبي. بالتالي حرمان تونس نظرا وأطر أمنها البوليسي البعيدة كل البعد عن المقاربات العسكرية المتعودة على مثل هذه الوضعيات من “الصواب الأمني”، أي كان بالإمكان للقوات الأمنية التونسية على الأقل خوض العملية على نحو مقبول خير مما لو خاضتها إلى حد الكمال.
أساليب متعدّدة لهدف واحد
❊ هل يهدف تنظيم الدولة الإرهابي من خلال هذه العمليات التي تستهدف مواطنين غربيين إلى تأليب الرأي العام الأوروبي للضغط على حكوماته لإيقاف حملته العسكرية على “داعش” في العراق وسوريا؟
❊❊ يبدأ التحليل المفتوح عادة عن هذا السؤال حول الخلفية العملياتية لهذا التنظيم الملحق، من منظور أن أعضاء هذا التنظيم تدفعهم أجندة دولية في اتحاد واحد، وأنهم لديهم رغبة متساوية كملحق من الملاحق الإقليمية لنظم الرعب الجغرافي من أجل “القضية”، ويتّفقون على حقيقة تقاطع المساعي الإمبريالية وأطر الموت الجغرافية، كما يتّفقون على أفضل التكتيكات اللازمة لتحقيق الهدف الإستراتيجي. ولعل الفوارق الجوهرية بين زمن الرعب القاعدي وزمن الموت الداعشي هي الإتجاهات اللامركزية في إدارة التوحش في أقاليم متباينة الإحداثيات والمعطيات الميدانية،فداعش الحافات الشرقية للمنطقة المغاربية سيعرف اقتتالا ونزاعات داخلية بين صفوفه، وهو ما يقوض كل الإعتبارات المرتبطة بالعمليات الإرهابية النفسية التي تهدف إلى الضغط على صناع القرار العسكري في العواصم الغربية المنخرطة في التحالف العالمي على تنظيم “داعش”.
بالتالي تأتي عمليات الملحقات الإقليمية لـ “داعش” من باب الفوز بالغنيمة وفتح اختيارات جديدة للإنفاق (هي عمليات الإختيار الطبيعي التي تحدث على امتداد المسارات السلوكية للإرهابيين). فداخل جماعة المجنّدين الإرهابيين الجدد، نجد هنالك التزام ضعيف بقضية “داعش” الأم، نظرا واعتبارات النفعية السلوكية الإرهابية القريبة من خلايا وشبكات المصالح الرمادية العابرة للقوميات (أرخبيلات الرفاه والموت). وستغدو هذه الأخيرة إن آجلا أو عاجلا بعد تحقيق قمة الرضا المادي إلى الإستقلال عن الملحقات الإقليمية لـ “داعش” لتنفرد بمشاريع رعب خاصة واعتبارات هندسات المصلحة والموت.
ولهذا يرتبط حاليا عمل ملحقات “داعش” بالمنطقة ولاعتبارات أمنية بتكتيك الممانعة عن نقل الأفراد بتوجيهات مركزية تفاديا للمخاطرة والإنكشافية المفرطة، لأنها تخلق ارتباطات بين الخلايا النائمة في المنطقة. وبسبب الإعتبارات الطبوغرافية، ستسعى هذه الملحقات إلى تجنيد أشخاص من أجل وظائف معينة، مع وجود فرص بسيطة في التنقل، إذ كثيرا ما تملأ المنظمات الإرهابية الأماكن الشاغرة فيها باستخدام استراتيجية التجنيد من خلال الإرتباطات الإجتماعية القائمة، علما أنّ تونس أضحت فضاءً أمنيا شاغرا، سوف تمكن هذه البيئة أي خلية إرهابية مكلفة بالتجنيد والتدريب الأيديولوجي المبكر للأفراد المحتملين، من الوصول إلى قدر محدود من الأهداف، خاصة تلك الأهداف المرتبطة ومحاولات إفقاد الطوق الأمني الجزائري الحدودي التوازن مع إفقاده الوحدة في المناورة والتعقب، لكن هذا لن يحدث بوجود يقظة مستمرة وسط الجيش الجزائري.
استعراض الرّعب
❊ ألا ترون أنّ هذا الاعتداء هو عملية استعراضية هدفها إعطاء الطّابع الدّولي لتنظيم “داعش”؟
❊❊ كثيرا ما ارتبطت ظاهرة أفغنة المنطقة المغاربية بحراك الرعب المرتبط بالوافدين الأفغان العرب (المغاربة) من أفغانستان، في مصفوفة رعب جغرافي استثنائي ارتبط بمسلسل القاعدة، لكن ربط عملية تونس الأخيرة هو أمر فيه الكثير من المبالغة. يظهر تحليل هذه العلاقة عددا من استراتيجيات كثيرا ما ارتبطت بفلسفة عمل الجماعات الإرهابية، وهي معضلات مرتبطة بمشاكل الوكالة، والتي تخلق كلها نقاط ضعف معينة في الأمن، ونوع التسوية هنا تنطبق بإحدى الإستراتيجيات وهذا بصورة أساسية على تناول الأموال.
استراتيجيات المراجعة هي أحسن خيار من خلاله يمكن الجزم بمصداقية الظاهرة في المنطقة، نحن الآن أمام خيارات معلوماتية تتعلق بسلوك عملاء استخباراتيين أو بمصفوفة إرهابية حقيقية تجد نفسها تلعب على رقعة موجهة، ومعالم أمنية مصطنعة.
وبالتالي قبل الحكم عن ميلاد الملحقة أو عدم الإقرار بذلك نجد أنفسنا أمام تحدي موضوعي عملياتي صعب، يرتبط بالموازنة بين الأمن والفاعلية والسيطرة من جهة، والموت والجغرافيا والتوحش من جهة أخرى.
❊ كيف تخدم المعضلة الأمنية التي تعيشها ليبيا استقرار وتمدد التنظيم في شمال إفريقيا؟ وهل ترون أن الحل السياسي للأزمة يساهم في إضعاف “داعش” والجماعات الإرهابية عموما؟
❊❊ سأكتفي بالرد على هذا السؤال بجملة واحدة: ليبيا هي اليوم ضحية استراتيجية الإقتصاد التام، وهي استراتيجية استخباراتية (اختر معاركك بعناية)، وتقضي هذه الإستراتيجية، أننا نملك جميعا قدرات محدودة، طاقتنا ومهاراتنا يمكن أن توصلنا إلى حد معين لا نستطيع تجاوزه. عليك أن تعرف قدراتك وتنتقي معاركك بعناية، فكّر في التكاليف غير المنظورة للحرب: خسارة الوقت، هدر الرصيد السياسي، وعدوك تواق إلى الإنتقام. أحيانا من الأفضل الإنتظار، أن تحارب عدوك سرا بدلا من مواجهته مباشرة.
❊ هل يؤسّس هذا الهجوم الإرهابي لتبنّي الدول المغاربية لاستراتيجية أمنية مشتركة تقوم على تعزيز أكبر للتعاون الاستخباراتي والعسكري؟ وأيّ دور سيكون للجزائر في إطار هذه الإستراتيجية؟
❊❊ تهتم الدوائر الإستخباراتية الحكومية المغاربية مؤخرا ونظرا للتصعيد الهندسي للعمليات الإرهابية على الحافات الرمادية للمنطقة، وتهتم عن حق، بوجود أماكن غير محكومة (أماكن الشغور السيادي)، باعتبارها تشكل ملاذا آمنا محتملا لخلايا “داعش” في المنطقة، والتي كانت تفكر في ضرورة استغلال مثل هذه الأماكن منذ نشأتها الحركية (وهذا حسب تسريبات مرتبطة واجتماعات روما للقيادات اللوجيستية بالمتوسط: 11 / 01 / 2015).
ومن هذا المعطى الأمني، تتحمل قيادة العمليات الخاصة الجزائرية من منطلق كونها حجر الإرتكاز في الرقعة المغاربية للتخطيط لإدارة نظم الرقابة والرصد، والتموضع الحدودي الشرقي كرواق يرهن مستقبل عمل “داعش” من على فضاء يربط المغرب العربي بمشرقه. ولهذا يصرّ صناع القرار العسكري الجزائري على مدى أهمية العمليات الأمنية المجدية التي تتخذ من التحضير الإستخباراتي قاعدة له أكثر من مجرد تعزيز التعاون الأمني ذي الطابع السياسي المفرغ، وهو ما يعمّق من الهوة التي تفصل بين “الصواب الأمني” ووحدة الصف و« الثقة الإقليمية”.
مقاربات حلول دائمة
❊ في الأخير وإلى جانب مكافحة الإرهاب، ما هي المقاربات الأخرى التي ترى أنّها يجب أن ترافق العمل العسكري؟
❊❊ دعوني في هذا الصدد أنبه إلى مقاربتين جزائريتين هامتين في هذا الصدد:
أولا: “عملية النهج المتكامل”: وتشتمل هذه المقاربة على الدعم العسكري والمساعدات الإنسانية والإقتصادية، وطريقة أكثر فعالية للعمل مع المجتمعات والدول موضوع الهجمات الإرهابية (الدول الجريحة) للتأكد من استقرار المنطقة، وإظهار تحسن ملحوظ في معايير الأمن هنالك، وهو ما يطلق عليه أيضا باصطلاح “الدبلوماسية الأمنية”. وفي الوقت الذي تتطلب فيه عمليات تحقيق الأمن إلى إجراء معين متعلق بالإستقرار الذي يعد الملكة التقليدية للقوات السيادية، فإنّه يمكن لهذه العمليات أيضا تعزيز بناءات الثقة الوطنية عبر مقاربة ثانية وهي:
ثانيا: مقاربة المصلح المسلح: حيث يمكن لعمليات الاستقرار الأمني تعزيز روابط الثقة المحلية والإقليمية عن طريق برامج اتصالية مغاربية. بالإضافة إلى ذلك فإن عمليات تحقيق الإستقرار تتطلب التدخل عن طريق نوع آخر من تجميع المعلومات الإستخباراتية، وبالأساس الجانب الإقتصادي والإجتماعي، وكذلك هنالك حاجة إلى تطوير أنظمة اليقظة الإستراتيجية لتحسين مستوى الجاهزية الميدانية، التي لا تقل أهمية عن التعبئة الوطنية وتكتيكات نظم اللاإنكشاف السيادي في ظل التعاون الإقليمي، فالتمركز والتموضع والتعقب أمور استراتيجية هامة في هذه المرحلة، خاصة وأن معالم التهديد غير مكتملة بعد، فلا تتحدى خصما ليس لديه ما يخسره.