أخذت ليبيا تنغمس في العنف يوما بعد يوم وهذا منذ الإطاحة بالعقيد القذافي شهر أكتوبر 2011، ورافق هذا المشهد سيطرة ميليشيات مسلّحة مختلفة المشارب والتوجهات على الأوضاع، وتسارع في المقابل مسار اضمحلال الدولة الليبية ورموزها لتدخل البلاد في متاهة العنف والفوضى والاقتتال بين مختلف الميليشيات والتيارات إلى درجة أنّ الوحدة الترابية للبلد أصبحت مهدّدة، وذلك بوجود برلمانيين وحكومتين ،واحدة في طرابلس فرضتها المعطيات على الأرض، وأخرى بطبرق شرق البلاد نالت شرعيتها باعتراف المجتمع الدولي.
إنّ هذا المشهد المأساوي الذي يعيشه الشّعب الليبي ويتحمّل نتائجه وحده، رغم أنّه ليس المسؤول عن هذه الوضعية التي أنتجها التدخل العسكري للحلف الأطلسي عام 2011 من أجل “حماية المدنيين في ليبيا”، وهذا خلال الانتفاضة التي شهدتها البلاد بعد انتقال عدوى فيروس ما سمي حينها بـ “الرّبيع العربي”، الذي تبيّن لاحقا أنّه منتوج مخابر مشبوهة لبثّ الفوضى والارتباك في كل الدول العربية التي وجدت نفسها موبوءة و غير قادرة على إيجاد المضاد الحيوي الملائم للاختلالات البنوية والهيكلية الحادة بسبب ذلك، والحالة الليبية أفضل مثال على هذا المأزق ، فبعد أربع سنوات من الاطاحة بالقذافي وتصفيته على يد ميليشيات يدعّمها “الناتو”، لم يتبين بعد الخيط الأبيض من الأسود فيها ، سنوات فرضت على المجتمع الدولي بل وحتى الليبيين أنفسهم التوقف والنظر في كيفية التوصل إلى حل لهذه الأزمة المتفاقمة.
وتبين أن هناك وصفتين: إمّا الاستمرار في الاقتتال ومسار الدّمار المتبادل و الذي لا يخدم أي من الأطراف ،أو الاستجابة إلى صوت الحكمة والجلوس إلى طاولة الحوار، والحفاظ على ما تبقى من ليبيا وحقن دماء شعبها التي سال منها ما يكفي.
وميض في آخر النّفق
إنّ المقاربة الجزائرية لحل الأزمة الليبية ، والتعاطي مع أحداث فبراير 2011 التي سبقتها وشكّلت بداية هذه المعضلة ،هي مقاربة عكست نظرة استشرافية ثاقبة للدبلوماسية الجزائرية حول ما آلت إليه الأوضاع في هذا البلد لاحقا ،خاصة بعد استغلال الحلف الأطلسي لللائحة 19 / 73، التي أقرّت إقامة منطقة حظر جوي فقط، والجميع يعرف كيف تمّ تحوير هذه اللائحة، وتبين في الأخير أنّ الهدف لم يكن نجدة الشعب الليبي بل تصفية القذافي والاطاحة بنظامه لبث الفوضى، وذلك لأسباب قد نجهل كل تفاصيلها اليوم،
ولكن التاريخ سيكشف اللّثام عنها يوما ما. إنّ إصرار الجزائر على ضرورة الحل السياسي للأزمة الليبية رغم ما طالها من هجمات وتحرّشات ، أتى أكله في آخر المطاف، حيث انضمت الأمم المتحدة إلى الخيار السّلمي وقامت بعثتها إلى ليبيا برئاسة برناردينو ليون بالتنسيق مع الجزائر ببذل مجهودات كبيرة من أجل تقريب وجهات النظر بين الفرقاء المتقاتلين هناك، والتي أثمرت بعقد أول لقاء نهاية سبتمبر 2014 بغدامس، وهو اللّقاء الذي يمكن أن نطلق عليه باجتماع” كسر الحواجز”.
فقد كان هذا الاجتماع خطوة موفّقة ،رغم أن البعض حاول التّقليل من أهميته إما لقصر في النظر أو بهدف كسر المعنويات
والتشويش على هذا الحوار من خلال التسويق لفشل مسبق للمسار السّلمي الذي استطاع أن يلتقط أنفاسه مجددا، حيث تمكّنت البعثة الأممية إلى ليبيا “مينسيل” من جمع فرقاء السلاح مجددا بجنيف السويسرية، وهي الخطوة التي من شأنها أن تفرض انخراطا أكبر للمجتمع الدولي بوضعه أمام مسؤولياته اتجاه الشعب الليبي، الذي ينتظر دعما لا يقل أهمية وإصرارا عن ذلك الدعم الذي حظي به مسار السلام في مالي.
الأزمة ليست استثناءً
إنّ الأزمة الليبية ورغم تعقيداتها وتدخلاتها التي ازدادت بفعل الوقت وبسبب تأخر المجتمع الدولي في علاجها ، لا تشكل استثناءً
عن غيرها من الأزمات التي وجدت الحل بفضل توفر الإرادة السياسية وتحمل المجتمع الدولي لمسؤولياته، فقد استطاع هذا الأخير دفع ودعم مسار السلام في مالي التي تمكّنت وضمن أجندات متتالية حسب الأهمية والأولوية مدعمومة من المجموعة الدولية من الحفاظ أولا على الوحدة الترابية ثم إعادة بناء كبرى المؤسسات من خلال انتخاب رئيس للجمهورية ، بمعنى آخر بناء الدولة كخطوة أولى. ولا أحد يمكنه أن ينكر اليوم ما تحقّق في مالي التي تعيش اللحظات الأخيرة قبل التوقيع على اتفاق سلام ينهي معضلة الشمال، ويؤسس لمرحلة قادمة من الاستقرار والسلم.
إنّ هذه الخطوة تعتبر أكبر تحديا يواجه الحوار الليبي، ففي حال التوصل إلى تأسيس حكومة وفاق يمكن حينها الحديث عن إعادة بعث الدولة الليبية مجددا، التي يجب أن تكون دولة قوية تستطيع فرض القانون وحماية المواطنين والممتلكات،والقضاء على كل مظاهر التسلح والفوضى.
هناك مؤشرات إيجابية على أن المجتمع الدولي يبدي اهتماما متزايدا بالحل السياسي في ليبيا، خاصة وأن مجلس الأمن الدولي قد حذّر كل من تسول له نفسه التشويش على الحوار الليبي أو عرقلته من مغبة العقاب، وهذا مع تأكيد أعضاء المجلس على الالتزام باستقلال ليبيا ووحدة أراضيها.
الأكيد أنّ قاطرة الحل السلمي في ليبيا قد انطلقت ولم يعد بالإمكان إيقافها تحت أي مبرر، وإن كان هذا يؤشّر على نجاح البعثة الأممية في ليبيا في جمع الفرقاء هناك، فإنه يؤكّد مرة أخرى صواب المقاربة الجزائرية ونجاح مساعيها في إنضاج هذا التوجه الدولي حيال الحل في ليبيا، وهو حل يقتضي ضرورة استبعاد التدخل العسكري الأجنبي الذي أنتج هذه الأزمة وسيزيد من تعفّنها أكثر.
لكن يبدو أنّ هذا الحل السّلمي المتبلور لم يرق للكثير من الأطراف التي تحاول إطالة عمر معاناة الشعب الليبي، وهي نفسها التي أطلقت حربا إعلامية شعواء على الجزائر في بداية الأزمة، واتّهامها بدعم الديكتاتورية والوقوف ضد تطلعات الشعب الليبي في الحرية والديمقراطية لثنيها عن القيام بدورها الأخوي البناء اتجاهه،
وإجهاض كل محاولاتها ومجهوداتها لاحقا من أجل استبعاد شبح التدخل الأجنبي والإصرار على الحل السلمي السياسي، وهذه الأطراف تصعد اليوم من اللهجة باللّجوء إلى التّهديد المباشر من خلال استهداف السفارة الجزائرية بطرابلس بسيارة مفخّخة عشية انعقاد اجتماع جنيف، وهذا العمل الإجرامي يثبت الهزيمة المادية والمعنوية لأولئك،ويثبت في الوقت نفسه نجاح الجزائر بالتعاون مع البعثة الأممية في إنضاج الحوار الليبي ــ البيني.