بعد أكثر من نصف قرن على قطع العلاقات الدبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدة، عاد الدفء ليذيب الجليد ويدفع بالمياه إلى مجاريها الصحيحة، حيث دشّن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبل أسبوع عهدا جديدا مع هافانا، وأعلن عن قرب فتح السفارة الأمريكية هناك، ملتزما بالعمل على رفع اسم كوبا من قائمة الدول الراعية للإرهاب وبأن يبحث مع الكونغرس رفع الحظر الاقتصادي المفروض على الجزيرة الكاريبية التي ظلّت على مرّ العقود الخمسة الماضية تشكّل شوكة موجعة في خاصرة أمريكا.
إن الاتفاق التاريخي بين واشنطن وهافانا جاء بعد 18 شهرا من المحادثات السرية وبفضل وساطة رعاها بابا الفاتيكان فرانسيس وتوجت بتبادل سجناء وبمكالمة هاتفية جمعت أوباما بنظيره راؤول كاسترو.
ومن شأن هذا الاتفاق أن يطوي عهدا من العداء والجمود الذي استمر يعكّر الأجواء بين البلدين اللذين جمعتهما الجغرافيا - إذ لا يبعدان عن بعضهما البعض بأكثر من 90 ميلا - وفرقتهما الإيديولوجية والحرب الباردة ليظلا مفصولين بمحيطات من التوتّر والتوجّس وعدم الثقة.
ذوبان الجليد
الأكيد أن نسائم التطبيع التي تهب اليوم على العلاقات الامريكية - الكوبية، ومؤشرات التقارب الذي رفض عشرة رؤساء أمريكيين القيام به بداية من روزفلت مرورًا بكيندي وجونسون ونيكسون وكارتر وريغان وبوش الأب ووصولًا إلى بيل كلينتون وبوش الابن، بدأت تلوح مع مجيئ الرئيس أوباما الذي أظهر ليونة تجاه النظام الكوبي، خصوصا وأن وصوله إلى سدّة الحكم تزامن مع مرض فيدال كاسترو وتخليه عن السلطة لصالح أخيه راؤول.
وكانت كل المؤشرات التي صدرت عن أوباما تهيئ الأجواء لهذا الانفراج في العلاقات بين البلدين، خاصة تصريحه الشهير عام 2008، عندما قال بأن “الوقت حان لبلورة استراتيجية جديد تجاه كوبا”، ثم جاءت المصافحة الشهيرة بينه وبين راؤول كاسترو خلال حفل تأبين الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا.
هكذا إذن وبعد أن تحوّلت كوبا إلى حلبة صراع بارد بين موسكو واشنطن، وبعد أن كان التخلص من فيديل كاسترو حلما توارثته كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1959، عادت العلاقات بين واشنطن وهافانا إلى مسارها الطبيعي في انتظار إنهاء سياسة التجويع ورفع الحصار الاقتصادي الذي جعل الجزيرة الكوبية وشعبها أسيرة أوضاع اجتماعية صعبة.
التخلّص من رواسب الحرب الباردة
الخطوة الأمريكية - الكوبية الجريئة ستغيّر حتما ملامح المنطقة وتخرّجها من توتر تاريخي جعل أمنها واستقرارها على حافة الانفجار، وحوّل الجزيرة التي كانت عصيّة على الخضوع والخنوع إلى حلبة صراع بارد بين موسكو وواشنطن.
ورغم تلويح الجمهوريين الذين سيسيطرون على مجلس الكونغرس الشهر المقبل، بمقاومة رفع الحظر التجاري المفروض على الكوبيّين منذ 54 عاما، إلا أن أوباما يتجاهل تهديد المعارضة بسبب امتلاكه لصلاحيات تمكنه من اتخاذ ما يلزم تجاه السياسة الخارجية وتحديدّا ما يختص بمسألة التطبيع وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول.
تاريخ طويل من التوتّر
تسبّب تحالف كاسترو مع الاتحاد السوفياتي في جعل كوبا بؤرة توتّر وساحة لحرب باردة كادت تفجّر حربا حقيقية في بداية ستينيات القرن الماضي، وقد فرض الرئيس الأمريكي الراحل أيزنهاور، أول حظر تجاري على الجزيرة الكاريبية عام 1960، وقطع العلاقات الدبلوماسية في جانفي 1961، قبل أسابيع من مغادرة منصبه وقبل سبعة أشهر من ميلاد الرئيس الأمريكي الحالي.
وتعود ذروة التوتر بين أمريكا وكوبا إلى عام 1962، وهو ما عرف بأزمة الكاريبي التي كادت تؤدي لقيام حرب نووية مما دفع أمريكا للقيام بعمليات لإسقاط النظام الكوبي وغزو خليج الخنازير، كما قامت بعملية النمس، وعندها شرعت كوبا بمساعدة الاتحاد السوفيتي في تثبيت عدد من الصواريخ النووية متوسطة المدى باتجاه أمريكا،ما جعل هذه الأخيرة تفكّر في مهاجمتها جوا وبحرا وحبس العالم أنفاسه أمام واحدة من أخطر الأزمات في التاريخ حتى استقر الأمر بحظر عسكري أمريكي على كوبا وصدور قرارات تمنع الاتحاد السوفيتي من تسليحها وتسليم جميع الأسلحة الهجومية لتنفرج الأزمة أواخر عام 1962، بعد توقيع أمريكا اتفاقا مع الاتحاد السوفياتي لإزالة قواعد الصواريخ الكوبية وتلتزم فيه هي بعدم غزو كوبا.
وقد سنّ البيت الأبيض عام 1996، قانون هلمز ـ بورتن لتشديد الحصار الاقتصادي علي كوبا ثم جاء الرئيس جورج دبليو بوش عام 2004، وأعلن عن خطة شدّد فيها القيود المفروضة على كوبا وخصّص ملايين الدولارات لتمويل أنشطة مناهضة لها وشدّد على تحويلات الجالية الكوبية نحوها، ليأتي عام 2008، بعد استلام راؤول كاسترو الحكم في هافانا لتبدأ مرحلة جديدة دفعت إلى انفراج الأزمة وتوجّه العلاقات الأمريكية الكوبية نحو التطبيع وإزالة القيود والعقوبات.
——
بطاقة تعريف
^ كوبا: تقع في منطقة الكاريبي في مدخل خليج المكسيك، تتكون من جزيرة كوبا وجزيرة لا جوفنتود التي تبلغ مساحتها الإجمالية 2,200 كم2، وعدة أرخبيلات. هافانا عاصمة البلاد وأكبر مدنها، وسانتياغو دي كوبا ثاني أكبر مدن البلاد.
^ عدد سكان : يزيد عن 11 مليون نسمة، وهي أكثر جزر الكاريبي كثافة سكانية. تدخلت عناصر عدة في تركيبة الشعب الكوبي وثقافته وعاداته، كشعبي تاينو وسيبوني وهما من السكان الأصليين للجزيرة، وفترة الاستعمار الأسباني وفترة وصول العبيد الأفارقة وقربها من الولايات المتحدة. وكوبا عضو في كل من حركة عدم الانحياز ومنظمة الدول الأمريكية والاتحاد اللاتيني.
الموقع والمساحة
كوبا عبارة عن أرخبيل من الجزر الواقعة في شمال البحر الكاريبي عند التقاء خليج المكسيك والمحيط الأطلسي. تقع الولايات المتحدة إلى الشمال الغربي والبهاما إلى الشمال وهايتي من الشرق وجامايكا وجزر كايمان من الجنوب وأخيراً المكسيك من الغرب.