سرق اليمين الفرنسي المتطرف، الممثّل في “الجبهة الوطنية” الأضواء وأصبح حديث العام والخاص بعد أن حقّق تقدما تاريخيا في الانتخابات البلدية التي جرت قبل أسبوع، وبات ليس فقط قوّة يحسب لها ألف حساب رفقة باقي مكونات الخريطة السياسية في بلاد الجن والملائكة، ولكن طرفا يفرض على الجميع التعايش مع تطرفه وعنصريته المقيتة.
وصعود حزب “مارين لوبان” لم يكن الاستنثاء في أوروبا التي تشهد في السنوات الأخيرة اكتساحا ملفتا للأحزاب اليمينية بما فيها المتطرفة التي أصبحت تشكّل قوّة لافتة على الساحة السياسية بما تثيره من قلق ومخاوف متزايدة، خاصة بالنسبة لملايين الأجانب والمسلمين الذين يجدون نفسهم أول المستهدفين من اليمين المتطرف الذي يضع قيم الحرية والديمقراطية والتعايش والتعددية الثقافية والدينية التي تتغنى بها القارة العجوز على المحك.
من الظلّ إلى الأضواء
بالنتائج الخارقة التي صنعتها “الجبهة الوطنية” في الانتخابات البلدية الفرنسية يكون اليمين المتطرف قد طوّق أوروبا من كل جهة، إذ حقّقت أحزابه تقدما في كل من هولندا والمجر، وإيطاليا وبلجيكا واليونان والسويد والدانمارك.. أي في البلدان الأكثر تطورا في مجال الحريات العامة والديمقراطية والحكم البرلماني الدستوري وحقوق الإنسان.
لقد مدّ اليمين المتطرف أذرعه وبدأ يشكل تحالفات مثل تحالف الحركات القومية الأوروبية. الذي يضم بالإضافة إلى “الجبهة الوطنية الفرنسية” حزب “الجبهة الوطنية البلجيكي”، و«حزب فياما تريكولور” الإيطالي والحزب “الديمقراطي القومي” المتطرف في السويد، ويتوقّع المراقبون السياسيون أن الانتصارات التي تحققها الأحزاب اليمينية المتطرفة سوف لن تكون محصورة داخل دولها، بل ستمتد لتصنع المفاجأة في انتخابات النواب للبرلمان الأوروبي في ماي القادم.
وأمام هذا التقدم الذي يكسّر الحواجز ويخرق المبادئ والشعارات التي تقوم عليها أوروبا، ألا يحقّ لنا التساؤل عن الأسباب التي أدت ولازالت إلى صعود التيارات اليمينية المتطرفة والعوامل التي تجعل الناخب يصوّت عليها برغم عنصريتها ومقتها للأجانب وخاصة المسلمين والعرب؟
أسباب صعود اليمين المتطرف
يبدو جليا بأن القفزة التي رفعت الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى مفاصل الحكم في أوروبا كانت بقوة دفع استمدتها من استغلال الوضع الاقتصادي الذي أصبحت تعيشه جل دول القارة العجوز والمخاوف التي ولّدتها الأزمة المالية المزلزلة سنة ٢٠٠٨، والتي كانت لها تداعيات خطيرة على الجانب الاجتماعي كرفعها لنسبة البطالة بشكل مخيف.
لقد استثمر اليمينيون المتطرفون الذين كانوا يتطلعون إلى حكم أوروبا مند عقدين في هذا الوضع الاقتصادي الطارئ، وأخذوا يؤجّجون المخاوف ويغذونها باتهامات يكيلونها للأجانب وفي مقدمتها طبعا العرب والمسلمين الذين حوّلوهم إلى شمّاعة يعلقّون عليها كل المصائب والكوارث، إذ باتوا يروجون لمغالطات كثيرة بينها أن ارتفاع عدد المهاجرين أو الأجانب يفاقم من حدة البطالة لدى المواطن الأوروبي الأصلي كما يضاعف من نفقات الدولة على الشؤون الاجتماعية.
المحلّلون السياسيون يسوّقون العديد من العوامل الأخرى التي ساعدت اليمين المتطرف على الصعود، منها أزمة الأحزاب السياسية التقليدية الكبيرة التي أصبحت تتعرض لانتكاسات مريعة، كانتكاسة الاشتراكيين في البلديات الفرنسية الأخيرة، ثم الخطاب الشعبوي الذي يجذب الجماهير والذي يفتح نيرانه ويطلق سهامه على المهاجرين والأقليات التي يعتبرها خطرا على القومية وعلى الثقافة المحلية، خاصة مع ارتفاع عدد الأجانب ورفض الكثير منهم الاندماج مفضلين الحفاظ على ثقافتهم وديانتهم وحتى تقاليدهم.
ومعلوم أن الأحزاب اليمينية المتطرفة تتمسك بالدولة القومية وترفض الاندماج في أوروبا التي ترى بأنها سرقت من المواطن العادي سيادته، فأضحت ثقافته مهدّدة بفعل تعدّد الثقافات.
لهذا فهي تستقطب المشكّكين في مدى بقاء الاتحاد الأوروبي ـ لما يرونه من تخلخل مرتكزاته الأساسية التي أخذت تعصف بها مؤثرات التغييرات الكاسحة التي شهدتها دول القارة منذ الأزمة المالية قبل نحو ستة أعوام كما تستقطب المناهضين للعولمة.
الأجانب في الواجهة
على الرغم من الفوارق القائمة بين أحزاب اليمين المتطرف التي حقّقت انتصارات هامة في الكثير من الدول الأوروبية، إلا أنها تتقاطع كلها في معاداتها للأجانب وخاصة المسلمين منهم في ظلّ احصائيات تقدر عددهم في أوروبا الغربية فقط بحوالي٢٠ مليونا، أي ما يشكل ٥ ٪ تقريبا من نسبة السكان. وفي ظلّ توقّعات تشير إلى أن نسبة المسلمين في نفس المنطقة ستبلغ بحلول ٢٠٥٠، ٢٠ ٪ من الكثافة السكانية الإجمالية وتستند هذه التوقعات إلى انخفاض نسبة الولادات لدى سكان أوروبا الأصليين وبقائها على طبيعتها لدى الأجانب والمسلمين إضافة إلى استمرار الهجرة بالرغم من القوانين المشدّدة المفروضة عليها.
وحسب تقرير لوكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية، فإنّ ٥٥ ٪ من المهاجرين والأقليّات يعتبرون بأنّ أعمال التّمييز والتّفرقة بسبب الأصل العرقي، انتشرت بصورة واسعة في بلدان إقامتهم، كما عانى ١٢ ٪ منهم من جرائم عنصرية، وقرّر ٨٠ ٪ عدم اللّجوء إلى الشرطة لأنّها حسبهم لا تحرّك ساكنا حيال أعمال العنف التي ترتكب ضدّهم.
مع تنامي مدّ اليمين المتطرّف، بدأت بوادر الخوف والقلق تتسلّل إلى قلوب الملايين من الجالية المسلمة في أوروبا.
ومردّ هذا القلق والخوف، يعود في الأساس إلى الطبيعة العنصرية للأحزاب اليمينية المتشدّدة التي تصنع مجدها في الغالب على معاداة الأجانب، والدعوة إلى طردهم والتضييق عليهم من خلال حرمانهم من الحقوق الاجتماعية، والثقافية والتغطية الصحية، وفرض المزيد من القيود بالنسبة للهجرة القانونية والإلتحاق بالعائلة، والحصول على وظائف، بل وتدعو في كل مناسبة ومن على كل منبر، إلى منعهم من الحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية بدءا من التضييق على شعائر الصلاة في الأعياد، ومنع ارتداء الحجاب وتسويق اللحوم الحلال.. ولأدلّ من الوضع الحرج الذي أصبحت الجالية المسلمة تعيشه في أوروبا في ظلّ تنامي المد اليميني المتطرف، ما توعدت به زعيمة “الجبهة الوطنية” في فرنسا “مارين لوبان” بعد النتائج الهامة التي حقّقتها في الانتخابات البلدية، حيث أكّدت بأنّ حزبها (العنصري) سيمنع المدارس من تقديم وجبات غذاء مخصّصة للتلاميذ المسلمين في ١١ بلدية فاز منها، ما يعني أنّ المتمدرسين المسلمين سيصبحون مجبرين إمّا على أكل لحم الخنزير، أو الصّوم طول النّهار.