ينتهي الجمعة 15 مارس الجاري، الحوار الوطني الشامل في فرنسا، الذي أطلقه الرئيس إيمانويل ماكرون، قبل شهرين، لامتصاص غضب السترات الصفراء ووضع حلول للمشاكل التي زعزعت البلد بشكل غير مسبوق.
بعد يومين، سيشرع رؤساء البلديات في فرنسا، برفع تقاريرهم لقصر الاليزيه، مدونين، خلاصات الجلسات المفتوحة التي عقودها مع الرئيس ماكرون، في إطار الحوار الكبير، الذي اتخذ كطوق نجاة من الغضب العارم الذي اجتاح الشارع الفرنسي بسبب السياسيات الاقتصادية والاجتماعية للرئيس الشاب.
ذكرت وسائل إعلامية فرنسية، أن ماكرون قد يستمر في عقد اجتماعات إلى غاية نهاية الشهر، متجاوزا مدة الشهرين التي حددها عند إطلاق الحوار منتصف جانفي، في خطوة قد تحمل في طياتها «فشل» اللقاءات التي بدأت من منطقة النورماندي. ولم تتوقف حركة «السترات الصفراء» عن تنظيم مظاهرات، كل يوم سبت، وتوعدت بتصعيد غير مسبوق، خلال الشهر الجاري، مؤكدة رفضها لخارطة الطريق التي طرحتها السلطات الفرنسية.
وقال أحد قادة الحراك إيريك درويه « لن يعرفوا النوم خلال مارس»، داعيا إلى رفع حدة المظاهرات في مختلف المدن الفرنسية، إلى غاية تحقيق كافة المطالب التي بدأت اقتصادية واجتماعية وانتقلت مع مرور الأسابيع لتصبح سياسية، إذ رفع المحتجون شعارات «ماكرون ارحل»، و»تسقط الحكومة»، و»الذهاب إلى جمهورية سادسة».
انفجار الشارع
منذ انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية، خلفا لسابقه فرنسوا هولاند، لم يتسطع إيمانويل ماكرون، الحصول على إجماع الفرنسيين بشأن سياساته، وظل في اعينه ذلك «السياسي الذي ولد وملعقة الذهب في فمه، لا يعرف معاناة الطبقات المتوسطة والضعيفة، ولا يغادر مكتبه الفخم في قصر الإليزيه إلا نادرا».
وباستثناء لقاءاته الثنائية مع الرئيس الروسي فلادمير بوتين والرئيس الامريكي دونالد ترامب، أين حاول أن يوصل صوت فرنسا أمام القوتين العالمتين، بشكل مكنه من الحصول على نقاط إضافية في نتائج سبر الآراء، ظل منسوب الغضب يرتفع من يوم لآخر داخل البلاد ضد سياسة ماكرون الاقتصادية.
أول صدام للرئيس الفرنسي، كان في سبتمبر 2017، حين تظاهرت ضده أغلب النقابات العمالية مدعومة بحربي اليسار الراديكالي واليمين المتطرف، واستطاع يومها أن يصمد ويمرر مختلف القوانين التي أصر عليها. 13 شهرا بعد هذا التاريخ، سئم الفرنسيون، مما اعتبروه « رئيسا متعجرفا» يهدد أهم رصيد شعبي بالزوال، وهو»السياسة الاجتماعية».
لقد حاول فرض زيادات ضريبية قاسية على وقود السيارات، بحجة استراتيجية الانتقال البيئي، ورفع الضرائب على الطبقات الشغيلة في وقت ألغى الضريبة على الثروة التي كانت تذر على الخزينة العمومية حوالي مليار أوروسنويا، قائلا: «إنه لا ينبغي معاقبة من يملكون عجلة الانتاج بمزيد من الضرائب». كلما سمع ماكرون صوت متذمرين من شعبه، علق بعبارات تتهمهم بالكسل، «والعقل المتحجر الرافض للتغيير»، ويتحجج بذلك كلما أراد سن الميزانية أوتغيير قوانين عمالية إلى التزامات مع الاتحاد الاوروبي. كل هذه العوامل، فجرت في 18 نوفمبر 2018، غضبا غير مسبوق على الرئيس الفرنسي، إذ خرج عشرات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع للتظاهر، مرتدين سترات صفراء، تعني في رمزيتها « انتبه إلي أنا موجود»، معتبرين أن ماكرون لم يكن يضعهم في الحسبان فيما مضى. غزو الشوارع وتعطيل حركة السير، كان سلاح «السترات الصفراء « كل سبت، ومع ارتفاع أعداد المحتجين، باتت العاصمة باريس مسرحا لمواجهات وعنف خطير مع عناصر الشرطة، إذ يرتفع دخان السيارات المحترقة في السماء، وتكسر واجهات المحلات وتغلق طرقات بأكملها بسبب الحجارة.
خطوة غير محسوبة العواقب
أواخر ديسمبر، علم الرئيس الفرنسي، أنه أمام حركة احتجاجية غير مألوفة، يصعب السيطرة عليها بالوسائل التقليدية، ليسارع إلى إعلان حالة طوارئ «اقتصادية اجتماعية»، في خطوة ذكية منه، جعلته يبدو «معترفا»، بالأخطاء التي ارتكبها و»عازما» على تصحيح الأوضاع لكن بطريقته التي يراها. هذه الطريقة كانت إطلاق حوار وطني شامل، وصف في الصحافة الفرنسية «بالحوار الكبير»، ودعا إليه عبر رسالة طويلة وزعت لوسائل الإعلام وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، تتضمن المحاور الأساسية التي سيتحدث فيها مع الفرنسيين.
واعتمد ماكرون على رؤساء البلديات، لكونهم أقرب المنتخبين للمواطنين الفرنسيين، في سير الحوار، الذي باشره من منطقة النورماندي منتصف جانفي وحضره 600 رئيس بلدية.
قال ماكرون يومها «هذه اللحظات التي تعيشها البلاد يمكن أن تكون فرصة، وكل التساؤلات مفتوحة خلال الشهرين المقبلين من النقاش الوطني الذي يستطيع كل الفرنسيين المشاركة به والذي لا يجب أن يتضمن محرمات». علق مسؤول حكومي على الورشة الكبيرة التي فتحت بشعار الاصغاء «الوقت ليس وقت الاختباء، يجب الخروج، الناس لا يرغبون في رئيس قابع في الإليزيه».وحدد ماكرون في منهجية الحوار أربعة محاور، هي: الضرائب والإنفاق، آليات الانتقال البيئي، تنظيم عمل مؤسسات الدولة الديمقراطية، والمواطنة.
حوار الطرشان
الرئيس الفرنسي، ورغم زعمه أن الحوار الكبير لن يجري تحت «محرمات»، حدد خطوطا حمراء أبرزها «عدم التراجع عن إلغاء الضريبة على الثروة»، والتي كانت من أبرز أسباب خروج محتجي السترات الصفراء إلى الشارع.
وفي الوقت الذي تطالب به الحركة الاحتجاجية غير المسبوقة، بتحسين المستوى المعيشي، عبر آليات ملموسة، وتفعيل التمثيل السياسي للمواطنين في المجالس المنتخبة، يعتمد الرئيس الفرنسي على التزامات البلاد مع الاتحاد الاوروبي خاصة فيما يتعلق بالميزانية.
تكبيل البرلمان الفرنسي وامتثاله في القضايا الكبرى إلى الاتحاد الأوروبي بشكل جعل النواب بعيدا كل البعد عن انشغالات المواطنين، جعل فصيلا من الحركات الصفراء يفكر في خوض الانتخابات الاوروبية المقررة في ماي المقبل، وهي خطوة لم تلق الاجماع وفجرت خلافات بين قادة الحراك دون أن تقضي عليه.
ويواجه ماكرون تحديا حقيقيا، في إيجاد آليات لتفعيل الديمقراطية التشاركية، مقترحا «احتساب البطاقات البيضاء في العملية الانتخابية أوإجبار المواطنين على الانتحاب
وطرح رؤساء البلديات امام رئيسهم، انشغالات تتعلق بالعزلة ونقص وسائل النقل والعيادات الصحية، بينما تستدعي مطالب السترات الصفراء معالجة عميقة لسياسة الضرائب والتشغيل والاستثمار.
وأمام استمرار احتجاجات السترات الصفراء كل سبت، واعتزام التصعيد في الشهر الجاري، تبدوفرص نجاح الحوار الوطني ضئيلة.
وسيكون امام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شهرا كاملا للرد على المقترحات التي سترفع إليه من جميع اللقاء، وسيكون للإجراءات التي ينوي اتخاذها نتائج مباشرة على مستقبله في الحكم، حيث ستتضاءل فرصه في عهدة ثانية إلى حد العدم في حالة رفض «السترات الصفراء» مخرجات الحوار.