ما زال الأمريكيون أو بالأحرى ترامب وبومبيو وكل من سار على دربهم ينتظرون استسلام القيادة الإيرانية برفعها للراية البيضاء معلنة ضمنيا عدم قدرتها على إدارة الحرب الاقتصادية المشّنة عليها ظلما لتركيعها والسعي فورا لتغيير جذري في سياستها الخارجية خاصة في سوريا، العراق، لبنان، اليمن، ومنطقة الخليج وامتداداتها إلى جهات أخرى من هذا العالم.
و»الاستسلام الإيراني» لا يعني الارتماء في أحضان الولايات المتحدة، وهذا لن يحدث أبدا بالنسبة للمسؤولين في هذا البلد.
وإنما ورد على لسان وزير الخارجية الأمريكي «مؤشرات التواصل» التي لم يرها حتى الآن ويستحيل أن يقف عليها مستقبلا بعدما بلغ «النزاع» أشده.
الإيرانيون لا يدعون بأنهم قادرون على مواجهة «حصار» كهذا نظرا لغياب آليات تسمح لهم بالتحكم في مؤسسات مالية خارجية عن نطاقهم، كالعمل بنظام «سويفت» في حركية الايداع والاستلام لعملة الدولار عند البيع وغيره إلا أنهم صنفوا هذا في خانة «الحرب النفسية». وهذا يعني بأنهم بصدد التعامل معها بالرد الذي يرونه مناسبا.
متفادين التصعيد المجاني وإنما اعتماد منطق الندية تجاه ما يقوله الآخر إدراكا منهم بأن سقف العقوبات توّقف عند ذلك المستوى، ولا يستطيع الذهاب أكثر من ذلك لأن الأمريكيين يبحثون حاليا عن تسوية معهم في أقرب وقت تجاه الوصايا الـ ١٢ التي اشترطها ترامب حتى ينجو هؤلاء من كل هذا الحقد تجاه شعب بعيد عنهم بآلاف الكيلومترات.
واستغرب المتتبعون لما يصرح به المسؤولون الأمريكيون في الوقت الراهن في تبادلهم للأدوار وتوزيعهم للمهام عندما يتهافتون في الإعلان عن درجة العقوبات تجاه إيران واصفين إياها بأكثر «قساوة» لحمل الإيرانيين على تغيير سياستهم تجاه الآخر وهم على علم بأنها ستضر بالشعب الإيراني ضررا لا يمكن تصوره من الناحية المتعلقة بالمعيشة اليومية والتبادلات التجارية مع الخارج بالرغم من الخطاب السياسي الذي يحاول التقليل من آثارها الصادمة والقوية في آن واحد.
وبقراءة متفحّصة لتلك «الوصايا الـ ١٢» يظهر الاتجاه القائم على إضعاف النظام داخليا وخارجيا وتجريده من الوسائل الضاربة لحماية نفسه عسكريا وسياسيا بإعادته إلى نقطة الصفر وهذا ما يرفضه الإيرانيون جملة وتفصيلا.
وقبل هذا سارعت الإدارة الأمريكية إلى عادتها التي دأبت عليها ألا وهي تصنيف الأشخاص والكيانات في قائمة الإرهاب بدأته بحزب الله وقائده نصر الله، تلاه قاسم سليماني، وحاليا محاولة إدراج الحوثيين، وكل هؤلاء مذكورين بطريقة غير مباشرة في الشروط الـ ١٢ الأمريكية، الأول موجود في لبنان، الثاني في العراق وسوريا، والثالث في اليمن.
هذه المجالات الحيوية لم يعد للولايات المتحدة تأثير فيها كما كان الحال في السابق المبادرة توجد في أيدي الأطراف الـ ٣ الذين يصنعون الحدث ويديرونه وفق استراتيجيتهم المرسومة لمنع المناوئين لهم من اعتلاء الصدارة وهو فعلا ما يجري اليوم في هذه الأصقاع المترامية الأطراف.
والقبضة الحديدية ستستمر بين أمريكا وإيران إلى أن تظهر بوادر جديدة يراهن عليها أن تكون في أقرب وقت ممكن بالنسبة للأمريكيين، الراغبين في إبعاد إيران من المواقع الحساسة في المنطقة وهذا لن يكون بكل هذه السهولة، خاصة في العراق وسوريا، حيث التغلغل الإيراني إلى مستويات هامة، في صناعة القرار الحربي، وقدرتهم العسكرية في إحباط خطط المعارضة المسلحة.
وتبعا لذلك، فإن إيران تدفع اليوم الثمن الاقتصادي بعد أن انتصرت عسكريا في كل المعارك التي خاضتها خارج حدودها قد يكلفها ما يكلفها من تراجع كبير في خارطة طريقها وهذا ما عبر عنه صراحة نائب الرئيس روحاني ثم سكت عنه هذا الأخير على أن بلاده قادرة على تصدير بترولها. الإشكال ليس في بيع النفط وإنما هناك ٧٠٠ كيان إيراني تحت الحصار مع إضافة ٣٠٠ أخرين وانسحابات بالجملة للشركات الذائعة الصيد من هذا البلد.. لا يمكن الصمود إلى مالا نهاية أمام كل هذا الحرمان من المواد الأساسية كالأدوية.
وما كان يصف به بوش إيران، سوريا وكوريا الشمالية، بمحور الشر، والدول المارقة، عاد ليكرره بولتون المستشار في الأمن القومي وهذا التوجه الرديكالي مناف تماما لما أرساه أوباما خلال حكم ولايته قضوا عليه آل ترامب في رمشة عين، لمحاولة العودة إلى الفضاءات التقليدية المتعودين عليها اعتقادا منهم بأن الرئيس السابق تسامح مع إيران كثيرا وترك لها المجال مفتوحا لانتشارها في كل مكان. وبالتالي انكماش الوجود الأمريكي خاصة في العراق وبروز ما يعرف بالحشد الشعبي وقوى نافذة تابعة لإيران سياسيا وعسكريا وهذا ما يقلق الولايات المتحدة في الوقت الراهن.
ما كان يقوله ترامب بأنه لن يحل محل أي بلد في تطبيق أو تنفيذ سياسته تجاه بلد آخر، تناقضه الوقائع اليوم، وهذا عندما قدم نفسه البديل لمواجهة إيران لوحده، وارتاح الجميع للمهمة التي يتولاها حاليا، في إحداث القلائل لهذا البلد وجرّه إلى ما لا يحمد عقباه إنسانيا وحتى ماليا، قد لا يلمسها المواطن في بدايتها لكن مع مرور الوقت ستكون مدمرة، تقضي على الأخضر واليابس مثل ما حصل في فنزويلا عندما انهارت أسعار البترول.
هذا الوضع الاجتماعي يتوقعه القادة الإيرانيون في أي لحظة، زيادة على الهزات الأخرى الناجمة عن هذا النقص، فهل أمام هؤلاء خيارات أخرى ؟ لا توجد أي مخرجات ثانية، ولا ما يسمى بمخطط «ب» لأن الأمر يتعلق بمعيشة شعب يحتاج لأن تكون رفوف المحلات مملوءة عن آخرها، كما اعتاد على ذلك.
أما غير هذا، فإن ايران قادرة على خوض مفاوضات مع أي كان وخير دليل على ذلك، الاتفاق النووي مع الآخرين حفاظا على استقرار هذا البلد من أي ردات فعل ناجمة عن الانزلاقات الاجتماعية التي استغلها الكثيرون للتتحوّل إلى ما يسمى بالربيع العربي، عفوا الخراب العربي ..وينفرط العقد كله ثم يصعب جمع أو التقاط حباته.