أكد المؤرخ والأكاديمي البروفيسور محمد الأمين بلغيث، أن الثورة الجزائرية بنيت على قيم سامية لن تتغيّر بتغير الزمان والمكان، حيث عبّر الثوار الجزائريون عن وجه إنساني متفرد طيلة سنوات الكفاح، نابع من بيئة مسلمة نظيفة لا تعرف مكانا للكراهية.
ونبّه بلغيث في حواره لـ«الشعب»، إلى عبقرية مفجري الثورة التي تجلّت في توظيفهم للمتغيرات الدولية آنذاك ووعيهم الكبير بالبعد الإقليمي المغاربي والعربي وكيفية استغلاله بعمق لخدمة القضية داخليا وخارجيا.
وأشار المتحدث، إلى أن بيان نوفمبر حمل معاني قوية، خاطبت الجزائريين والعالم أجمع، وبيّـن من خلال كلمات معدودة خارطة طريق الكفاح التحرري وأهدافه ووسائله وركائزه المتماشية تماما وميثاق الأمم المتحدة والمبادئ الانسانية السامية، مما جعل الثورة التحريرية مفخرة للشعوب.
«الشعب»: الثورة الجزائرية وبإجماع المؤرخين من أعظم ثورات القرن 20، ما الذي يجب على الجيل الحالي الداخلي والخارجي، أن يعرفه عنها حتى يتأكّد أنها كذلك؟
البروفيسور محمد الأمين بلغيث: تعتبر الثورة الجزائرية المباركة مفخرة العالم في القرن العشرين، فعند العرب والمسلمين هي تجديد لمعارك الإسلام الفاصلة في تاريخ العالم لأنها تذّكرهم بانتصارات قلة من المسلمين في العالم آنذاك أمام الجيوش الجرارة البيزنطية والفارسية وأمام الأساطيل التي تملأ فضاء البحر الأبيض المتوسط مشرقا ومغربا، ما أثارت حيرة المؤرخين في ذلك العصر.
والثورة الجزائرية مفخرة عالم أمريكا اللاتينية التي تذكره بثوار الحرية من «سيمون بوليفار» إلى «أرنستو شي غيفارا». أما في العالم الاشتراكي فهي ثورة الفلاحين، ثورة الداخل وهو نفس ما ذهب إليه فرحات عباس الذي يعدّ من كبار السياسيين والمثقفين، في حوار للقناة الفرنسية الثانية حين قال: «كانت الثورة ثورة الفلاّح الجزائري وأهل الداخل من البلد»، وقال في أول يوم استعدته الإدارة الفرنسية ماذا تقول في موقفك مما يحدث الآن، فقال في كلام رزين لسياسي مخضرم: «أما الفحول فهم الآن في الجبال وأما المتخلفون الجبناء فهم أمامك الآن».
إن الثورة الجزائرية المباركة أيقونة العرب بامتياز، فهي التي أعادت لهم الاعتبار في عالم متغير جدا لا يعترف إلا بالفعل الثوري، والأعمال الإنسانية الراقية في السلم والحرب والثوار في الجزائر عبروا في كثير من الظروف عن الوجه الإنساني المتميز رغم التباين بين القوى المتصارعة بين مكر الآلة الاستعمارية وقوة وخبث العملاء، وبين أخلاق الجزائري المسلم الذي يحمل في صدره قيما إنسانية تعلّمها في بيئة نظيفة لا تعرف مجالا للحقد والكراهية، لهذا كان الثوار ورواد الثورة الأوائل يدركون أنهم يسعون لمحاربة وهزم الظاهرة الكولونيالية ولا يحاربون المجتمع الفرنسي.
حرصت نخبة الثوريين الجزائريين،في بيان أول نوفمبر، على الارتباط بالبعد المغاربي (شمال إفريقيا) ومن أسمتهم بالحلفاء العرب والمسلمين، ما هي الأهداف المتوخاة من وراء ذلك؟
بيان أول نوفمبر عقد ميلاد غير مزور، ويشهد على ذلك كل من قرأ كلماته ومعاني وأهداف أسلوبه على بساطته، والهدف منه كان التعريف بمن قام بهذا العمل، وما يهدف إليه هؤلاء الذين خاطبوا العالم وفرنسا تحديدا والمناضلين وكل المكافحين من أجل الحرية والكرامة، وهذه المعاني من صياغة شباب عركته المحن، وحتى لا نذهب بعيدا، فإن بيان أول نوفمبر ولواحقه بيان الجبهة وجيش التحرير تهدف إلى إعلام العالم والجزائريين خاصة، لهذا كان وقع البيان شديدا على النفوس كما عرفناها في شهادة الطيب الوطني رحمه الله «محمد بوضياف»، وشهادة السياسي المتمرّس عبد الحميد مهري، وهذا من خلال شهادة عيسى كشيدة أو مراد بوقشورة وسي أحمد بودة وكل هؤلاء الرجال الصادقين مع شعبهم.
لهذا كان البيان ولواحقه يحمل مسار العمل الثوري الذي لا ينفي عن نفسه روح القتال، لكن كان يهدف إلى التأكيد على أن هؤلاء ثاروا للكرامة واسترجاع السيادة المغتصبة وضرب الظاهرة الاستعمارية ومحاربتها.
إن بيان أول نوفمبر التاريخي، تفهّم مطالب الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال. فقد كانت الثورة بأعمالها الحربية، وأساليبها في إقناع الشعب الجزائري بحتمية الصراع الطويل على مستوى كل الجبهات مدخلا لتفويت الفرصة على المغامرين والخونة .
حمل البيان ما يكفي للتأكيد على الاطلاع الكبير لمفجري الثورة التحريرية على التطورات العالمية وقتذاك، كيف وظّف هؤلاء المتغيرات الدولية لخدمة القضية الوطنية؟
بيان أول نوفمبر هو عمل جماعي مستند على طموح هؤلاء الرجال الذين فجّروا الثورة من خلال مطالب شعبهم منذ أول يوم اغتصبت فيه فرنسا حريته وأرضه وخيراته، وأخرجته من دائرة الفعالية، إلى دائرة السكونية والعبودية.
كان وعي هؤلاء الثوّار واضحا بمحيطهم الإقليمي وعمقهم العربي الإسلامي، ووعيهم بالمتغيرات الدولية، لهذا نجحوا في كسب كبار المثقفين والثوريين في العالم حتى في فرنسا وفي باريس تحديدا.
يكفي أن تكسب الثورة أمثال هنري علاق، وفرانسيس وكوليت جونسون وجون بول سارتر وسيمون دي بوفوار وميشال أبار، وفرانسوا ماسبيروا ومعظم الناشرين والمثقّفين المناهضين للفكر الكولونيالي العنصري.
وقال بن يوسف بن خدة إجابة على سؤال مثل هذا «ها هو أول نوفمبر 1954 يدق، إنه ساعة مواجهة الشعب الجزائري لمصيره»، ولم يكن ذلك حدثا فجائيا، ولا كان قطيعة مع الماضي، بل هوحدث منبثق عن الأزمة التي فجّرت قيادة حزب الشعب ـ حركة انتصار الحريات الديمقراطية ـ ولقد عرف أول نوفمبر كيف يوظّف إيديولوجية التحرير الوطني التي ما انفك هذا الحزب يروّجها بمثابرة وثبات مثير للإعجاب وبعزيمة راسخة لا تلين.، فقد سطر الستة الأوفياء للمثل العليا للحزب الذي ينحدرون منه، هدف الكفاح المسلّح، والمتمثلة أساسا في إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
وضمن فقرات البيان إشارات واضحة، للتعريف بكل حيثيات الكفاح الوطني والعمل الثوري وهو ما تؤكده الأيام طوال سنوات ثورتنا المجيدة.
ما هي المبادئ التي انطلقت منها الثورة الجزائرية ولازالت صالحة لكل وقت و مكان؟
مبادئ الثورة الجزائرية المباركة التي لن تتغير بتغير الزمان والمكان، هي قيم إنسانية ثابتة هي مساواة كل الخلق في العالم، ولا فرق بين دولة صغيرة وأخرى كبيرة في العلاقات الدولية، كما تبنّت الثورة مبدأ العدالة الاجتماعية والتبادل الاقتصادي بين الدول القائمة على تقاسم المنافع، ومن مبادئ الثورة، هي إقامة دولة اجتماعية، ديمقراطية في إطار قيم الإسلام الخالدة في العدالة في السلم والحرب.