أشار الدكتور حبيب مونسي وفي حديثه عن تعامل الكتابات الأدبية مع الأحداث التاريخية، أنّ الحديث عن التاريخ في الأدب العربي يجرّنا للكلام عن أحداث لم تستطيع اللغة أن تحاصرها من جميع جوانبها، فالذين كتبوا عن الثورة مثلا أثناء مجرياتها والذين كتبوا عن الثورة بعد انقضائها، والذين كتبوا عنها بعدما تجدّدت الأجيال واختفلت الرؤى، هؤلاء لم يستطيعوا أن يكتبوا إلى اليوم نصها المنتهي.
أكّد الدكتور مونسي قوله بالإشارة إلى أنّ كل واحد حاول أن يأخذها من وجهة نظر، وحاول أن يدخل إليها من زاوية وحاول أن يكتب فيها ما رآه أو ما استشعره أو ما حدّد به من خلال كتب التاريخ أو من خلال المحاضرات التي استمع إليها، ولن يزعم زاعم أن قلمه قد استوفى الثورة والتاريخ الجزائري، ولن يزعم شاعر أن قصيدته قد احتوت على تلك المشاعر التي كانت تنضوي بين هذه العناصر التي استطاعت أن تعرف كيف تقاوم، واستطاعت أن تعرف كيف ترفض واستطاعت أن تعرف كيف تتحدى، فكل هذه الحركات التي ذكرها من خلال الكلمات لا يدرك مقدار ما صاحبها من توتر ولا ما رافقها من تشنجات الروح إلا الذي عايشها، فكلّما حاولنا أن نكتب أو أن نبني في قصائدنا لن نحاول إلا المساس بتلك القشرة الظّاهرة لمسألة تسمى الثورة الجزائرية.
وأضاف الدكتور مونسي: «أقول هذا القول ليس من باب تمجيد الثورة أو تخليدها لكن لشرح الحقائق، فالأستاذ عثمان سعد لما كان بالعراق جمع في مؤلفين اثنين كل الأشعار التي قيلت في العراق عن الثورة الجزائرية، وجاءنا بسفرين عظيمين، وحينما نقرأ تلك الأشعار التي كتبها العراقيون في تلك الفترة نتعجّب كيف عايشها هؤلاء وبيننا وبينهم آلاف الكيلومترات، واستطاعوا أن يتلمسوا ذلك الخيط الدقيق الرفيع في هذه المشاهد التي نسجت حقيقة الثورة الجزائرية، لذلك أقول للكتاب وهم يكتبون الثورة ويتغنّون بأمجادها أنّكم لن تستوعبوا هذه الظاهرة بحجمها الحقيقي ومكنوناتها اللامتناهية».
كتب اليساريون من الجزائريين قصص الثورة في رواياتهم، كتب محمد ديب وكتب مولود فرعون وكتب لعرج واسيني وظنوا أن المجاهد رجل اشتراكي مناضل في صفوف هذه الثورة، وظنوا بكتاباتهم أنهم قد أحاطوا بحقيقة الثورة ولكنا حينما جئنا لنقرأها مرة أخرى وجدنا أنهم لم يلمسوا إلا جانبا رفيعا جدا،فأين الصوفية؟ أين أصحاب المشاعر؟ أين حملة القرآن الكريم؟ أين الفلاحون؟ أين الرعاة؟ أين الأمهات والآباء من قصصهم وكتاباتهم تلك؟
هذا البعد المغلف في هذه الكتابات - يضيف مونسي - هو الذي يجب إلتماسه من خلال الكتابات والأشعار المستقبلية على أن يكتب كل واحد من هؤلاء صفحة، ويزعم أنه قد كتب جانبا وأن جانبه هذا لن يكون له التمام إلا إذا أضيف إلى دفتره صفحات أخرى، ساعتها سنقول أننا نكتب الثورة وأننا نعرف شيئا مما عاناه هؤلاء الذين مضوا على مستوى الروح والأشواق حينما نستطيع أن نرفع هذا الغطاء من خلال بيت من الشعر أو من خلال صورة أدبية أو من خلال قصة قصيرة نقول أنّنا نعيد بعث الثورة ثقافيا، لا نعيد بعثها بزخمها الأول، فذاك أمر مستحيل لأنه ملك للتاريخ وإنما نعيد بعثها على الأقل بأبعادها الثقافية التي يستطيع الجيل أن يبني منها قيمه ومعارفه، ويستطيع أن يبني منها آمالا يستشرف بها حاضره ومستقبله.