بوبيدي: “الاستعمار روّج لفكرة عجز اللّغة العربية عن مسايرة التقدم”
اعتبر الأستاذ حسين بوبيدي بجامعة عبد الحميد مهري قسنطينة 2 ، أنه لا يمكن الحديث عن واقع اللغة العربية في مجتمعنا اليوم، بعيدا عن طرح قضية التراكمات الكثيرة والمتعددة، التي أنتجت وضعنا البائس لغويا، بداية من استمرار آثار الفترة الاستدمارية على منظومتنا الفكرية، ونجاح الخطاب الاستعماري وروافده في تصوير العربية لدى بعض أبناء جلدتنا باعتبارها عاجزة عن مسايرة التقدم المعرفي.
ثم محاولة تحويلها إلى لغة طقوسية فحسب، وصولا إلى العجز الكبير في تحويل القرارات السيادية الخاصة باللغة العربية إلى واقع ملموس على الأرض يعمل على حماية المكتسبات وتطوير الانجازات وصد المعوقات، مرورا بعجز الحاملين للواء الدفاع عن اللغة العربية عن تقديم أبحاث رصينة تبرز الطاقة الخلاقة للعربية والتي تؤهلها للتموضع داخل مختلف العلوم والتخصصات وتشكيل جهاز مفهومي قادر على استيعاب التطورات البحثية الجديدة ودمجها في منظومتها الخاصة، وانتهاء بما يتشكل داخل النسيج الاجتماعي من ملفوظات جديدة نتيجة انصهار اللغة الفصحى في الدارجة المختلطة اللهجات، وتداخل هذه الأخيرة مع لهجات وافدة بسبب أثر الإعلام الثقيل، وتزايد حصص الحوارات “الدارجة” التي يتقدم فيها الصحافيون والأساتذة واللاعبون والسياسيون بلغة أقل ما يقال عنها أنها “خليط غير متجانس من الألفاظ والنحو والتراكيب والصياغة” أشبه بمزيج متوسطي.
عدم تحويل القرارات السّيادية إلى واقع ملموس على الأرض هو تقليل من شأنها
وفي السياق، يقول: “لا أحد يشكو من انفتاح اللغة على مصطلحات جديدة، لأن اللغة تنمو وتتطور باستمرار، ولكنها في أوقات ازدهارها كانت قادرة على صهر الملفوظات الجديدة داخل منظومتها الأصلية دون أن يؤدي ذلك إلى تخريب اللسان كما هو وضعنا الذي نكتب عنه، ولكن اللغة العربية أصبحت اليوم في موقف العاجز عن المقاومة، خاصة وقد اقتحمت الدارجة أسوار المدارس والجامعات، وصار التلاميذ والطلبة عاجزون عن استيعاب الدرس من أستاذ فصيح، بل ومطالبين إياه بإصلاح طريقة تعبيره كي تتلاقى مع لغتهم الهجينة، وبدل حدوث الواجب المتمثل في ضرورة ارتفاع الطلبة والتلاميذ إلى مستوى اللغة التي ينطقها الأستاذ، حدث العكس، وصار بعض المنظرين يطالبون بنزول الأستاذ إلى مستوى اللغة التي يجيدها طلبته، ولو كانت قاموسا يضم ألفاظا سوقية أو رايوية مختلفة”.
أما خارج أسوار المدارس والجامعات، فيوضح ذات المتحدث قائلا: “فقد يتحوّل الحديث بالعربية الفصحى إلى فرجة يجتمع لها الجمهور، وربما وضعوا قطع دنانير أمام كرسيك إن كنت في المقهى باعتبارك فنانا شعبيا (دوّارا)، وقد تتعب وأنت تسأل أصحاب المحلات المختلفة حاجتك، بل إنك تحرج وأنت تشكر أحدهم إذا استعملت لفظ: شكرا بدل صحّيت، أما إن طلبت حليبا مع الهلاليات ذات صباح، فقد يغلق صاحب المقهى متطيرا من دخول المجانين مكان طلب رزقه.
وهذا الوضع انعكاس مباشر لطبيعة التغيرات الكبيرة التي يعيشها المجتمع الجزائري، والذي أصبح عاجزا عن امتلاك قاعدة لغوية تسمح له باستيعاب الألفاظ الجديدة داخلها، بل انطلق دون وعي نحو عملية مزج غريبة، بحسب القاموس الشخصي لكل فرد، بالإضافة إلى جملة من التصورات الضبابية لدى الكثير من الأشخاص، فبعضهم يدمج العربية مع الفرنسية لاستشعاره رقيا فكريا بلغة فولتير، والآخر يطعم العربية بالإنجليزية بحثا عن التميز، وثالث يمثل فسيفساء لغوية تدمج اللهجات المتعددة مع اللغات المختلفة، فيأتيك بنحو يحار فيه الألسنيون، وفي الكثير من الأحيان يكون الجزائري ضحية نمط تنشئة قاصرة، فالأسرة الصغيرة المشكلة من أبوين يتكلمان بلغة هجينة لا يمكنها أن تشكل لسانا قويما لطفل سيكون مرآة لما يسمعه، وهو ما يجعلنا ندخل حلقة مفرغة بين الأسباب والنتائج، لننتهي للتأكيد على أن الموضوع يحتاج تكاتف الجهود وتضامن المؤسسات ووعيا بأهمية اللغة كمكون وطني وموحد هوياتي”.
الجزائري ضحية تنشئة قاصرة، في أسرة صغيرة وسيلة اتصالها “لغة هجينة”
كل ما أكتبه لا يتجاوز الوصف الواقعي للظاهرة، وهذا الوصف ليس أمرا خافيا على الناس، لكن الذي ينبغي أن يفقهه الجميع أن جدار الصد أمام هذا الانحدار الرهيب للعربية هو المدرسة والمؤسسات التعليمية المختلفة، التي تستطيع إن استقامت مناهجها أن تعيد بناء المنظومة اللغوية، وذلك لن يتم إلا بعد الاقتناع بأهمية الحفاظ على مكونات وحدة الجزائريين باعتباره مطلبا ملحا لابد أن يستحضره الباحثون المختصون في الاستشراف السياسي والتأمل الاستراتيجي، لكي لا نقحم المسلمات في الجدل الإيديولوجي ونحوّلها إلى “مسائل خلاف” تعمل على خلق مصادمة وهمية بين مكونات الهوية.
اللّغة العاجزة عن مواجهة مسار الصّراع الحضاري لا يمكنها توفير الحماية لنفسها
ويضيف: “قد يقول بعضهم أن هذه المقاربة تتجاوز حقيقة أن العربية التي يتكلمها الجزائريون ليست العربية الفصيحة في صورتها القاموسية التي نجدها في لسان العرب أو القاموس المحيط أو غيرهما، ولكن من يريد أن يفهم حجم التحولات التي طرأت على اللسان الجزائري المنحدر بسرعة إلى لغة الخليط المتوسطي غير المتجانس فليعد إلى الأدب الشعبي وقصائد الملحون التي تعود إلى الفترة العثمانية ليفهم الأثر الكبير للاستعمار والانفتاح اللغوي غير المدروس على اللغة العربية، كما على المتحمّسين الحالمين بالتغيير من خلال الشجب والتنديد أن يعلموا أن اللغة العاجزة عن المواجهة في مسار الصراع الحضاري لا يمكنها أن توفر الحماية لنفسها بمثل هذه المقالات، إذا لم تتحول الحضارة التي تنتمي إليها إلى مشاريع عملية تنتج الملفوظ لأنها قادرة على إنتاج الإضافة في مختلف النواحي العلمية والتقنية والإنسانية.