صدق الدولة الجزائرية يدحض بهتان النظام الفرنسي

قررنا.. لا إعفاء متبادل للتأشيرات بعد اليوم

علي مجالدي

 لا امتياز بلا مبدإ ولا تعاون بلا احترام

سيادة الدولة الجزائرية فوق جميع الاعتبارات

في خضم توتر متجدد يعكس عمق التعقيدات المتراكمة في العلاقات الجزائرية- الفرنسية، اختارت الجزائر أن ترد على التصعيد الفرنسي الأخير بمنطق الدولة، لا بردود الأفعال المتشنجة، مؤسّسة خطابها على الرصانة الدبلوماسية والسيادة الواعية، دون أن تتنصل من التاريخ ولا أن تنزلق إلى متاهات التشنج الآني. والبيان الصادر عن وزارة الشؤون الخارجية، في أعقاب رسالة الرئيس الفرنسي إلى وزيره الأول، شكل نصاًّ تأسيسيًّا لموقف متكامل، لا يقتصر على تفنيد ادعاءات باريس فحسب، بل يؤكد، مرة أخرى، أن الجزائر تتعامل مع فرنسا بنديّة سياسية وذاكرة لا تموت.

وقد عكست صيغة البيان، إدراكًا عميقًا لتحولات الخطاب الفرنسي الرسمي، حيث أظهرت الجزائر، منذ البداية، أنها لم تتلق الرسالة الفرنسية بروح الارتباك أو ردّ الفعل الانفعالي، بل تعاملت معها بقراءة «متأنية»، كما ورد في البيان، لتخلص إلى مجموعة من «الملاحظات الأولية الهامة»، ولعل هذه الجملة وحدها كافية لتعكس توجهًا جزائريًا لطالما تميز بالهدوء في وجه التصعيد، وبالتحليل المؤسساتي في مواجهة خطاب فرنسي متهافت يبدو أقرب إلى «تبرئة الذات».
في سياق متصل، لم تتردد الجزائر في التشديد على أن الرسالة الفرنسية، بدل أن تعترف بالخلل البنيوي في التزامات باريس، جاءت لتُبرّئ فرنسا من مسؤولية التدهور وتُلقي باللائمة على الجزائر، في تجاهل صريح لكل ما ورد من بيانات رسمية جزائرية حددت، بدقة ووضوح، الأطراف المسؤولة عن التصعيد، وربطت الإجراءات المتخذة بمبدإ المعاملة بالمثل، لا أكثر.
كذلك، فإن السياق التاريخي الذي يتعمد المسؤولون الفرنسيون القفز عليه، ظل حاضرا في خلفية الرد الجزائري؛ ففرنسا -كما يورد البيان- خرقت التزاماتها الواردة في ثلاثة اتفاقات ثنائية مركزية: اتفاق 1968 الخاص بحرية تنقل وتشغيل الجزائريين، اتفاق 1974 القنصلي، واتفاق 2013 المتعلق بالإعفاء من التأشيرات لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية. وهي انتهاكات لم تكن عرضية، بل ممنهجة، استهدفت المواطنين الجزائريين عبر الطرد التعسفي، ومنعتهم من وسائل الطعن الإداري والقضائي، في خرق سافر للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950 التي لطالما تغنت بها فرنسا في محافلها الدولية.
علاوة على ذلك، فإن منسوب الاستفزاز السياسي لم يتوقف عند حدّ الخروقات، بل تجاوزه إلى اعتماد منطق التهديد والإنذارات، كما أشار البيان، وهو منطق لا يمكن فصله عن تصاعد نبرة اليمين الفرنسي المتطرف الذي يستثمر في عقدته التاريخية من الجزائر وثورتها، ويجد في الجالية الجزائرية على الأراضي الفرنسية فرصة للابتزاز السياسي والإعلامي..
وزير الداخلية الفرنسي، روتايو، المحسوب على هذا التيار، لم يتورع في توظيف هذا الخطاب العدائي ضمن معادلاته السياسية، متغافلاً عن الرصيد الأخلاقي والإنساني الذي يربط بين الشعبين، ومتناسياً أن الجزائر اليوم ليست هي جزائر الأمس، وأن زمن الإملاءات قد انتهى.
بالإضافة إلى ذلك، مثّل قرار الجزائر بنقض اتفاق 2013 وإخضاع الفرنسيين حاملي الجوازات الدبلوماسية للتأشيرة، خطوة سيادية، تستند إلى النصوص ولا تسقط في دائرة الانفعال، فالجزائر -كما أوضح البيان- لم تبادر بطلب هذا الاتفاق أصلاً، بل كانت فرنسا هي من اقترحته، وهي من خرقته، لتُتيح للجزائر، بمنطق القانون، الإعلان عن نقضه وفق المادة الثامنة من الاتفاق، وبمنتهى الوضوح.
في هذا المسار نفسه، جاء قرار الجزائر بإنهاء استفادة السفارة الفرنسية في الجزائر من عقارات الدولة الجزائرية الممنوحة، ومراجعة عقود الإيجار ذات الشروط التفضيلية، ليؤكد أن الجزائر تعيد ترتيب علاقاتها مع فرنسا على أسس أكثر عدلاً، بعيدًا عن تلك العلاقة غير المتكافئة التي تكرّست بفعل صمت الماضي وتراكمات التاريخ. وقد ربط البيان هذا القرار الصارم، بواقع البعثة الدبلوماسية الجزائرية في فرنسا التي لا تستفيد من أي امتياز مماثل، بما يكرس بوضوح مبدأ المعاملة بالمثل الذي يمثل واحدا من الثوابت الجزائرية في التعامل الديبلوماسي.
ومن الملفت أن البيان لم يُهمل قضية القناصل الجزائريين الذين لم يتم اعتمادهم، منذ أكثر من عامين، من قبل فرنسا، في سلوك اعتبرته الجزائر «تعطيلاً متعمداً»، وردت عليه بالمثل، وهنا تبرز الجزائر مرة أخرى في موقفها الراسخ: لا تجاوز للتاريخ، ولا تنازل عن الحقوق، ولا صمت أمام الاستفزاز، لكن دون كسر القواعد الدبلوماسية أو المساس بأخلاقيات التعامل بين الدول.
ولعل جوهر الرد الجزائري يتجاوز حدوده الظرفية، ليشكل مقاربة جديدة للعلاقة مع فرنسا، تقوم على احترام الذات الوطنية والتوازن في المصالح. فالجزائر لا تنطلق من حقد دفين تجاه باريس، بل من تجربة تاريخية مريرة دفعت خلالها أثمانًا باهظة من أجل الحرية، وهي اليوم لا تبحث عن تصفية حسابات، بل عن بناء علاقة خالية من الوصاية، مبنية على الندّية والاحترام المتبادل.
وفي المحصلة، يبدو جيدا أن الموقف الجزائري من التصعيد الفرنسي الأخير ليس مجرد رد دبلوماسي، بل بيان سيادي يعكس التحول في السياسة الخارجية الجزائرية. والجزائر اليوم لا تُهادن ولا تتشنج، لا تساير ولا تستسلم، بل تقرأ بعين التاريخ، وترد بمنطق الدولة وتؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات مع فرنسا، عنوانها: لا ابتزاز بعد اليوم، ولا امتياز بلا مبدأ، ولا تعاون بلا احترام.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19843

العدد 19843

الخميس 07 أوث 2025
العدد 19842

العدد 19842

الأربعاء 06 أوث 2025
العدد 19841

العدد 19841

الثلاثاء 05 أوث 2025
العدد 19840

العدد 19840

الإثنين 04 أوث 2025