إذا كانت الدمعة في الرسم الأثري “البقرة الباكية”، الذي يقف شامخا في منطقة تيغرغرت بقلب صحراء جانت، يعبّر عن حزن الكائنات المنذر ببداية جفاف المنطقة، فإن الابتسامة هي ما طبع محيّا الحضور، الذين قدموا من كل المناطق القريبة لمتابعة عزفت الأوركسترا السمفونية الوطنية، مرفوقة بكورال الجزائر البوليفونية، في برنامج موسيقي عالمي حمل اسم “سمفونية الرمال”، سمفونية تؤكد على تشبث الجزائري بماضيه وتاريخه، وتطلعه إلى المستقبل وانفتاحه على الآخر.
تجاوب الجمهور الذي حضر الحفل، وعلى رأسهم وزير الثقافة عز الدين ميهوبي، وسفراء أربع لكل من السودان، موزمبيق، بلجيكا وكوريا الجنوبية، كان واضحا، خاصة وأن من الجمهور من قطع عشرات الكيلومترات للاستمتاع بهذا الحدث الثقافي.
راهنت الأوركسترا الوطنية على الحس الوطني، خاصة ونحن في شهر نوفمبر المجيد، وأدت الفرقة البوليفونية مزيجا من الأناشيد مثل “يا شهيد الوطن” و«من أجلك عشنا يا وطني” و«من جبالنا”، أعقبها أداء الفنانة ندى الريحان “لأنك مثلي تحب الجزائر” من كلمات عز الدين ميهوبي وألحان الموسيقار نوبلي فاضل، ويقول مطلعها: “لأنك مثلي تحب الجزائر، وتعشق مثلي سماء الجزائر، وتكبر مثلي بأرض الجزائر، سنهتف نهتف ملء الحناجر، لتحيَ لتحيَ لتحيَ الجزائر”.
ولم يغب بتهوفن، كما كانت الزرنة حاضرة، وجابت الاوركسترا بالحضور في مختلف بقاع الجزائر، ثم أدى ابن المنطقة الفنان ميلودي محمد شوغلي “أيتمانين” التي تغنى فيها بالمحبة بين الأحباب والأصدقاء، والتي قال فيها بالتارقية ما معناه “هذا قلبي أحكي له عن أحبابي”، و«تيماوضين” التي غنى فيها عن الطاسيلي، وتكريما للراحل عثمان بالي أغنية “أمين أمين”.
ميهوبي يشيد بروح المبادرة
وقال ميهوبي إن هذا المكان نعيش فيه افتراضيا ثم نعيشه واقعيا، “هذه ثالث مرة أزور فيها الطاسيلي ولكنني في كل مرة أكتشف شيئا مختلفا، فلما يكون المرء وحده يكون له إحساس مختلف عن الإحساس الجماعي، ولكن كل هذا إضافة غلى الموسيقى السمفونية يصير أمرا أشبه بالحلم، لأننا ننقل شيئا عادة ما يقدم في المسارح والقاعات الكبرى، والآن يقدم في مكان تاريخي وهو أمر مبهر ومبهج، وهي لحظة فارقة في حياة الإنسان، بغض النظر عن الموقع والمركز، هي لحظة عميقة تجتمع فيها في بلدك بين أهلك، هذا العمق الثقافي والتاريخي والسياحي للجزائر يعطي شعورا يصعب وصفه”.
وعن حضور السفراء الأجانب الحفل، قال ميهوبي إن هؤلاء ضيوفنا القادمون من قارات مختلفة، يسمعون عن هذا المكان ولكن أن يكونوا في الموقع فالأمر له دلالة أخرى، “آمل أن ينقلوا صورة الجزائر الآمنة القوية المستقرة، جزائر التاريخ والثقافة والإبداع”.
وقال وزير الثقافة، إن الأوركسترا قطعت مسافة كبيرة جدا بهدف إعادة الروح لهذا المكان التاريخي، مؤكدا على قيمة الأوركسترا الوطنية، خاصة وأن المبادرة جاءت منها، وأنها فكرت في تقديم تجربة مختلفة عن الحفلات المقدمة في القاعات، وبالذات في هذا المكان العزيز عن الجزائر، وهو دليل إيمان بضرورة انتقال الموسيقى العالمية من الشمال إلى الداخل وبالضبط في مكان يعود فيه التاريخ إلى 12 ألف سنة، وقال ميهوبي مخاطبا الأوركسترا: “أنتم تسمعون أجمل الألحان وتبعثون روح الإبداع في هذا المكان التاريخي الذي كثيرا ما كان عنوانا لعبقرية الجزائريين عبر التاريخ، فمجيئكم انتصار للتاريخ وجزائريتنا التي نعتز بها جميعا، فباسمي وباسم السيد الوالي وكل منتخبي هذه الولاية وكل المثقفين والإعلاميين الذين جاؤوا من أجل هذه اللحظة وعاشوها في هذا المكان الرائع أقول لكم شكرا وهنيئا لنا جميعا، وأتمنى أن تكرروا هذه التجربة في مناطق أخرى في الجزائر، فالجزائر قارة بحد ذاتها، وفي كل مكان يمكن أن تحيوا هذه اللقاءات الفنية وتسعدوا الجمهور، مزيدا من التألق والإبداع وموعدنا في وتندوف إن شاء الله”. كما ضرب ميهوبي موعدا بتندوف، آخر محطات الأوركسترا السمفونية التي تكون قد جابت 47 ولاية.
من جهته عبّر عبد القادر بوعزارة مدير الأوركسترا الوطنية السمفونية لـ«الشعب” عن سعادته بالنجاح في هذه المهمة، لأن جانت هي المحطة التي تمثل الولاية رقم 47 في مسار الأوركسترا، ما يجعل من هذه الأخيرة واحدة من الأوركسترات القليلة في العالم التي صالت وجالت في ترابها الوطني، دون الحديث عن مستواها العالمي.. وذكر بوعزارة بالموعد القادم والأخير في هذه الجولة الفنية التثقيفية، والذي سيكون ولاية تندوف، وأضاف: “ما نقوم به هو واجبنا، فالتوجه إلى الجنوب الكبير تطبيق لسياسة الدولة في هذا السياق، كما أنه فرصة لأهلنا في الجنوب حتى يشاهدوا عزف الأوركسترا، وفرصة لنا حتى نلتقي بهم ونتعلم منهم كذلك، والجزائر كبيرة بمساحة ولكنها أيضا كبيرة بموسيقاها وفنها ومواهبها”.
كما اقتربت “الشعب” من ميشال كلامنس، وهو سائح فرنسي، قال لنا إنه مولع بمنطقة جانت، وصار له فيها أصدقاء، حتى أنه وصفهم بعائلته الثانية. وبخصوص الحفل السمفونية قال كلامنس إن الأمر مدهش وجميل للغاية: “لقد حاول البعض هنا أن يشرحوا لي برنامج الحفل ومغزاه، ولكنني لم أستطع أن أرسم صورة واضحة في ذهني حتى حضرت إلى هنا وشاهدت الأوركسترا وهي تعزف، وكانت المفاجأة حقيقية وهي مبادرة ممتازة”.
العمل التربوي جزء لا يتجزأ
من نشاط الأوركسترا
وكانت المدينة قد احتضنت صبيحة أول أمس حفلا لا يقل أهمية عن “سمفونية الرمال”، على الأقل فيما يتعلق بنشر الثقافة الموسيقية السمفونية في أقصى نقاط البلاد، حيث احتضنت القاعة المتعددة الرياضات بحي زلواز بجانت حفلا تربويا لفائدة تلاميذ الأطوار الثلاثة، الابتدائي والمتوسط والثانوي، عمل فيه المايسترو أمين قويدر وأعضاء الأوركسترا على تعريف الأطفال بمختلف الآلات الموسيقية، ومعاني الإيقاع والسرعة والنوتات الأساسية للسلم الموسيقي.
واختار المايسترو قويدر المقطوعات المعزوفة بعناية حتى تتماشى مع ما يستميل الأطفال، وما يعرفونه مثل “عليك مني سلام” و«الفهد الوردي”، ليتدرج في الصعوبة إلى المعزوفات العالمية الأكثر تعقيدا، واختتم الحفل برحلة عبر مختلف الطبوع الموسيقية الجزائرية.
وعن هذه المبادرة قال السيد عمراني بوعلام، الأمين العام للولاية المنتدبة لمقاطعة جانت لـ«الشعب” إنها فرصة ثمينة لا تحدث كثيرا في الحياة، “لم نرد تفويت الفرصة ومشاركة التلاميذ والجيل الصاعد الذي ذخر للبلاد للتعرف على الموسيقى”. وعن مواهب المنطقة قال عمراني إن هذه التظاهرة ستسهم في بعث المواهب والموسيقى الأصيلة للمنطقة، التي لها طابعها الفني الخاص، والتزاوج والتناغم الموسيقي يعطي انطلاقة فنية. ووجه عمراني رسالة لجميع قرائنا قائلا إن جانت بمناظرها الخلابة وموقعها الهام تفتح ذراعيها لكل السواح ليتمتعوا بطبيعتها ومناظرها الساحرة، خاصة في توفر الأمن.
كما أكد مدير التربية لولاية إليزي السيد الزين حفصي لـ«الشعب” بأن هذه فرصة فريدة يلتقي فيها التلاميذ بفرقة موسيقية ذات مستوى عالمي، ووصف المبادرة بأنها “حدث وطني”، وأكد على أن هنالك متابعة لهذه المبادرات من خلال برنامج للتربية الفنية.
من جهته، أكد السيد شلغام عبد القادر، مفتش التعليم الابتدائي بمقاطعة جانت على أهمية هذا الحدث الثقافي التربوي، ووجه من خلال “الشعب” رسالة إلى كل أساتذة التربية الفنية بحاجة المنطقة إلى خبراتهم، خاصة وأن كل الوسائل متوفرة وعلى رأسها السكن، “نحن في حاجة إلى خبرة هؤلاء لأن المنطقة تزخر بالمواهب التي تحتاج إلى الصقل ورفع المستوى الفني”، يقول محدثنا، داعيا إلى إمكانية التبادل مع الشمال، لما للجنوب الجزائري من طبوع تقليدية متميزة يمكن أن تسهم في التلاقح الموسيقي الوطني.
وقالت المشرفة التربوية بمتوسطة الأمير عبد القادر بجانت، دحو جمعة، إن حضور الأوركسترا السمفونية هام جدا وكان الأطفال متشوقين لهذا الحدث، وتعلم الموسيقى متوفر بجانت وإذا عبر الأطفال عن ميول لذلك فسيكون هذا ممكنا. واقتربنا من المعنيين الأوائل بالحدث وهم الأطفال، حيث عبرت الطفلة بن حبيرش خيرة من ذات المتوسطة عن حبها للموسيقى، وتمنت ببراءة أن تتكرر هذه المبادرة “كل يوم”، وإن كانت تطمح في أن تصير طبيبة.. فيما قالت زميلتها عمراني رميسة إنها تحب الموسيقى التقليدية والعاصمية، وإن كانت ترغب في أن تصير مهندسة إعلام آلي.