اللحظات الأخيرة من ليلة الوداع

من يرتدي البدلة بعد رحيلك؟

بقلم عبد الحفيظ بن جلولي

في هذه الوقفة يروى القاص والأستاذ عبد الحفيظ جلولي الساعات الأخيرة التي قضاها رفقة الفقيد حسين فيلالي من بشار إلى العاصمة ثم العودة على أساس أن يلتقيا مجددا في الغد من وصولهما إلى  بشار، لكن القدر كان أسرع من لقاء بقي عالقا في الذاكرة فقط وهي تفاصيل دقيقة ومهمة وكأن الرجل كان يستعد ليكون عريسا أبديا في بدلة جديدة لم تكن له في الحقيقة لكن لونها رافقه في المخيلة.

كان الاتّفاق على السّفر مع الرّاحل حسين فيلالي إلى العاصمة قبل موعده بأيام قلائل، حيث اجتمعنا إلى مقهى “عمّار” القريب من بيته كما هي العادة، وغالبا ما كنا نجتمع بعد أوقات العمل، وتحادثنا في أمور عدّة إلى أن قال لي أريد السفر إلى العاصمة طلبا للراحة وتغيير الجو، فرددت عليه بأنّني أنوي كذلك السفر لغرض ولكن عليه أن يؤخر ذلك إلى الثالث من الشهر الحالي، فوافقني وافترقنا على أن يسافر هو جوّا وأنا برّا لأنه لا يتحمل متاعب السفر بالحافلة. كانت مناسبة المعرض الدولي للكتاب حافزا آخرا للقاء الرّوائي محمد مفلاح. تواصلنا ليلة السفر وأخبرني أنّ محمد مفلاح جد سعيد بقدومي إلى العاصمة. وفي الغد من ذلك، وبالضبط يوم الثلاثاء الثالث من نوفمبر استقل الطائرة صباحا وركبت الحافلة مساء، هاتفني في الحافلة للاطمئنان عليّ ثم توادعنا على أن يكون اللقاء غدا في المقهى قرب البريد المركزي. صباحا وأنا أصل العاصمة في بكورها الخفيف، أجتاز الخروبة إلى وسط المدينة، لانتظار الراحل، ارتحت إلى المقهى وطلبته بالهاتف، وما كانت سوى دقائق حتى وجدت شفتيه فوق رأسي مقبّلا وحاضنا، تعانقنا كما العادة، فوجدته بلباس رياضي ونعل مرتاحا أنيقا كما العادة، مبتسما لا تفارقه الدعابة والنكتة والسخرية الحكيمة، توجّهنا إلى الفندق بعد أن كان قد رتّب الحجز لي، كان كريما رحمه الله، وما هي سوى دقائق حتى حضر محمد مفلاح، هبطنا سوية للقائه ومن ثمّة رافقاني إلى المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية لتسوية بعض الأمور بمعية الدكتور محمد الأمين بحري. كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف حين اتجهنا إلى المعرض الدولي للكتاب، همس في أذني الراحل حسين بأنه ينوي اقتناء بدلة وحذاء ولكن سوف يكون ذلك في الغد برفقة الرّوائي محمد مفلاح لأنّه يعرف العاصمة جيّدا، ثم سألني عن أيّام مكوثي بالعاصمة، وأردف أنّ موعد عودته هو الخميس، فقلت له أنني أيضا سوف أستقل الحافلة غدا. عند وصولنا إلى المعرض اتّجه بنا العزيز محمد مفلاح إلى أحد الأجنحة أين تُركت للراحل حسين نسخ من مجموعته القصصية الأخيرة “عطر النساء”، أهدى إليّ وإلى محمد مفلاح نسخة.

 همس في أذني الراحل حسين بأنه ينوي اقتناء بدلة وحذاء ولكن سوف يكون ذلك في الغد برفقة الرّوائي محمد مفلاح لأنّه يعرف العاصمة جيّدا،

تصفّحت المجموعة فوجدت العتبة الأولى للإهداء تتضمن شَفَافا ووفاء إلى زوجته وبناته “اللواتي تحمّلن طويلا أنانيتي، وحماقاتي، أحبكنّ”، فربطت حينها بين عتبتي العنوان والإهداء، ونحن نتطارح مزاحا خفيفا فرحا بالمجموعة، خاطبت محمد مفلاح قائلا: فقط في عتبة الإهداء أستطيع أن أكتب أربعة صفحات، ضحكنا وفرحنا وانتشينا وغادرنا أجنحة المعرض وأروقته إلى وجهة أخرى في فضاءه. انتحى بنا مفلاح جانبا من جوانب قصر المعارض، وكان المكان مطعما، وإلى الغذاء اجتمع أستاذين عرفت بعد التسليم عليهما أنّهما الأستاذ رابح قرطبة والأستاذ الطاهر حسيني، وكنّا لا نعرف بعضنا إلا عن طريق الفيس بوك، وبعد الاستئناس إليهما تعرّف الأستاذ قرطبة إلى الراحل حسين فيلالي وكان الاتفاق بينهما على أن يطبع له جزء من الدكتوراه التي كانت حول جمالية المكان في الشعر الجاهلي، وما كان مفاجئا هو مشاركتي في ندوة حول رهانات الترجمة وإشكالياتها في الوطن العربي، كانت متعة وكان مساء جميلا رفقة الأحباب والحوار والكتب والراحل حسين الذي أخذني من بين تلك الجموع وهجع بي إلى الضفاف الساكنة في بيت الله.

خاطبت محمد مفلاح قائلا: فقط في عتبة الإهداء أستطيع أن أكتب أربعة صفحات، ضحكنا وفرحنا وانتشينا وغادرنا أجنحة المعرض وأروقته إلى وجهة أخرى في فضاءه

 كان يحذوه فرحا خارقا للتجول والبحث، فأخبرني أنه يحاول أن يقارب السردية العربية ولذلك دخلنا فضاء المعرض بالأساس بحثا عن “معجم السردية العربية”، ولقد أخذ منا ذلك جلّ الوقت، وكل مرّة يسألني إن كان التعب قد استبد بي، فأرد بالنفي، والحقيقة أني كنت منهكا جدا، كان رحمه الله يعرف إصابتي بانزلاق غضروفي، لهذا كان يحاول أن يمنعني من كل حمل ثقيل، لكن رفقته كان التجوال له لذة السطور والمعنى. كنا ندخل رواقا ونخلي آخرا بحثا عن هذا المعجم، ولكن دون جدوى، وأثناء سؤاله في أحد الأجنحة، استفسرت صاحبة الجناح بلكنة عاصمية: “واش هذا كتاب؟” نظر إليها وتبسم، ولما ابتعدنا قليلا، قال لي وددت أن أقول لها إنّه تحميلة ((suppositoire، فكدت أن أصعق من شدة الضحك. التقينا بأروقة المعرض، مع حفظ الألقاب، عامر مخلوف والسعيد بوطاجين ومحمد ساري وآخرين، وفي هذه الأثناء عثر على كتاب “ألف ليلة وليلة”، أربعة أجزاء، فشاورني في اقتناءه، ثم بدا مترددا، فأشرت عليه بشرائه لأنّه قد يندم بعد المغادرة، وكذلك كان، فما أن غادرنا ذلك الجناح حتى أخذ يقلب الأجزاء المعبّأة بلاستيكيا، ورأى أنها طبعة أنيقة وفرح كثيرا لأنه اقتناها، وأخبرني أن مشروعه القادم هو السردية العربية ولابد أنه يحتاج إلى السردية الثراتية، وازداد إصراره على تناول موضوعة السردية العربية بعد أن لاحظ انفقاد المعجم من فضاءات المعرض. كان معجم السرديات آخذا بلبه، ولشدّة هذا التعلق لم ننتبه إلى المساء وهو يسدل أستار العتمة، فسألنا عن الدار التونسية التي نشرته ولكن دون جدوى، ثم خرجنا من فضاء المعرض وعاد معنا محمد الأمين بحري لعله يرشد الراحل ولكن أيضا دون جدوى. أقلّنا الأستاذ رابح قرطبة في سيارته من المعرض إلى وسط العاصمة وكنا أربعتنا مفلاح، حسين، الأمين وأنا، بعد العشاء أصرّ الراحل على أننا ضيوفه، ودفع، ثم خرجنا لكي نأخذ كؤوس شاي في ساحة من ساحات العاصمة، كان فضاءها بدأت تخف الحركة فيه، ولبسَت العاصمة شيئا من الصمت والهدوء، أكرمنا الأمين بحري بكؤوس شاي واللوز، انغطسنا في نقاش ماتع حول لوكاتش ومراجعاته وأشياء أخرى.
حان وقت المنام وافترقنا، طلب منّي الراحل بعد غسل عينه بماء السيروم أن أضع له المرهم، لأنّه كان يعاني من التهاب فيهما، وافترقنا على أن يكون الصباح موعد لقاءنا بمحمد مفلاح، وكان كذلك، انتظرناه بالمقهى، وبعد احتساء كؤوس الشاي توادعنا حيث اتّجهتُ إلى الخرّوبة لأستقل الحافلة نحو بشار، بينما اتّجه المرحوم رفقة محمد مفلاح لشراء البدلة والحذاء. وكان ذلك آخر لقاء به، حيث يوم الجمعة الماضية وبعد ارتياح من عناء السّفر هاتفته في المساء للاطمئنان عليه، فوجدته بخير وعافية وتوادعنا على أساس اللقاء غدا، لكن قدر الله كان حقا فاختاره الرّفيق الأعلى إلى جواره. رحمه الله ورزقنا الصبر.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024