يؤكّد الأستاذ الدكتور صالح فلاحي من كلية العلوم الاقتصادية بجامعة العقيد الحاج لخضر بباتنة، أنّ الدول تحاول ومنذ أمد بعيد تنويع صادراتها ووارداتها لتفادي التبعية وما لها من آثار قد تعيق مسار البلد في تحقيق الأهداف التنموية.
غير أنّ الاقتصاد الجزائري شذّ عن هذه القاعدة إذ احتل قطاع المحروقات المصدر الأول لإيرادات الدولة الجزائرية، وأصبحت مساهمة هذا القطاع في الصادرات في حدود 98 %، مشيرا إلى أنه على الرغم من التطورات السريعة حينا والمذهلة أحيانا أخرى في الساحة الدولية، فإنّ ذلك لم يكن كافيا للفاعلين وصانعي القرار في الجزائر لتبني استراتيجيات تخرج البلد من عنق الزجاجة رغم وفرة السيولة التي تقدّر بأكثر من 200 مليار دولار في نهاية 2012.
ومع ذلك حاولت الجزائر حسب الأستاذ”صالح فلاحي، أن تلج ضمن المنظومة القارية والدولية فوقّعت على اتفاقية الشراكة الأورو ـ متوسطية، التي أصبحت في الأدبيات الاقتصادية، وتسعى جاهدة للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، إلاّ أنّ الطريق لا يزال شائكا أمامها.
وتعتمد الدول بشكل عام، والجزائر ليست استثناء، حسبه على ما تملكه العوامل الطبيعية المرتبطة أساسا بالمناخ والتربة والثروات المعدنية وأيضا العوامل المكتسبة، والتي تتضمن اكتساب المهارات الخاصة والمعرفة التقنية والتسويقية. وقد أفرز القرن الواحد والعشرين عاملا آخر أكثر أهمية من العاملين السابقين، وهو التكنولوجيا وثورة المعلومات التي ساهمت في إحداث تغييرات جوهرية في المفاهيم ذات الصلة بالتجارة الخارجية، والتجارة الإلكترونية تندرج ضمن هذه المفاهيم.
ويشرح الدكتور فلاحي فكرته كالتالي: بإلقاء نظرة فاحصة على واقع التجارة الدولية ومنذ العقدين الأخيرين، فإنّ البيانات تشير إلى أنّ نحو 75 % من التجارة الدولية تسيطر عليها شركات الأعمال متعددة الجنسيات، والمؤكد أن هذه النسبة سترتفع بعد أن أصبحت العولمة ظاهرة يجب التعامل معها والقبول بما لها وما عليها. ولعل هذه تأتي ضمن ما ذهب إليه فرانسيس فوكوياما في كتابته الشهيرة “نهاية التاريخ وخاتم البشر” (The End of History and the Last man)
وفي هذا السياق، يضيف ضيف جريدة “الشعب” أنّ الأسئلة الآتية تطرح نفسها بحدة: ما الذي جعل الجزائر بإمكاناتها البشرية والمادية الهائلة أن تقبع في هذا الوضع الذي يؤلم كل شريف في هذا الوطن، في الوقت الذي تحقق فيه دول أقل امكانات منها نتائج مشرفة؟ فمتى يحين الوقت لتكون الجزائر على استعداد للدخول والتعامل مع المنظومة الدولية لتحقق آمال وطموح الأجيال الحاضرة والقادمة؟ ولماذا فشلت في إيجاد البدائل للمحروقات بعد أن مضت فترة 50 سنة على استعادة البلد لحريته من المستدمر الفرنسي؟
ويجيب عنها بقوله يبدو أنّ الذين تداولوا على السلطة لم يتمكنوا من الوقوف يوما على ما هو كائن وما يجب أن يكون، فغياب الاستراتيجيات الواضحة المعالم لترقية القطاعات الاقتصادية المختلفة كان لها أثرها البالغ. فعلى سبيل المثال، فإنّ قوانين الاستثمار الأجنبي تصدر حسب مزاج الذين هم في السلطة، وليس انطلاقا من استراتيجيات بعيدة المدى. ويؤكّد الباحثون في كل أنحاء الدنيا وبغض النظر عن ألوانهم السياسية على أهمية الاستثمار الأجنبي المباشر في تطوير الاقتصاديات التي تتدفّق إليها، فالتكنولوجية والمعلوماتية لا يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها إلاّ بعد تهيئة وتحسين مناخ الاستثمار الأجنبي المباشر، والتخلص من المعوقات الكثيرة، والتي يمكن ذكر البعض منها فيما يلي:
ــ عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، ففي الجانب السياسي فإن الضبابية لا تزال سيدة الموقف، وفي الجانب الاجتماعي فالاضطرابات تعتبر إحدى الظواهر التي اعتاد عليها الشباب في المدن والقرى.
ــ نقص اليد العاملة المؤهلة ممّا يحول دون الاستفادة ماديا وتقنيا. وفي هذا السياق، واجه الصينيون صعوبات جمة في إيجاد 000 . 10 مهني لتوظيفهم في تشييد المسجد الأعظم بالجزائر العاصمة.
ــ معضلة البيروقراطية التي تعتبر من أكثر الظواهر تثبيطا لعزائم المستثمرين المحليين وأقواها تنفيرا للمستثمرين الأجانب، وهل يمكن أن يحدث تطور ملحوظ في استقطاب رؤوس الأموال في ظل استفحال ظاهرة البيروقراطية المدمرة لكل مبادرة فردية كانت أم جماعية، عندما يتعلق الأمر بالاستثمار الوطني والأجنبي؟
ــ بؤس القطاع المصرفي والمالي، فالأول لا يزال يدار بطرق تقليدية ومتخلفة، وبقي هذا القطاع بعيدا عن ملاسة التكنولوجيا الحديثة والاستفادة من مزاياها. أما الثاني فقد ولد مشلولا وبقي كذلك. لقد أنشئت بورصة الجزائر بكيفية لم يرد مثلها في التاريخ الاقتصادي (ثلاث مؤسسات عمومية: صيدال للأدوية، رياض سطيف للمطاحن وفندق الأوراسي!).
ــ عدم استقرار التشريعات والقوانين المنظمة للاستثمار الأجنبي المباشر يثير الكثير من الخوف لدى المستثمرين الأجانب وحتى المحليين، ومن المهم أن يتذكّر المرء المقولة الشهيرة: “الرأسمال جبان”.
ويلاحظ الدكتور فلاحي أنّ قاعدة 49 / 51 التي أقرّها القانون التكميلي لسنة 2009 أثارت نقاشا لم ينته بعد بين مؤيد لها ومعارض. وفي تصوره فهذه القاعدة غير ضرورية إطلاقا إلا في حالة القطاعات الإستراتيجية مثل الصناعات الغذائية ذات الاستهلاك الواسع، وأنواع معينة من الأدوية مثل الأنسولين مثلا، توزيع مياه الشرب، إدارة المطارات والموانئ. أما باقي الصناعات والخدمات مالية كانت أم سياحية فلا ضرر إطلاقا أن يحصل المستثمر الأجنبي على أعلى نسبة ممكنة من المشروع طالما أن الفوائد التي يتوقعها أي شخص أو أي بلد من الاستثمار الأجنبي المباشر كثيرة منها:
1 ـ توفير المنتج للسوق المحلية بدلا من استيراده بالنقد الأجنبي؛
2 ـ المساهمة في امتصاص البطالة، ومن ثم تحسين المستوى المعيشي لهذه الشريحة؛
3 ـ اكتساب المهارات التكنولوجيا محليا وبأقل التكاليف بدلا من البحث عنها في الدول المنتجة لها؛
4 ـ تحسين وضع ميزان المدفوعات بتقليص الواردات وتشجيع الصادرات.
إنّ الذين يجادلون بأنّ قاعدة 49 / 51 لم تؤثر في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الجزائر، إنما هم يقولون قولا يجافي الحقيقة. فهم يمارسون السياسة أكثر مما يعالجون مشكلات اقتصادية قد تكون آثارها مؤلمة.
وعلى العموم، ونظرا للسرعة التي تتغير بها الأوضاع في الساحتين الإقليمية والدولية والسعي الدءوب لغالبية الدول المتقدمة والنامية على استقطاب رؤوس الأموال باعتبارها من مصادر التمويل الخارجي، فإنّ الجزائر يبدو كما لو أنّها لا تعمل على تشجيع انسياب الاستثمار الأجنبي المباشر إليها. وبعبارة أكثر دقة، فإنّ الجزائر تعد طاردة للاستثمار الأجنبي المباشر سيما الاستثمارات الخليجية.
وكحلول للمشكلة يقترح محدثنا ضرورة بذل جهود كبيرة تبدأ بتوفير مناخ الاستثمار، سيما ما يتعلق منه بالاستقرار السياسي والتشريعات المنظمة للاستثمار والبيروقراطية التي تعدّ عائقا مريعا للمستثمرين المحليين والأجانب لتحقيق معدلات مرتفعة للنمو، ومن ثم التنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ومحاولة التخلص من التبعية لقطاع المحروقات.
وعندها تصبح البدائل للمحروقات متوفرة خاصة ما يتعلق منها بالخدمات المالية والمصرفية، والخدمات السياحية والقطاع الفلاحي والصناعات الصغيرة والمتوسطة، والتي تعتبر محاور التنمية والتحرر الاقتصادي في أي بلد.
البروفيسور صالح فلاحي (جامعة باتنة) لـ “الشعب”
“تحسين مناخ الاستثمار شرط أساسي ”
لموشي حمزة
شوهد:4122 مرة