يتوقّع الخبراء استمرار معاناة أسواق النفط العالمية من تدني الأسعار طيلة السنة المقبلة، مما يؤكد نجاعة خيار الجزائر في إرساء منظومة اقتصادية متحررة على اعتبار أن السوق يشهد حالة إشباع متخمة بالعرض، لكن هذا لا يمنع من إمكانية تسجيل تحسن طفيف في الأسعار غير أن هذه الأخيرة لن تعود إلى سقف عالي حتى مع حلول فصل الشتاء، حيث يكثر الطلب وتنتعش الأسعار بسبب العرض الكبير للدول الأكثر إنتاجا في منظمة الأوبيب وخارجها، لذا الجزائر مدركة جيدا لأبعاد استمرار التدني على المدى القريب أي خلال السنتين المقبلتين وتعتبرها فرصة الانطلاق الفعلي نحو تغيير إستراتجيتها إلى الاقتصاد البديل القائم على الاستثمارات.
أهم ما يتفق عليه الخبراء أنه على المدى القصير جميع المؤشرات التي توحي بتوازن السوق مازالت غير واضحة المعالم، في ظلّ تحديات وصعوبة تصحيح مسار السوق أمام سلسلة الأزمات الاقتصادية والأمنية التي تعصف بالعديد من الدول. ولا يخفى أن التبعية البترولية لها مساوئ مكلّفة عديدة تؤثر على التنمية والنهوض بالمجتمع وتبقى الدولة عرضة للتضرر من أي انهيار مفاجئ أو انكماش غير منتظر لأسعار الطاقة، لذا تعكف الجزائر في الوقت الحالي على الشروع في التخلص من التبعية الكبيرة لإيرادات الطاقة وتهيأ مرحلة الانطلاق الفعلي نحو بعث الاقتصاد البديل الذي يرتكز على الاستثمارات الإنتاجية البعيدة عن الضوضاء والمزايدات أمام التزام السلطات العمومية بتجهيز المناطق الصناعية بعد ستة أشهر للحسم في مسالة العقار، وبدورها المنظومة البنكية مدعوة أكثر من أي وقت مضى للانخراط بقوة في المعركة التنموية.
الخيار الأقوى والأكثر تأثيرا
وبخصوص الجزائر وكيفية مواجهتها لتبعيات انهيار أسعار النفط وأمام الوضعية الاقتصادية الحالية، لم تكتف بالدفاع عن حظوظها في السوق من خلال تكثيف الحوار والاتصالات الحثيثة مع الدول العضوة في الأوبيب وحتى خارج الأوبيب وعلى رأسها روسيا لمحاولة إيجاد حلول وسطى تمنع من تسجيل المزيد، بل أيقنت أهمية التخلص من عبئ التبعية النفطية واستبدالها بثروة القيمة المضافة من خلال قطاعات الصناعة والفلاحة والسياحة التي ينتظر منها نهضة قوية تجعل من إيرادات المحروقات ثروة إضافية ترفع من احتياطي الصرف وتنعكس بالإيجاب على حماية قيمة الدينار وتحقّق رفاه الجبهة الاجتماعية. وتشكل الصناعة الخيار الأقوى والأكثر تأثيرا في رفع نسب النمو، لكن يجب أن تستجيب لمعايير الجودة وتكون ذات تنافسية محلية ودولية،لا يجب أن يسمح في ظلّ المزايا المتوفرة للانفتاح على الاستثمار خاصة العقار الصناعي وتحفيزات الاستثمار ونمو تدفق قروض البنوك بشكل تدريجي للمؤسسات الطفيلية بأن تتسرب وتستحوذ على امتيازات معتبرة التي يجب أن تذهب للمؤسسات الإنتاجية ذات الإستراتجية الواعدة والرؤى البعيدة التي فعلا تضيف للصناعة الوطنية، وفيما يتعلق بالفلاحة يجب أن تدمج في المنظومة الاقتصادية لا تبقى منعزلة وغير منظمة لأن بإمكان العديد من المنتجات الفلاحية بفضل جودتها العالية أن تنافس في الأسواق العالمية، لكن يشترط الانتظام في التمويل ودفاتر الشروط صارمة في التعامل مع المستفيدين من المزايا والتحفيزات والمنتج يجب أن تكون نظرة اقتصادية ذات رؤية بعيدة. وتتطلع السياحة إلى احترافية حقيقية وتحتاج إلى مهنيين من طراز عالي يتمكنون من قلب معادلة السياحة من خلال جلب السياح وليس عن طريق تصديرهم. والاقتصاد الوطني كذلك في حاجة إلى تكريس المزيد من الشفافية ودعوة جميع السواعد والكفاءات دون استثناء للانخراط في المعركة التنموية، بالموازاة مع الانطلاقة الراهنة والتوجه نحو بناء القاعدة الاقتصادية الصلبة والتي تحتاج إلى المزيد من جهود مكافحة الفساد وإرساء صرامة الرقابة على التمويلات والجباية والسير نحو التقليص من السوق الموازية إلى أقصى حد.
انكماش الأسعار يرهن الاستثمار
ويجري الحديث حول توقع تراجع استثمارات قطاع النفط التقليدي إذا استمرت أسعار الذهب الأسود في الانكماش بسبب كلفة الاستثمار الباهظة، علما أن متوسط سعر البرميل خلال الشهر الجاري لم يتعدّ حدود الـ 45 دولار للبرميل الواحد، ومستوى الأسعار حسب تقدير الخبراء لا تخدم المهتمين بالتنقيب والاستثمار في مجال الطاقة، فإذا تراجعت الأسعار وانخفضت إلى أقل من كلفة الإنتاج يتوقف الاستثمار الجديد لدى بعض الدول، لكن وبالمقابل بعض الدول الأخرى ذات الإنتاج القوي والمغرق للعرض لن تتأثر بالتكلفة ولن تأبه بها وما يهمها الهيمنة على السوق وعدم التذبذب في عرضها الكبير. والجدير بالإشارة فإن الشركات الكبرى المهتمة بالاستثمار من خلال التنقيب والاستكشاف والتكرير في حقول النفط التقليدية في مناطق بعيدة وأحيانا محفوفة بالمخاطر الأمنية، ستحسب ألف حساب قبل إقبالها على خوض مغامرة الاستثمار، ولعلّ تدني الأسعار يقلص دون شك من شهيتها كون الأرباح التي طمحت لتحقيقها لن تكون في المتناول لذا تحجم عن الإقبال. وجاء اقتراب عودة إيران إلى ساحة العرض ليضاعف من مخاوف تسجيل المزيد من التراجع بسبب الإمدادات الجديدة التي من شأنها التقليص من حظوظ انتعاش الأسعار. لكن ومع كل ذلك لم تتوقف الجزائر عن لعب دور دبلوماسي مهم خاصة في ترميم الأوبيب التي يبلغ معدل إنتاجها نحو 31.7 مليون برميل يوميا، حيث بذلت جهودا كبيرة للتنسيق مع شركائها لتحقيق العديد من الأهداف الجوهرية، من بينها حماية حظوظ الدول وحصصها وكذلك على صعيد مواجهة اضطراب السوق في ظلّ عدم تكافؤ الفرص بين أصحاب الإنتاج الكبير والمتوسط، ولن توقف الجزائر من مساعيها التي تصبّ في حماية مصالح دول الأوبيب والمتمثلة في الحفاظ على سعر منصف لا يكبد هذه الدول الخسارة.
الطاقة غير التقليدية ..هل تلغي التوقعات؟
وعلى المدى البعيد تذهب التوقعات إلى ترقب ارتفاع الطلب العالمي على البترول إلى ما لا يقل عن 110 ملايين برميل يوميا في آفاق عام 2040 منتقلة من 93 مليون برميل مسجل في الوقت الحالي. علما أن الأسعار تراجعت بنحو 60 بالمائة منذ منتصف عام 2014، حيث بدأت الأسعار في التراجع المفاجئ والانهيار الذي أثّر على اقتصاديات الدول المصدرة والتي يعتمد اقتصادها على الموارد النفطية، لكن تشير التقديرات أن هذا الارتفاع في الطلب العالمي المرتقب على المدى البعيد، يحتاج إلى استثمارات تناهز قيمتها الـ 10 تريليونات دولار من الفترة الراهنة وإلى غاية عام 2040. ولا يجب أن يغفل بروز طاقة غير تقليدية يمكنها التقليص كثيرا من الطاقة التقليدية خلال الثلاثة عقود المقبلة، أمام الاهتمام الذي أبدته عدة دول في استغلال كمرحلة أولى للغاز الصخري والدراسات والأبحاث الجارية من أجل التقليص من تكلفة وأضرار الاستغلال لهذا المورد الباطني الجديد، لكن هل فعلا بإمكان هذه الطاقة أن تلغي جميع التوقعات وتسيطر تدريجيا على المنتوج النفطي التقليدي وتزيحه من منافستها من السوق؟