أبلــت البــلاء الحسـن في حمايــة التراث الوطنـي

المرأة الجزائرية.. حفظت العهد وأوفت بالوعد

فاطمة الوحش

يحتفل العالم في الثامن من مارس من كل عام باليوم العالمي للمرأة، وهي مناسبة عالمية للاعتراف بإنجازات النساء في مختلف المجالات، وأيضًا فرصة للتذكير بأدوارهن الحيوية في الحفاظ على الثقافة والتراث. في الجزائر، كانت المرأة على مرّ العصور الحارس الأمين على العادات والتقاليد، حيث نقلت الأزياء التقليدية، الحرف اليدوية، والطقوس الجمالية من جيل إلى جيل.

يعدّ اللباس التقليدي الجزائري أحد أبرز عناصر التراث، فهو يعكس التنوّع الثقافي الغني للبلاد ويشكل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية. ومن بين أهم هذه الأزياء القفطان الجزائري والشدّة التلمسانية، اللذان لم يعودا مجرد لباس محلي، بل تحولا إلى رموز عالمية تعبر عن الأناقة والفخر بالهوية. وإلى جانب الأزياء، تحتل الحناء مكانة خاصة في حياة المرأة الجزائرية، باعتبارها عنصرًا جماليًا وتراثيًا يستخدم في المناسبات السعيدة.

”القفطـان والشدّة”.. مـن التقاليـد المحلية إلى الاعــتراف العالمي

يعتبر القفطان الجزائري من أعرق وأجمل الأزياء التقليدية في الجزائر، يتميز بتصميم فاخر مصنوع من أقمشة راقية مثل المخمل، الحرير، الفتلة، ويُطرّز بخيوط ذهبية وفضية تضفي عليه لمسة من الفخامة. ورغم تطورات العصر، ما زال القفطان حاضرًا بقوة في المناسبات الرسمية والأعراس، بل ازدادت شهرته عالميا بعد أن ظهر في عروض الأزياء الدولية، وأصبح خيارا للعديد من النجمات العالميات اللاتي ارتدينه في مناسبات كبرى، مما يعكس جاذبيته التي تتجاوز الحدود الثقافية.
من جهة أخرى تعدّ الشدّة التلمسانية، من أرقى الأزياء التقليدية الجزائرية، ذلك الزّي الملكي العريق الذي يتألف من تاج مرصّع بالجواهر، ثوب مخملي مطرز يدويا وحلي ذهبية وفضية. غالبا ما ترتدي العروس التلمسانية هذا الزي الفاخر في ليلة زفافها، حيث يعكس مكانتها ورمزيتها الثقافية. ومع إدراج الشدة التلمسانية ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو، أصبح هذا الزي أكثر من مجرد لباس تقليدي، بل تحول إلى إرث محمي دوليًا، مما يمنحه حصانة ضد محاولات نسبه إلى ثقافات أخرى.
ويعود أصل كلمة “الشدّة” إلى “شدّ الرأس”، حيث “كانت المرأة قديما تشدّ رأسها بقطعة من قماش وتلفها حوله وتزينه بالحلي”، ـ وبحسب بعض الدراسات ـ يعود تاريخ “الشدّة التلمسانية”، التي تعتبر من رموز تراث منطقة تلمسان، إلى ما قبل سقوط الأندلس، حيث كانت ترتديها الأميرات ونساء الطبقة الراقية بتلمسان أيام الدولة الزيانية، قبل أن تتحوّل إلى لباس خاص بالعروس التلمسانية ونتاجا ثريا بعناصرها المتنوّعة لمختلف الحضارات المتعاقبة على المنطقة، وتتكوّن “الشدّة” من عدة قطع من الملابس المتناسقة في الألوان والطرز والتزيين وطريقة اللبس، على غرار “القرفطان” (القفطان) يعود للعثمانيين و«البلوزة” للعرب و«الفوطة” للأمازيغ في حين أن “الشاشية” للأندلسيين..
إلى جانب القفطان والشدّة، لا يمكن إغفال الحناء كجزء لا يتجزأ من التقاليد الجزائرية. فهي ليست مجرد وسيلة لتزيين اليدين والقدمين، بل تحمل معاني رمزية ترتبط بالحظ والسعادة والبركة. ومن أهم الطقوس المرتبطة بالحناء “ليلة الحناء” التي تُقام عشية الزفاف، حيث تجتمع النساء للاحتفال بالعروس وسط أجواء مليئة بالأغاني الشعبية والرقص، وتُرسم لها نقوش الحناء في طقس يعكس فرح العائلة بهذه المناسبة.

تراث الجزائر.. بين الأصالة والتجديد

لطالما لعبت المرأة الجزائرية دورا رئيسيا في الحفاظ على التراث، حيث توارثت الأمهات والجدات مهارات الخياطة، التطريز، وصناعة الأزياء التقليدية، مما ساهم في إبقاء هذه الألبسة جزءًا أساسيا من الأعراس والمناسبات الجزائرية. لكن دور المرأة في حماية التراث لم يقتصر على الاحتفاظ بالتقاليد، بل تعدّاه إلى العمل على تطويرها وتحديثها.
والدليل على ذلك ما نشهده اليوم من موجة في الإبداع النسوي في مجال الأزياء التقليدية، حيث تسعى العديد من المصممات إلى إدخال لمسات عصرية على القفطان والشدة دون المساس بأصالتهما. فقد أصبح “الكاراكو” يُصمم بقصات جديدة تناسب المرأة العصرية، كما تطورت الزرابي التقليدية بألوان وأساليب حديثة لجذب الأسواق المحلية والعالمية. حيث يساعد هذا المزج بين القديم والجديد في إبقاء التراث حيًا ومتجددًا، بعيدًا عن الجمود.
كما أن الجهود النسوية في الحفاظ على التراث لم تعد مقتصرة على المجال الحرفي فقط، بل انتقلت إلى فضاءات جديدة مثل وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبحت النساء يستخدمن منصات مثل “إنستغرام” و«فيسبوك” لعرض أعمالهن وبيع المنتجات التقليدية..
وقد ساهم هذا التطور في الترويج للأزياء والحرف اليدوية الجزائرية عالميًا، وفتح فرص اقتصادية جديدة للنساء الحرفيات، خاصّة في المناطق الريفية، حيث تحوّلت الحرف التقليدية إلى مصدر دخل مستدام. وهذا التطوّر التكنولوجي في التسويق والترويج أدى إلى ظهور مصمّمات جزائريات عالميات نجحن في إيصال الأزياء الجزائرية إلى منصّات عالمية، حيث يشاركن في معارض دولية للتعريف بهذا التراث العريق. ومن خلال هذه الجهود، لم يعد التراث مجرد موروث جامد، بل أصبح عنصرًا متجدّدًا يواكب العصر، دون أن يفقد قيمته الثقافية.

حفاظ على الأصول ومواكبة العصر

مع إدراج القفطان، الشدّة، والحناء ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو، بات الحفاظ عليها مسؤولية جماعية تتطلب التزام الأجيال الجديدة بدعم هذا الموروث، والترويج له. فالمرأة الجزائرية ليست فقط حارسة على هذا التراث، بل تلعب دورًا محوريًا في تطويره، مما يجعله عنصرًا متجددًا يواكب العصر دون أن يفقد قيمته الثقافية.
وفي هذا الإطار، لا تقتصر جهود الحفاظ على التراث على النساء فقط، بل تعمل الدولة الجزائرية بشكل فاعل في صون الأزياء التقليدية والحرف اليدوية، إدراكًا منها لأهميتها في ترسيخ الهوية الوطنية وتعزيز الشعور بالانتماء. وقد تجلّت هذه الجهود من خلال تسجيل القفطان الجزائري والشدة التلمسانية ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو، وهو ما يعزّز مكانتهما عالميًا ويحميهما من محاولات نسبهما إلى ثقافات أخرى.
وفي المسعى ذاته، تعمل وزارة الثقافة والفنون على دعم الصناعات التقليدية من خلال برامج تدريبية تُعنى بالحفاظ على مهارات الخياطة والتطريز التقليدي، إضافة إلى دورات متخصّصة لمساعدة الحرفيات والمصممات على تطوير منتجاتهن، وجعلها أكثر تناسبًا مع السوق المحلي والدولي. كما تُنظم معارض وطنية ودولية تتيح فرصة الترويج للأزياء التقليدية الجزائرية، مما يمنح المصممات والحرفيات فرصة للتعريف بأعمالهن وكسب المزيد من الدعم والتقدير.
ولتوفير بيئة مناسبة لنقل هذا التراث إلى الأجيال القادمة، تسعى الحكومة إلى إدراج التراث الثقافي في المناهج الدراسية، حتى يتعرف الأطفال والشباب على تاريخ أزياء بلادهم وقيمتها الثقافية. كما أنشأت متاحف متخصّصة لعرض الأزياء التقليدية، من بينها متحف الألبسة التقليدية في تلمسان، الذي يبرز تاريخ الشدّة التلمسانية وغيرها من الملابس التقليدية التي تعكس التنوّع الثقافي للبلاد.
ومع تطور التكنولوجيا، حرصت الدولة على رقمنة التراث، حيث تم إطلاق منصات إلكترونية توثق الأزياء التقليدية الجزائرية والحرف اليدوية، مما يساعد على نشر الوعي الثقافي عالميا، ويسهل وصول الباحثين والمهتمين بهذا التراث إلى مصادر موثوقة.
إضافة إلى ذلك، تشجع الدولة المصممات الجزائريات على المشاركة في عروض الأزياء الدولية، حيث يتم عرض القفطان الجزائري والشدّة التلمسانية في محافل كبرى، مما يعزّز من مكانة الجزائر كدولة غنية بتراثها.إضافة إلى ذلك هناك دعما اقتصاديا مباشرا للحرفيات والمصممات، حيث تُقدم منح مالية ومساعدات تقنية لتشجيع النساء، خاصة في المناطق الريفية، على الاستثمار في الحرف التقليدية، مما يساعدهن في تحقيق الاستقلالية الاقتصادية والحفاظ على مهن الأجداد. هذه الجهود تُظهر أن الحفاظ على التراث ليس مجرد مسؤولية فردية، بل هو مشروع وطني تتعاون فيه الدولة، المؤسسات الثقافية، والمجتمع المدني لضمان استمراريته للأجيال القادمة. ومع كل هذه المبادرات، تبقى المرأة الجزائرية في طليعة هذا المسعى، حيث تواصل دورها في إحياء التراث، سواء من خلال ارتدائه في المناسبات، أو الترويج له عبر المنصات الرقمية، أو تطويره بلمسات إبداعية تجعل منه عنصرا متجدّدا يواكب العصر دون أن يفقد قيمته الثقافية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19719

العدد 19719

الأحد 09 مارس 2025
العدد 19718

العدد 19718

السبت 08 مارس 2025
العدد 19717

العدد 19717

الخميس 06 مارس 2025
العدد 19716

العدد 19716

الأربعاء 05 مارس 2025