إحساسي بالنقص تركته خلفي داخل مركز ذوي الهمم ببومرداس
الحديث عن الوضعية التي يعيشها ذوي الهمم في المجتمع، يقودنا إلى التوغّل في ما وراء الجدران لنكتشف ونتقصّى حكايات وقصص تحمل في طيّاتها الكثير من المعاناة، الألم والوجع من نظرة المجتمع القاسية وحتى من نظرة العائلات التي يعاني أحد أفرادها بأيّ نوع من أنواع الإعاقات والتي ما تزال تحصر هذه الحالات في خانة الطابوهات التي يرفضها المجتمع، لهذا تقوم بإخفائهم عن المجتمع خاصّة إذا ما تعلّق الأمر بإصابة فتاة بالإعاقة والتي حسبهم سترهن حظوظ الفتيات الأخريات بالعائلة في الزواج، هذه المعاناة والوضعية المزرية التي يعيشها ذوي الهمم في المجتمع تقابلها قصص تحدّيات وإصرار على النجاح وإيجاد المكانة المناسبة لهم وسط مجتمع يرفضهم في غالب الأحيان، ليكتبوا أسماءهم بحروف من ذهب ويفرضون وجودهم رغم تلك النظرة القاسية والتنمّر الذي يقابلونه يوميا.
الحديث عن قصص التحدّي والانخراط في الحياة قادنا إلى مقابلة فروجة بلقاسمي، هذه الفتاة الشابة التي تنحدر من عرش سيدي علي موسى بمعاتقة في تيزي وزو، والتي ولدت بإعاقة قصر القامة هذه الحالات التي لا نجدها بكثرة في مجتمعنا بالمقارنة للإعاقات الأخرى.
هذا ما أكّدته في حديثها إلى “الشعب” حيث عادت بذاكرتها إلى قصّة ولادتها التي سمعتها على لسان والدتها، أين أخبرتها أنّها ولدت سليمة مثل باقي الأطفال ولكن عند وصولها لمرحلة الجلوس بدأت تلاحظ أنّها لا تنمو كباقي الأطفال في سنّها، وهو ما دفع بوالديها إلى التوجّه للأطباء من أجل عرض حالتها، ليخبروهم أنّها مصابة بمرض قصر القامة أيّ أنّها لا تنمو كباقي الأطفال، لتبدأ عائلتها رحلة التحدّي من أجل إدماجها في المجتمع، خاصّة وأنّها في البداية لم تتقبّل وضعها كونها الوحيدة التي أصيبت بهذا المرض في العائلة، وكانت في صغرها تتحدّى ابنة عمّها في لعبة الطول أين يقمن بقياس طولها من خلال رسم خط على الجدار، فكانت ابنة عمّها تزداد في الطول في الوقت الذي بقيت هي على حالها وهو ما واجهته أخيرا خلال خمس سنوات وهي تعيد نفس اللعبة معهم.
لتستسلم أخيرا لقدرها وتتقبّل وضعها كونها مختلفة عن باقي الفتيات في عائلتها، التي لم تعتبرها يوما فتاة معاقة وإنّما فتاة مختلفة ومتفرّدة، لدرجة أنّ والدتها كانت تدعمها دائما وتدفعها إلى مواصلة دراستها خاصّة عندما كانت تبكي، بسبب تنمّر الأطفال الآخرين عليها ونظرة المجتمع القاسية لها، حيث كانت تقول لها أنّها هدية الله لها، وأنّها سعيدة وتفتخر بها، ولم تشعر بالخجل بها يوما، بالعكس كانت تفضّلها عن إخوتها وأخواتها.
محدّثتنا أضافت أنّ قصر قامتها كان يعرّضها للحقرة والإساءة من طرف التلاميذ خاصّة عندما تعود بمفردها من المدرسة وتتجه إلى منزلها الذي كان يقع في منطقة منعزلة، ناهيك عن تعجّب الكبار لحالتها حيث كانوا يتعجّبون لقصر قامتها.
كلّ هذه الظروف والمعاناة النفسية التي كانت تعيشها يوميا جعلتها تتخلّى عن حلم الدراسة وكانت تتعمّد عدم القيام بواجباتها وحتى الإجابة في أوراق الاختبار من أجل طردها من المدرسة والعودة إلى المنزل، للانعزال بين جدرانه والتواجد في كنف عائلتها، كونه المكان الوحيد الذي تجد فيه راحتها بعيدا عن أعين الناس، نظرة المجتمع القاسية والتنمّر عليها والذي كان يؤثر سلبا على حياتها.
غادرت فروجة مقاعد الدراسة بعدما وصلت إلى السنة الثامنة متوسط، وبقيت لفترة كبيرة بين جدران المنزل التي كانت تحتضن معاناتها وألمها واختلافها عن باقي الأطفال في سنّها، وكانت تربطها مع والدتها علاقة صداقة وإحسان، ودعم كبير من أجل أن تجابه هذا العالم وتتغلّب على النظرة القاسية وفكرة الإعاقة التي حصرها فيها المجتمع الذي حاول كسرها وتحطيم معنوياتها.
إلاّ أن والدتها وباقي أفراد عائلتها كانوا الدرع الواقي والدعم الكبير الذي أقنعها أخيرا بالعودة إلى الحياة والخروج من قوقعة النسيان التي حصرت فيها نفسها هربا من الحكم المجحف الذي فرضه عليها المجتمع، لتبدأ أولى خطواتها سنة 2009 على مستوى دار الشباب بمعاتقة أين سجّلت في تكوين للحصول على شهادة الإعلام الآلي، والذي صرحت بشأنه أنّها يوم التحاقها بالمكان شعرت بالخجل من نظرة باقي المسجلين في الفوج، إلاّ أنّهم بدلا من ذلك احتضنوها وسعدوا بها حيث قدّموا لها المساعدة من أجل أن تتخطّى خجلها وتتقبّل نفسها كما تقبّلوها، كونها شخص عادي مثلهم ولكنّها مختلفة فقط، وهذا ما ساعدها في المضيّ قدما في مشوارها أين تحصّلت على الشهادة وبعدها تبعتها شهادات أخرى في مختلف التكوينات “الخياطة، الطرز وصناعة الحلويات”، مع تلك الخطوات تغيّرت معالم حياة فروجة التي أصبحت ترى لنفسها مستقبلا زاهرا، وأنّها ستجد لنفسها مكانة في هذا المجتمع من خلال إصرارها وتحدّيها لكلّ العوائق وأولها التنمّر ونظرة المجتمع الضيّقة لحالتها وتغلّبت أخيرا على مخاوفها.
عـــــقــــــدة الـــــنـــــقـــــص أصــــبـــحــــت مــــن المــــاضـــــــي
رحلة التحدّي والانخراط في الحياة بالنسبة لفروجة لم تتوقّف في مجال التكوين المهني على مستوى ولاية تيزي وزو، وإنّما تجاوزتها إلى الالتحاق بمركز ذوي الاحتياجات الخاصّة المتواجد في “قورصو” ببومرداس والذي كان نقطة التحوّل في حياتها، حيث تمنّت دائما أن تتواجد في مكان يخصّها وتنتمي إليه، وتختلط بباقي الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصّة، وهو ما تمكّنت من تحقيقه، وصرحت أنّها أمضت أجمل أيام حياتها داخل المركز خلال سنتي 2015/2016، حيث تلقت تعليما في كافة المجالات وكوّنت صداقات كثيرة مع الأشخاص الذين التقتهم هناك، مضيفة أنّها اكتشفت نفسها وقدراتها، وحتى إمكاناتها لأول مرة داخل جدران المركز، فقد فهمت أخيرا أنّ مهمّتها تكمن في اختلافها.
فروجة الباحثة عن اكتشاف نفسها وإيجاد مكان لها في المجتمع من خلال ولوجها إلى هذا المركز، جعل منها فتاة مفيدة ومساعدة للذين يعانون من إعاقات حركية، حيث كانت تساعدهم في القيام بأشغالهم، وتحفّزهم على المضيّ قدما والتحلّي بالشجاعة والإرادة من أجل تخطّي العقبات، وفهمت أنّها لم تكن تعاني من أيّ شيء بالمقارنة بالمصابين، خاصّة بالإعاقات الحركية والذين وجدوا أنفسهم حبيسي الجدران ومصيرهم مرتبط بالكراسي المتحرّكة.
في حين، كانت هي تتنقل من مكان إلى آخر وتنجز كلّ مهامها في وقتها وبمفردها دون الحاجة إلى مساعدة أحد، ومنها تخطّت فروجة فكرة إعاقتها وعجزها، وخرجت من قوقعة العقدة التي حصرت نفسها فيها لعدّة سنوات، لتخرج منها أخيرا متجاوزة نظرة المجتمع القاسية، تاركة وراءها الأحكام القاسية والتنمّر الذي تعرّضت لها في صغرها، لتكون الفترة التي قضتها في مركز ذوي الاحتياجات الخاصّة بمثابة ميلاد جديد لفروجة، التي خطت بعدها خطوات ثابتة نحو النجاح والمضيّ قدما في الحياة، فلم تعد حياتها متوقّفة على كلمة جارحة أو نظرة قاسية، فقد فرضت الاحترام والتقدير بين وسط كلّ من عرفوها وسيتعرّفون عليها، بعدما كانت نظرة الشفقة والرأفة تلاحقها أينما حلّت.
انخـــرطــــت في جـــمـــعـــيـــة “ثـــافــــاث” لإحــســاســي بمــعــانــاة منـــتــســبــيــهــا
العمل الجمعوي كان تحدّي جديد لفروجة من أجل فرض نفسها في المجتمع والانخراط في الحياة، حيث التحقت بجمعية “ثافاث” لذوي الاحتياجات الخاصّة ببلدية سوق الاثنين بمعاتقة، والتي اهتمت بشؤون ذوي الهمم في المنطقة والمناطق المجاورة منذ تأسيسها، الأمر الذي دفع بها إلى الانخراط فيها وانتخابها كنائب رئيس الجمعية وهذا نظرا لجهودها الجبارة والتي تبذلها في مساعدة هذه الفئة، خاصّة وأنّهم قد فتحوا لها ورشة خياطة والتي تحوّلت إلى ملاذ الفتيات من ذوي الهمم التي رفضت عائلاتها التحاقهنّ بمراكز أو تكوينات خارج المنطقة.
لتتولى هي تعليمهنّ وتكوينهنّ للحصول على شهادات مختلفة في “الخياطة، الطرز، صناعة الحلويات والإعلام الالي”، وبالتالي منحتهنّ أملا من أجل إثبات وجودهنّ في الحياة وتخطي العقبات والعراقيل، ليفرضن هنّ أيضا وجودهنّ في الحياة.
كما أنّها فتحت المجال لدخولهنّ عالم السوق والتجارة من خلال بيع منتوجاتهنّ والحصول على قوت يومهنّ، فأصبحن يتعاملن مع التجار الذين فتحوا لهنّ الأبواب من أجل شراء المنتوج، كما يتلقين طلبيات في المنازل من العديد من العائلات خاصّة في فترة الأفراح والأعراس، حيث تحوّلت نظرة الشفقة إليهنّ إلى اعتبارهنّ عاملا مهمّا في المجتمع يقدّم خدمات راقية وتستحقّ التشجيع.
هذا ما كانت تصبو إليه فروجة التي أخذت على عاتقها مساعدة هذه الفئة كونها الأقرب إليهم من أيّ شخص آخر وتحسّ بمعاناتهم التي مرّت عليها أيضا في مشوار حياتها وتخطتها بإرادتها وعزيمتها في العيش والانخراط في الحياة رغم إعاقتها.
العقبات التي مرّت بها فروجة والتحلّي بالإيمان وتقبّل نفسها، إلى جانب إرادتها القويّة في بناء شخصيتها وفرض وجودها في هذا المجتمع، جعل منها اليوم رقم لا يستهان فيه في العمل الجمعوي بمنطقتها، إلى جانب كفاحها من أجل تسليط الضوء على الحالات التي ما تزال مخفية داخل جدران المنازل، وتعاني بصمت بسبب رفض عائلاتهم إخراجهم من قوقعة الظلام التي دفنوهم فيها، بدواعي الخجل منهم والخوف من نظرة المجتمع القاسية، إلى جانب اعتبار الإعاقة من طابوهات المجتمع التي لم تستطع بعض العائلات تجاوزها إلى غاية يومنا هذا.
كلّ هذه الظروف المزرية المحيطة بذوي الاحتياجات الخاصّة أصبحت اليوم الشغل الشاغل لفروجة التي تريد أن تصنع الفارق وتمنح هذه الفئة مكانة تليق بها داخل المجتمع، بعيدا عن المعاناة في صمت والتي تؤلم أكثر من الإعاقة نفسها، مضيفة أنّ الإعاقة لا تؤلم بقدر ما تؤلم نظرة وحكم المجتمع عليهم.
فروجة اليوم أضافت إلى جعبتها وظيفة في مصنع للخياطة بالمنطقة للتكفل بكافة احتياجات والديها، مصرحة أنّها سعيدة بأداء واجبها إزاء والديها الذين أصبحا مرتبطين بها، حيث ملأت عليهما المنزل بحيويتها واهتمامها بهما بعد تزوّج إخوتها وأخواتها، لتكون هي كلّ شيء بالنسبة لهما، وهذا ما يحفّزها أكثر على المضيّ قدما في الحياة، وعيناها تملؤهما شعلة الأمل والإرادة في غد أفضل، خاصّة مع الإمكانات التي وفرتها لهم الدولة من منحة، ومؤسّسات متخصّصة.
لكنّها تصبو إلى الاهتمام أكثر بفئة ذوي الاحتياجات الخاصّة بمنحهم الفرصة في العمل والوظيفة شأنهم شأن الأشخاص العاديين، كونهم يملكون قدرات على صنع الفارق وتقديم الأفضل، كما تتمنّى أن يعاد النظر في بعض القوانين من أجل تحسين ظروفهم المعيشية خاصّة الذين ما يزالون حبيسي الجدران ولا يعلم بهم أحد.