على الرغم من تراجع حالات العنف المسجّلة بولايتي عين الدفلى والشلف حسب من تحدّثوا إلينا، غير أنّ الظاهرة لازالت تشكّل نقطة سوداء في النسيج الاجتماعي والسلوكيات الفردية داخل العائلة وخارجها، ممّا يتطلّب تضافر الجهود بين كلّ مكوّنات المجتمع التي تعدّ فيها المرأة من الركائز الأساسية الإسمنتية لبنائه، الأمر الذي يفتح مجالا للتحسيس والتوعية.
التراجع في إحصاء الحالات المسجّلة، أفرزته طبيعة الحياة والعلاقات الإجتماعية والتطوّرات التي لحقتها وصارت تتحكّم فيها حسب رأي مجموعة من الأشخاص ممّن تحدّثوا إلينا على اختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية ومحصّلاتهم الدينية المرجعية.
فظاهرة العنف كمحصّلة ناجمة عن تراكمات واحتكاك مباشر ومعاشرة يومية في مختلف المواقع من الأنشطة واللقاءات المباشرة والتعاملات. باتت حسب المختصّين الاجتماعيين والنفسانيين من أهم المغذّيات لظاهرة العنف ضدّ المرأة عندما يسجل الإخلال في المعاملة والرتبة الإجتماعية والمهنية وتضارب المفاهيم والأهداف، تقول حرية وصفاء وعائشة من عين الدفلى ومدينة تنس بالشلف.
فمظاهر الطلاق والفرقة داخل الأسر قد لا تكون مرتبطة بظاهرة العنف بل لها جذور وأسباب داخل منظومة الأسرة والصراعات التي تحدث بها، سواء كانت للمرأة ضلع فيها أو مسؤولية الرجل هي الأقرب إلى التأثر المباشر، ما يزيد من هوّة الانشقاق بين أفراد الأسرة الواحدة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار تأثير العنف على الأطفال نجد أنّ نتائجه المتوسطة والبعيدة كارثية على النسيج المجتمعي والأسرة.
وتعرّف المواثيق القانونية العنف الممارس ضدّها بأنّها أيّ فعل عنيف ضدّ المرأة أو الفتاة يترتّب عنه أذى أو معاناة من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية أو إلحاقها بتهديدات من هذه الأفعال المشينة التي تلحق بها أضرارا متعدّدة.
غالبًا ما يُنظر إلى هذا العنف على أنّه آلية لإخضاع النساء، سواء في المجتمع بشكل عام أو في العلاقات الشخصية. قد ينشأ هذا العنف من شعور بالاستحقاق أو التفوّق أو كره النساء أو المواقف المماثلة في الجاني، أو بسبب طبيعة بعض الرجال العنيفة، وخاصّة ضدّ النساء.
«وينصّ إعلان الأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضدّ المرأة على أنّ العنف ضدّ المرأة هو مظهر من مظاهر علاقات القوة غير المتكافئة تاريخيا بين الرجال والنساء وهو إحدى الآليات الاجتماعية الحاسمة التي تضطرّ المرأة بموجبها إلى الخضوع بالمقارنة مع الرجل.”
إنّ “العنف ضدّ المرأة يُفهم على أنّه انتهاك لحقوق الإنسان وشكل من أشكال التمييز ضدّ المرأة ويعني جميع أعمال العنف القائم على أساس نوع الجنس التي تؤدّي إلى أضرار بدنية أو جنسية أو نفسية أو اقتصادية أو من المحتمل أن تؤدّي إلى ذلك بما في ذلك التهديد بمثل هذه الأعمال أو الإكراه أو الحرمان التعسّفي من الحرية”.
لذا كانت القوانين الجزائرية واضحة في معالجة الظاهرة التي تفاقمت خلال السنوات المنصرمة، من خلال تسجيل حالات دفعت المرأة ضريبتها، مسجلة بعض الاختلالات في مصير الأسرة والنسيج الاجتماعي الذي بات حسب تصريحات كثيرة من أطياف المجتمع بحاجة إلى ردع هذه السلوكيات من التعنيف والقضاء على ممارسات أفعالها، ردع يعتبره المختصّون مسؤولية الجميع كلّ حسب موقعه ومركزه المهني والاجتماعي.
هذا النداء والرغبة التي يرفعها هؤلاء من محدّثينا تهدف إلى تطويق الظاهرة والعودة إلى قيمنا الأخلاقية والدينية والاجتماعية والأسرية وموروثنا الحضاري بنماذجه الرائعة خاصّة في الفترات الزاهية للمجتمع العربي الإسلامي الذي أنزل المرأة منزلة مرموقة، فكرّمها وأحاطها بالرعاية والحب والمعاشرة الطيبة والعلاقة المشتركة في الكينونة، من منطلق “النساء شقائق الرجال”، حسب ما قاله الإمام الخطيب محمد في إحدى منابره الدعوية والتحسيسية، فالإحساس بالكينونة حسب الأديبة المفكّرة اللبنانية كيال: “المرأة امرأة إن وجدت رجلا” مقدّرا حاميا لها ومقدّرا لموقعها ورسالتها النبيلة.
لكن وحسب ما استقيناه من أغلب محاورينا فإنّ الإجماع ينصبّ حول إعادة ترسيم وترسيخ معالم القناعة والثقة بوجود طرفين مكمّلين لبعضهما البعض في أيّ موقع من مواقع النشاط، وتكون حسب هؤلاء بواسطة اللقاء المباشر من خلال التظاهرات والموائد المستديرة والفعاليات المتنوّعة داخل المؤسّسات والمراكز والمنابر المتعدّدة الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية.
فالإحساس بهذا والشعور المشترك به وترسيخه، كفيل بالقضاء على الظاهرة، ناهيك عن أدوار التحسيس والتوعية التي يقوم بها المجتمع المدني على قلّة جمعياته المتخصّصة بكلّ من الشلف وعين الدفلى يقول أحد ممثلي الجمعيات وزميلته فائزة في التنظيم النشط في هذا المجال.
قبول الآخر للحدّ من العنف
أما بخصوص تعدّد مظاهر وأشكال ظاهرة العنف التي تلحق المرأة وغيرها، فإنّ التنوّع لا يسقط الأثار الوخيمة المترتبة عن الظاهرة وضحيتها، لأنّ العنف المعنوي الذي يحدّده الاعتداء اللفظي كالقذف والشتم أو الإكراه أو التهديد أو الإهمال والحرمان من الحقوق والحريات والإهانة والسخرية والتقصير في الأفعال التي حدّدها القانون، تبقى من الممارسات المسيئة للمرأة التي خلقت من ضلع أعوج ليسكن الإنسان فيها.
العناية بها وصونها من صون الإنسان لنفسه وتعزيز العلاقة مهما كان حجمها وطبيعتها يقول الأستاذ ع. رياض من خميس مليانة، لذا تنوّع العنف ضدّ المرأة بتنوّع طبيعته، فمن العنف المادي أو الجسدي وما يحدثه من تشويه وحرق إلى عنف جنسي عبر زاوية الإكراه وتحدّي الرغبة والميل والشعور.
هذه مواقف نسجّلها بكلّ أسف بعيدة عن الإحساس الاجتماعي والإنساني والأسري الذي يتجاهله الرجل أو كلّ من كان وراءه، هذه المظاهر والوضعيات والسلوكيات اللاأخلاقية تتبع بممارسات أخرى كالعنف السياسي والاقتصادي التي صارت مظاهره تختفي بفعل قبول الرأي والرأي الآخر على إختلاف موقعه ومرجعيته والفضاء الذي ينشط فيه دون تمييز.
هذه المظاهر والوضعيات آن لها أن تختفي بفعل مشاركة واندماج الجميع في منظومة قامت على مبدأ الثنائية والتعايش والقبول بالآخر، انطلاقا ممّا تقرّه المواثيق والشرائع الدينية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية.