كثيرا ما يعود الحديث عن مرض سرطان الثدي إلى الواجهة خلال شهر أكتوبر الوردي، الذي اقترن اسمه باسم هذا المرض الفتاك الذي يحصد أرواح العديد من النساء، خاصة في حالة عدم الكشف المبكر عنه، إلا أن هذا الموضوع يحجب الحديث عنه في باقي أيام السنة، وتقتصر تفاصيله المؤلمة وسط العائلات التي تحوي على حالة إصابة في العائلة، أو بين أروقة المستشفيات والعيادات الخاصة التي تعج بحكايات وروايات، تحتضنها جدران المنازل التي يسودها الصمت خوفا من انتشار الخبر.
قسم أمراض النساء بمستشفى “بالوة” الكائن مقره بأعالي رجاونة في تيزي وزو، من بين المنشآت الصحية التي تسهر طواقمها الطبية على توفير الدعم للمصابات بسرطان الثدي، خاصة الدعم النفسي الذي يعد من الضروريات القصوى للمريضات اللاّئي تتغير تفاصيل حياتهن، ويجدن أنفسهن بين أحضان هذا القسم الذي يختزل معاناتهن في حكايات تبكي القلب قبل العين، إلا أنهن يتحلين بالقوة والصبر، ويواسين بعضهن من أجل تحمل فكرة التخلي عن جزء من أجسادهن، ولسان حالهن يقول: “لا أبالي إن خسرت جزءا من جسدي...المهم أن أحيا وأعيش لأطفالي”، و«لا أبالي من نظرة المجتمع القاسية ما دامت عائلتي تقبلني بهذا التغيير”.
تجاوز صدمة الإصابة
هذه العبارات تتردّد كثيرا إلى مسامعنا من أفواه المريضات وهنّ ينتظرن أدوارهن للدخول إلى غرفة العمليات من أجل إجراء عملية استئصال الثدي والتغلب نهائيا على المرض، فهذا يمنحهن فرصة ثانية للحياة.. هذه المدة الزمنية القصيرة التي تجمع نساء من مختلف الأعمار والمناطق تتحول إلى وقت طويل يصعب فيه الانتظار أو إيجاد الكلمات من أجل المواساة وتحضير المريضة للعملية، ولكن رغم ذلك تتخللها فترات من الضحك وسرد تفاصيل حكايتهن مع المرض منذ اكتشافه، وتلقي الخبر لأول مرة من طرف الطبيب المعالج ورحلة العلاج الطويلة الى غاية الوصول الى غرفة العمليات.
العلاج من سرطان الثدي حسب المريضتين “د-م” و«ر-ب” اللتين التقتهما “الشعب” على مستوى قسم أمراض النساء بـ “بالوة”، هي رحلة تحدّ يلعب فيها العامل النفسي دورا مهما من أجل التغلب على المرض، واستكمال مراحل العلاج دون التخلي عن الرغبة في الحياة خاصة في خضم التغيرات التي تطرأ على جسد المريضة من تساقط الشعر، وتغير ملامح وجهها أو حتى معاناتها مع العلاج وآلامه التي تصل إلى حد البكاء في بعض الأحيان.
هي رحلة معاناة تحتاج إلى الدعم المادي والمعني والنفسي للمريضة، والذي وجب على العائلة توفيره لها رغم معايشة نفس الأمر بالنسبة لأفراد العائلة الذين يعانون في صمت أكثر من المريضة في حد ذاتها، كونهم يحاولون بكل الطرق دعمها نفسيا ومسايرتها في هذه الرحلة الصعبة، كما يقومون بتوفير كل ما تحتاجه ومسايرتها في كل طلباتها، خاصة إذا تعلق الأمر بتوفير العلاج الطبيعي وبعض خلطات الأعشاب التي تتأمل المريضة في تحقيق معجزة وشفائها دون الوصول إلى عملية الاستئصال الذي يكون الهاجس الأكبر للمريضة، إلا أن هذه الإمكانات المتوفرة لبعض المريضات تعجز بعض العائلات الأخرى عن توفيرها للمريضة.
وهذا ما أكّدته المريضة “د-م” في تصريحها، حيث أشارت إلى أنّها استطاعت تجاوز المراحل الأولى من المرض والإقبال على العلاج الكيمياوي بعدما ساعدتها الخلطات الطبيعية - حسبها - في تفادي تفاقم المرض، وهو ما أظهرته التحاليل التي أجرتها، وهذا ما منحها الأمل في الشفاء، ولكن بعد استكمال العلاج الكيمياوي اتّخذ الأطباء قرار ضرورة استئصال ثديها، وهو الأمر الذي لم تتقبله بتاتا، ما دفع الأطباء الى مسايرتها وتحضيرها نفسيا لتقبّل الأمر كونه يدخل في مصلحتها، ويعزز فرصة شفائها وبقائها حية، لتتقبّل أخيرا القرار بمساعدة المريضات اللائي كنّ برفقتها وحتى أفراد عائلتها، لتدخل غرفة العمليات وهي مطمئنة من صحة قرارها وقرار الأطباء.
المريضة “ر-ب” قالت إنّ مرضها بقي سرا بينها وبين زوجها فقط، ولم تخبر أي أحد كي لا تفسد فرحة أهلها بالتحضير للعرس، وأضافت أنها طيلة تلك الفترة التي سبقت إجراء العملية لم تكن تتحدث عن مرضها أو حتى تذرف دمعة واحدة، وقد كانت قوية طيلة الوقت من أجل زوجها وأولادها، خاصة وأنها فقدت رضيعها بعد إصابته بورم في رأسه.
كل هذه الظروف دفعت بها إلى اتخاذ قرار استئصال ثديها من أجل أن تعيش لزوجها وأولادها وتتكفل بتربيتهم، هذه القوة والصبر التي كانت تتمتع بهما المريضة كانا محفّزين للكثير من المريضات في ذلك القسم أين كانت تقدم لهن نصائح وتشجعهن على أن يخطون هذه الخطوة رغم صعوبتها، طالبة منهن التمسك بالحياة والعيش لأفراد عائلاتهن، إلا أنها في الأخير انهارت بعد إجراء العملية حيث أخبرتني أنّها طيلة فترة مرضها لم تبك، ولكنها تمكّنت من إخراج وجعها الذي أخفته طويلا، ولم يستمر الوضع طويلا وعادت إلى بشاشتها وحديثها، الذي لا ينتهي وهي مقبلة على الحياة.
غرفة العمليات ليست آخر مرحلة
غرفة العمليات ليست المرحلة الأخيرة لرحلة العلاج من سرطان الثدي، بالنسبة للمريضات حتى بعض استئصال الثدي، حيث ينتظرهن علاج آخر وتحاليل أخرى للتأكد نهائيا من شفائهن وتجاوزهنّ مرحلة الخطر نهائيا، لهذا وجب استمرار الدعم النفسي للمريضات، وإخراجهن من دائرة الشفقة، وتجاوز نظرة النقص، فهي - في غالب الأحيان - سبب انتكاسة المريضة وعدم القدرة على الاندماج في المجتمع مجددا، والعودة الى حياتها الطبيعية خوفا من النظرة القاسية للمجتمع، فمرض السرطان ليس عارا تستحي به المرأة وتتفادى الحديث فيه، إنما هو مرض يحتاج إلى مساعدة ودعم مادي، معنوي ونفسي من أجل تجاوز هذه المرحلة الصعبة من الحياة.