في وداع سيدة المسرح العربي..سميحة أيـوب

حين يتحـول الفـن إلى وصيـة..

أسامة إفراح

رحلت سيدة المسرح العربي، الفنانة القديرة سميحة أيوب، تاركة خلفها إرثًا فنيًا استثنائيًا امتدّ لأكثر من سبعة عقود. ونستذكر اليوم رسالة اليوم العالمي للمسرح التي كتبتها الفقيدة قبل عامين، وحمّلت فيها المسرح وأهله مسؤولية مقاومة العزلة والعنف والتطرف، والدفاع عن القيم الإنسانية الرفيعة. كانت تلك الرسالة بمثابة وصية روحية اختزلت مسيرتها، دعت فيها إلى مواجهة ظلام الجهل والتطرف بنور الفن، والتمسك بجوهر الإنسان المتسامح والمحب، في عالم يضجّ بالتنافر والصراعات.

رحلت “سيدة المسرح العربي”، الفنانة القديرة سميحة أيوب، عن عمر يناهز 93 عاما، بعد مسيرة فنية حافلة، جعلت منها رمزا من رموز الفن المصري والعربي.
بدأت الفنانة الراحلة مسيرتها الفنية الطويلة منذ عام 1947، من خلال فيلم “المتشردة”، لتعتبر صاحبة أطول مسيرة فنية في تاريخ السينما العربية، حيث تجاوزت سنوات عملها السينمائي والتلفزيوني 77 عامًا. ولكن المسرح كان ميزتها الأولى، حيث قدمت أكثر من 100 عرض مسرحي.
من أجل ذلك، اختارت الهيئة الدولية للمسرح، قبل عامين (2023)، الفنانة الراحلة، لكتابة رسالة اليوم العالمي للمسرح في طبعته 62.
ولعلنا نعود، في هذه المناسبة الأليمة، إلى رسالتها، تذكيرا ببعض أفكارها، واستذكارا لقيمها السامية التي دافعت عنها في هذه الرسالة.

عالم اليـــوم..جــزر منعزلـة وسفن هاربــة في الضبـاب

كانت فاتحة رسالة سميحة أيوب بالتأسف لما يعيشه العالم من حروب وكوارث، حيث قالت: “أصدقائي المسرحيين في جميع أنحاء العالم..أبث إليكم هذه الكلمة في ذكرى اليوم العالمي للمسرح، وبقدر ما يعتريني من شعور غامر بالسعادة أنني أتحدث إليكم، فإن كل ذرة في كياني تختلج تحت وطأة ما نعانيه جميعاً ـ مسرحيين وغير مسرحيين ـ من ضغوط طاحنة ومشاعر صادمة وسط ما ينتاب العالم من حالة من عدم الاستقرار كنتيجة مباشرة لما يمر به عالمنا اليوم من صراعات وحروب وكوارث طبيعية، كانت لها آثارها المدمرة ليس فقط على عالمنا المادي، وإنما كذلك على عالمنا الروحي وسلامنا النفسي”.
وبكثير من الألم، وصفت الفنانة الراحلة العزلة التي يجسدها عالم اليوم، رغم كلّ أسباب التقارب والتعاون، وهي المفارقة التي قالت عنها: “أتحدث إليكم اليوم بينما ينتابني شعور بأن العالم بأسره بات كالجزر المنعزلة، أو كالسفن الهاربة في أفق معبأ بالضباب، كل منها ينشر شراعه ويبحر على غير هدى، ليس يرى في الأفق ما يهديه، ورغم ذلك يكمل إبحاره آملاً أن يصل إلى مرفأ آمن يحتويه بعد تيه طويل وسط أمواج بحر هادر”.
وأضافت قائلة: “لم يكن عالمنا الواحد أكثر التصاقاً ببعضه البعض منه اليوم، إلا أنه وفي ذات الوقت لم يكن أكثر تنافراً وابتعاداً عن بعضه البعض منه اليوم. وهنا تكمن المفارقة الدراماتيكية التي يفرضها علينا عالمنا المعاصر. فرغم ما نشهده جميعاً من تقارب في تداول الأخبار والاتصالات الحديثة التي كسرت كل حواجز الحدود الجغرافية، إلا أن ما يشهده العالم من صراعات وتوترات فاقت حد التصور المنطقي وخلقت وسط هذا التقارب الظاهري تباعداً جوهرياً تنئ بنا عن الجوهر الحقيقي للإنسانية في أبسط صورها”.
«إن المسرح في جوهره الأصلي هو فعل إنساني محض قائم على جوهر الإنسانية الحقيقي ألا وهو الحياة. وعلى حد قول الرائد العظيم قنسطنطين ستناسلافسكي (لا تدخل المسرح بالوحل على قدميك. اترك الغبار والأوساخ في الخارج. تحقق من ترك مخاوفك الصغيرة والمشاحنات والصعوبات البسيطة مع ملابسك الخارجية ــ كل الأشياء التي تدمر حياتك وتلفت انتباهك بعيدًا عن فنـــّك ـ عند الباب.) عندما نعتلي خشبة المسرح فإننا نعتليها وبداخلنا حياة واحدة لإنسان واحد، إلا أن هذه الحياة لديها قدرة عظيمة على الانقسام والتوالد لتتحول إلى حيوات كثيرة نبثها في هذا العالم لتدب فيه الحياة وتورق وتزدهر فقط لننتشي بعطرها مع الآخرين”، واصلت سميحة أيوب في رسالتها.

المسرح..ورسالته النبيلــة

وذكّرت الفنانة الراحلة برسالة المسرح والمسرحيين، الذين تقع على عاتقهم مسؤولية مواجهة الظلام: “إن ما نقوم به في عالم المسرح كمؤلفين ومخرجين وممثلين وسينوغرافيين وشعراء وموسيقيين ومصممي كوريغرافيا وحتى كتقنيين وفنيين، كلنا بلا استثناء، إنما هو فعل لخلق حياة لم تكن موجودة من قبل أن نعتلي خشبة المسرح. هذه الحياة تستحق يداً حانية تتعهدها وصدراً حنوناً يحتضنها وقلباً حانياً يأتلف معها وعقلاً رزيناً يوفر لها ما تحتاجه من أسباب الاستمرار والبقاء”.
وأضافت سميحة أيوب: “ربما لا أغالي عندما أقول إن ما نقوم به على خشبة المسرح هو فعل الحياة نفسها وتوليدها من العدم، كجمر مشتعل يبرق في الظلمة فيضيء ظلمة الليل ويدفئ برودته. نحن من يمنح الحياة رونقها..نحن من يجسدها..نحن من يجعلها نابضة ذات معنى..ونحن من يوفر الأسباب لفهمها. نحن من يستخدم نور الفن لمواجهة ظلمة الجهل والتطرف. نحن من يعتنق مذهب الحياة لتدب في هذا العالم الحياة. ونبذل من أجل ذلك من جهدنا ووقتنا وعرقنا ودموعنا ودمائنا وأعصابنا كل ما يتوجب علينا بذله من أجل تحقيق هذه الرسالة السامية مدافعين بها عن قيم الحق والخير والجمال ومؤمنين بحق أن الحياة تستحق أن تعاش”.
وواصلت فقيدة المسرح العربي: “أتحدث إليكم اليوم لا لمجرد الحديث أو حتى للاحتفال بأبي الفنون جميعاً (المسرح) في يومه العالمي، وإنما لأدعوكم لتقفوا صفاً واحداً كلنا جميعاً، يداً بيد وكتفاً بكتف لننادي بأعلى صوتنا كما اعتدنا على منصات مسارحنا ولتخرج كلماتنا لتوقظ ضمير العالم بأسره أن ابحثوا في داخلكم عن الجوهر المفقود للإنسان..الإنسان الحر السمح المحب المتعاطف الرقيق المتقبل للآخر ولتنبذوا هذه الصورة القميئة للوحشية والعنصرية والصراعات الدموية والأحادية في التفكير والتطرف والغلو..لقد مشى الإنسان على هذه الأرض وتحت هذه السماء منذ آلاف السنين وسيظل يمشي فلتخرجوا قدميه من أوحال الحروب والصراعات الدموية ولتدعوه لتركها على باب المسرح، لعل إنسانيتنا التي أصبح يعتريها الشك تعود مرة أخرى يقيناً قاطعاً يجعلنا جميعاً مؤهلين بحق أن نفخر بأننا بشر وبأننا جميعاً أشقاء في الإنسانية”.
«إنها رسالتنا نحن المسرحيون حملة مشعل التنوير منذ أول ظهور لأول ممثل على أول خشبة مسرح أن نكون في طليعة المواجهة لكل ما هو قبيح ودميم ولا إنساني، نواجهه بكل ما هو جميل ونقي وإنساني..نحن ولا أحد غيرنا..نمتلك القدرة على بث الحياة..فلنبثها معاً من أجل عالم واحد وإنسانية واحدة”، قالت الراحلة سميحة أيوب في ختام رسالتها بمناسبة اليوم العالمي للمسرح، ولعلها كانت أيضا خلاصة لرسالتها في الحياة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19791

العدد 19791

الخميس 05 جوان 2025
العدد 19790

العدد 19790

الأربعاء 04 جوان 2025
العدد 19789

العدد 19789

الثلاثاء 03 جوان 2025
العدد 19788

العدد 19788

الإثنين 02 جوان 2025