يقدّم لنا الدكتور جهاد تواتي، في كتابه الصادر حديثا “كارل ياسبرس وفلسفته”، نبذة عن الفيلسوف من خلال حياته، مؤلّفاته وأصول فكره الفلسفي، وموقفه من التيــارات الرافضة للفلسـفة التأمّلية. كما يسلّط الكتاب الضوء على تجلّيات فلسفة ياسبرس في الواقع العلمي، وعلى وجه الخصوص في الواقع الطبي، وأيضا في الواقع السياسي، من حيث نقد الأسلوب السياسي المعاصر، والدعوة إلى نشر السلام العالمي.
صدر حديثا كتاب “كارل ياسبرس وفلسفته”، عن دار “ألفا للوثائق”، يتناول فيه مؤلّفه، الدكتور جهاد تواتي (المدرسة الوطنية العليا للأساتذة، قسنطينة)، في 165 صفحة، جانبا من فلسفة البروفيسور في الطب النفسي والفيلسوف الألماني كارل ياسبرس (1883 ــــ 1969).
يقول تواتي في مقدّمة الكتاب إنّ الفكر الفلسفي يسعى، منذ ظهوره، إلى التجديد وإبداع النظريات وإنشـاء المذاهب. وانصبّ هذا الأمر في غايته على ترقية حياة الإنسان، فكانت الفلسفة الغربية المعاصرة بمثابة دفاع عن الإنسان من خلال المذهب الوجودي الذي أسّسه كبار الفلاسفة المهتمين بالإنسان، “فمنهم الوجوديون الملحدون (وفقا لتعبير الكاتب) الذين يئسوا من إمكانية إيجاد حلّ لمشاكل الإنسان وهمومه ومستقبله، فمالوا بذلك إلى العدمية واليأس من مستقبل الإنسان جرّاء الأزمات السياسية والاقتصادية التي ألحقت الدمار بالبشرية في القرن الماضي، ومنهم من آمن بسعادة الإنسان وقدّم الوسائل التي تضمن ذلك، ورأى بأنّ ذلك ممكن لو أنّ الفلسفة تستعيد مكانتها ووظيفتها الروحية”، يقول تواتي، مشيرا إلى أنّ من هؤلاء “الفيلسوف الوجودي المؤمن” كارل ياسبرس، الذي اهتمّ كثيرا بموضوع الفلسفة والقيمة الإنسانية التي تحملها، هذه القيمة التي أهملها رواد الفكر الحديث بسبب توجّههم إلى البحث في مضامين العلم التجريبي، “ومعنى هذا أنّ مشكلة العلاقة القائمة بين الفلسفة والعلم هي التي أثارت اهتمام ياسبرس بموضوع الفلسفة، وهي العلاقة التي سنعرض الملامح الكبرى لتطوّرها من الناحية التاريخية، حتى نبيّن الأسباب والدوافع التي جعلت بعض الفلاسفة المعاصرين يطرحون مشكلة الفلسفة وخاصّة كارل ياسبرس.”
الفلسفة القديمة والعلم
يلاحظ الكاتب بأنّ الفلسفة كانت قديما، على خلاف ما هي عليه اليوم، مرتبطة بالعلم، لأنّ الفيلسوف في تلك الفترة هو الملمّ بجميع المعارف، سواء كانت معارف طبيعية أم معارف إنسانية، فالفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس، إضافة إلى كونه فيلسوفا، كان عالما فلكيا ورياضيا إلى درجة أنّه تنبأ مرة بحدوث الكسوف، ولم تخرج أفكار فيثاغورس كذلك عن هذا الإطار، لأنّه تناول مجالات علمية كثيرة كعلم الفلك، علوم الطبيعة، الطب.
من هنا كانت الفلسفة هي المعرفة الشاملة، وكان لأرسطو كذلك اهتمامات علمية ضخمة، حيث أحاط بعلوم الجوّ والطبيعيات والرياضيات والفلك، إلى جانب ما كتبه في مجال الفلسفة، من مضامين ميتافيزيقية، سياسية أخلاقية فنية وغيرها، حيث أكّد مؤرخ العلم جورج سارتون على أنّ تاريخ أرسطو ليس تاريخا للفلسفة فقط، بل هو تاريخ العلم من جهة أخرى. وهذا دليل على أنّ الفلسفة في اليونان نشأت وتطوّرت إلى جانب العلم، فلم يكن فاصل بينهـما وامتدّ هذا الارتباط إلى العصر الوسيط على الرغم من ارتباط الفلسفة بالدين ارتباطا أساسيا، لأنّ العلوم التي درسها أرسـطو أثرت بقوّة في تلك الفـترة، على الفكر المسيحي، كمـا استفاد منه فلاسفة الإسـلام وألّفوا كتبا كثيرة وغنية في الكيـمياء والطب والرياضيات والموسيقى والشعر والبلاغة، كما هو الشأن بالنسبة لابن سينا الذي جاءت كتاباته متنوّعة شملت الطب، الموسيقى، علم النبات والمنطق والطبيعيات والإلهيات والأجرام العلوية…ولم يكن ابن ســينا لوحده من جمع في معارفه بين الفلسفة والعلم في المرحلة الوسيطية، بل هناك فلاسفة آخرون مثل الكندي، الفارابي وابن رشد وغيرهم. ولكنّ تأثير أرسطو في الفكر الوسيط دفع بعض المؤرّخين إلى الحكم على أنّه جمّد التفكير البشري وحصره في منطق يتنافى مع روح البحث والاكتشاف.
الثورة على الإرث الأرسطي
ثمّ يتطرّق الكاتب إلى ما وصفه بـ «مشكلة العلاقة بين الفلسفة والعلم في العصر الحديث”، قائلا إنّ الانفصال بينهما هو الذي ساد في هذه المرحلة، لأنّ العلماء قد ميّزوا وفصلوا بين العلوم النظرية التي يعتمد أصحابها في البحث على التأمّل العقلي المجرّد، والعلوم التجريبية التي يعتمد أصحابها في البحث على وسائل مادية حسية ملموسة، والتي أكّد عليها روجر بيكون في القرن الثالث عشر للميلاد، حيث كان التجريب هو الطريقة المثلى للبحث، لأنّه يؤدّي إلى اكتشاف الحقائق الجديدة، وهذا هو أساس العلم التجريبي الذي يمكّن من السيطرة على لواحق الطبيعة، فظهر بذلك التيار العلمي كاتجاه جديد في المعرفة يتمتع باستقلاليته عن الفلسفة.
وكانت الفيزياء أول ما انفصل على يد كوبرنيكس وكيبلر، ليأتي فيما بعد فرنسيس بيكون بالأورغانون الجديد رافضا نسق أرسطو مقدّما لأسس المنهج التجريبي الحديث، وكان أول ما ثار عليه هو المنطق الأرسطي الذي جمّد الفكر وأعاق عملية البحث الواسع، خاصّة في مسألة القياس التي رأى فيها أنّ أرسطو قد حصر عملية الاستدلال في مقدّمتين فقط لا يمكن للفكر أن يتجاوز حدودهما، والصواب في هذه المسألة هو أنّه لكي نحصل على نتيجة دقيقة وخصبة يجب أن نبحث على أكبر عدد ممكن من الحقائق الجزئية، وهذا هو مبدأ الاستقراء الذي نادى به بيكون كمنهج علمي جديد سلكه كبار علماء الفيزياء وعلى رأسهم نيوتن الذي فصل الفيزياء عن الفلسفة فصلا نهائيا، وتلى ذلك انفصال علم الكيمياء بعد اكتشاف الهيدروجين وإحداث تركيب الماء، وبعدها وضع دالتون النظرية الذرية على أساس رياضي، ليكون البحث الكيميائي قد دخل عصرا جديدا من التقدّم، ثم استقل علم الأحياء على يد كلود برنار، وفي بداية القرن العشرين ظهر كلّ من علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا كعلم قائم بذاته موظفا معطيات المنهج التجريبي كي تكون على درجة عالية من اليقين الذي لم تبلغه الفلسفة.
مراجعة أسس التفكير الراهن
هذا هو السبب الذي أدّى إلى إعادة طرح موضوع الفلسفة من جديد وجعل كارل ياسبرس يطرح مشاكل الإنسان الراهن بطريقته الإنسانية في الفلسفة، تحت لواء المذهب الوجودي الذي يعبّر عن القلق الإيجابي تجاه الواقع المعاصر، الموجّه نحو تكوين واقع أفضل، على أساس أنّ الظروف التي نعيشها قد طغى عليها الاكتشاف العلمـي الهائل والتقدّم التكنولوجي السريع بما هو محصّلة التوجّه التجريبي للفكر الحديث، الأمر الذي جعل الآلة سيّدة على الوجود الإنساني وجعل هذا الأخير عبدا لها.
«من هنا كان علينا نحن كباحثين في الفلسفة أن نراجع الأسس التي يقوم عليها التفكير الراهن، وأن نسعى إلى محاولة البحث عن حدود التفكير المادي الذي أسّس للأخلاق النفعية مستبعدة كلّ ما هو روحي، دون أن تراعي مبادئ الحقّ والخير والحرية في المجتمعات، وهي قيم ما يزال الإنسان يحتاج إليها، على أن يضمن ذلك وعي الذات لذاتها”، يقول الكاتب، مضيفا: “ولهذا قد فضّلنا في هذا الكتاب أن نقدّم نموذجا متواضعا عن قيمة الفلسفة التأمّلية التي تمجّد الإنسان وتبرهن على حدود التفكير المادي كي نعرّف المحيط الاجتماعي والمحيط الثقافي بأهمية الفلسفة في الحياة اليومية وفي الحياة العلمية، لأنّ الكثير من الناس يعتبر الفلسفة مجرّد نظريات وآراء لا فائدة من الاهتمام بها. وهو الأمر الذي مارسه كارل ياسبرس من خلال إعادة طرح موضوع الفلسفة من جديد نظرا للتشكيك المفرط فيها وحاول أن يعيد لها الاعتبار وأن يبيّن للفرد المعاصر كيف أنّها حاضرة في وجودنا حضورا شاملا وليس حضورا جزئيا.”
قسّم الكاتب عمله إلى ثلاثة فصول، بحيث تضمّن الفصل الأول وعنوانه “كارل ياسبرس والتيــارات الرافضة للفلسـفة التأمّلية” ثلاث مباحث، مبحث أول عرّف الكاتب فيه بكارل ياسبرس الفيلسوف من خلال حياته، مؤلّفاته وأصول فكره الفلسفي (كانط، كيركوغارد ، نيتشه، هوسرل، ماكس فيبر) ثمّ مبحث ثانٍ تطرّق إلى مذهب كارل ياسبرس ومنهاجه الفلسفي، وفي المبحث الثالث وعنوانه “موقف كارل ياسبرس من التيارات الرافضة للفلسفة التأمّلية”، تطرّق الكاتب إلى الأوضاع الفكرية التي أثرت على كارل ياسبرس وجعلته ينشر الفلسفة بمختلف أبعادها ويدافع عن قيمتها بصفة شاملة، وقد تناول هذا المبحث موقف التيار الوضعي وموقف التيار الماركسي من الفلسفة، ثمّ تعقيب كارل ياسبرس على الموقفين، وهذا ما جعل المبحث الثالث عبارة عن مناقشة بين كارل ياسبرس والتيارات الرافضة للفلسفة التأمّلية.
فيما تضمّن الفصل الثاني “فلسفة كارل ياسبرس وأهمّيـتها” مبحثين اثنين: الأول تحدّث فيه الكاتب عن فلسفة كارل ياسبرس (مقوّمات فلسفته مثل العقل، الماهية، الحرية، التاريخية)، والثاني اشتمل على المستويات التي برّر على أساسها ياسبرس أهمية الفلسفة وهي: أهمية الفلسفة على مستوى الينبوع (الأصول)، أهمية الفلسفة على مستوى المبدع، أهمية الفلسفة على مستوى التاريخ.
أما الفصل الثالث “تجلّيات فلسفة كارل ياسبرس في الواقع العلمي والواقع السياسي”، فقد أراده الكاتب فصلا تطبيقيا حدّد فيه قيمة الفلسفة في الواقع التجريبي من خلال تجلّيات الفلسفة في الواقع التجريبي على مستويين، حيث تناول الأول علاقة الفلسفة بالعلم كتمهيد للدخول في تجلّي الفلسفة الإنسانية في الواقع الطبي، أما المستوى الثاني فخصّص لتجلّيات فلسفة كارل ياسبرس في الواقع السياسي، بدأ فيه الكاتب بعلاقة الفلسفة بالسياسة وأتمّه بمبادئ الفعل السياسي عند ياسبرس الماثلة في نقد الأسلوب السياسي المعاصر، والدعوة إلى نشر السلام العالمي.
للتذكير، ليس حديثا اهتمام الكاتب بالطبيب والفيلسوف الألماني ياسبرس، وعلى سبيل المثال، سبق له نشر مقال علمي بعنوان “التصوّر الفينومينولوجي للفعل العلاجي عند كارل ياسبرس”، تناول فيه الفلسفة الطبية عند الطبيب والفيلسوف الألماني، والتي تهدف بوجه عام إلى صياغة الطب صياغة فلسفية معيارية، وتقييم الواقع الطبي وهو محمّل بالمعاني التجريبية الخالصة. ولهذا اهتمّ ياسبرس بإعادة قراءة الطريقة الطبية الشائعة في زمنه قراءة قيمية تتألّف من الترابط والتوافق بين العلم والفلسفة بوجه عام وبين الطب والفلسفة الفينومينولوجية بوجه خاصّ، وهي فلسفة تمثل طريقة جديدة في التفكير ألّفها هوسرل و تمكّن ياسبرس من تجسيدها خلال علاجه المرضى العقليين. هذه الطريقة سهّلت له أن يتواصل مع المريض تواصلا معنويا أكثر منه تواصلا ماديا (يقوم على الوسائل التجريبية كالأدوية). كما سبق لتواتي نشر المقال العلمي “التربية عند كارل ياسبرس”، وفيه أثار قضية التوجّه الإنساني في فلسفة التربية، حيث كان تصوّر كارل ياسبرس متوافقا مع معاني التربية، بحكم أنّها تنطلق من الإنسان و تنتهي إلى الإنسان. ويمكن للفلسفة أن تشكّل تأصيلا للفعل التربوي.