في ظل هيمنة العلوم التـّجريبية والثّقافة المادية

أيّ دورٍ للفلسفة في بناء الإنسان المعاصر؟

أسامة إفراح

اعتُبرت الفلسفة لقرون حجر الزاوية في البحث الفكري والتفكير النقدي..ولكن صعود المعرفة التجريبية، والتخصص العلمي، وتغيير التكنولوجيا طرق انتشار المعلومات واستهلاكها، كلها عوامل عمقت الشعور بأن الفلسفة باتت “محاصرة”. ورغم هذه التحديات، من السابق لأوانه إعلان زوال الفلسفة في العصر الحالي، خاصة وأن جاذبيتها الدائمة تكمن في قدرتها على مواجهة أعمق الأسئلة، وتقديم رؤى ووجهات نظر لا يمكن اختزالها في مجرد بيانات أو أدلة تجريبية.

 الفلسفة مجال بحث فكري غني ومتنوع، يقدّم رؤى قيمة حول الأسئلة الأساسية المتعلقة بالوجود البشري وطبيعة الواقع. ومنذ القدم، سعى الفلاسفة إلى فهم المبادئ الأساسية التي تحكم البشرية والكون، مستخدمين العقل والتفكير النقدي لاستكشاف المفاهيم المعقدة والمجردة.

مجالات الفلسفة

لطالما اعتُبرت الفلسفة الأساس لجميع التخصصات الأكاديمية، ويعرّف الدكتور عبد الرحمن بوقاف الفلسفة بأنها “فن الفكر الممكن”، معتبرا أنها قدمت للبشرية الكثير، من بناء الإنسان إلى بناء المجتمع والدولة.
ومن الأسئلة المركزية للفلسفة، نذكر طبيعة الواقع، حيث يدرس الفلاسفة الميتافيزيقيا، الفرع الفلسفي يتساءل حول طبيعة الوجود، والعلاقة بين العقل والجسد، وغيرها من الأسئلة. ومن مجالات الفلسفة أيضا نظرية المعرفة، وهي أساسية لفهم حدود المعرفة البشرية والطرق التي نتعرف بها على العالم من حولنا ونفهمه.
ومن مجالاتها الأخلاق، وغالبًا ما تتشابك الفلسفة الأخلاقية مع الفلسفة السياسية، حيث يسعى الفلاسفة إلى فهم المبادئ التي يجب أن تحكم المجتمع ودور الأفراد داخل النظام الاجتماعي. ويدرس الفلاسفة أيضًا فلسفة العقل، ويستكشفون أسئلة حول طبيعة الوعي والفهم والإدراك، والعلاقة بين اللغة والفكر.
وبالإضافة إلى هذه المجالات الأساسية، يدرس الفلاسفة مجموعة واسعة من الموضوعات، مثل علم الجمال والمنطق وفلسفة العلم، هذه الأخيرة تسعى إلى فهم طبيعة البحث العلمي والمبادئ التي تحكم اكتساب المعرفة في العلوم الطبيعية والاجتماعية.

تراجع الفلسفة؟

كما سبق قوله، جادت الفلسفة بالكثير على الإنسان، “ولكن ماذا كان جزاؤها؟”، يتساءل د - عبد الرحمن بوقاف، الذي يرى أن الفلسفة اليوم، رغم كل ما قدمته للبشرية، باتت محاصرة، وفي ذلك يقول: “لنعد إلى واقع الحال لنرى المآلات التي انتهت إليها على يد هذا الكائن الذي كانت دائما تعيده إلى ذاته محذرة إياه من قراصنة الروح، وممّن يريدون جعله دائما كائنا مستهلكا لا يعير اهتماما للقيم الإنسانية والجمالية، لتجد نفسها محاصرة بين أطواق ثلاثة: الطوق الديني، الطوق السياسي، والطوق العلمي، بعد هذا انحصرت في الأكاديميات، وحتى هذه في طريقها إلى المزيد من الانحصار حتى تواجه أخيرا مصير سنمار”.
يمكن القول إن من الأسباب الرئيسية لتراجع مكانة الفلسفة، صعود المعرفة التجريبية القائمة على الأدلة كنموذج مهيمن في المجتمع المعاصر، حيث باتت الفلسفة تبدو وكأنها بقايا زمن مضى، منفصلة عن اهتمامات وأولويات الحاضر.
كما كان للتخصص وتفتت المعرفة في الأوساط الأكاديمية الحديثة تأثيره على مكانة الفلسفة، خاصة مع في بيئة أكاديمية شديدة التخصص، ومقسمة إلى أقسام عديدة.
وأدّى صعود التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي إلى تغيير عميق في طريقة نشر المعلومات واستهلاكها، مما أدى إلى خلق ثقافة “الإشباع الفوري”  
(instant gratification) و«الانخراط السطحي في الأفكار المعقدة”
(superficial engagement with complex ideas).
وفي هذا العالم السريع الخطى والمتصل بشكل مفرط، لا يوجد مجال كبير لعملية التأمل والتأمل الفلسفي البطيئة والمتعمدة. تتطلب الفلسفة اهتمامًا مستدامًا وانخراطًا فكريًا عميقًا، وهي الصفات التي أصبحت نادرة بشكل متزايد في مجتمع مهووس بالتواصل الفوري والترفيه.
وعلى مستوى أكثر عملية، ومن وجهة نظر اقتصادية مركزة على الربح والتكلفة، غالبًا ما يُنظَر إلى التخصصات الإنسانية مثل الفلسفة على أنها ترف يمكن الاستغناء عنه، مع القليل من العائد الفوري من حيث الإنتاجية الاقتصادية أو الابتكار التكنولوجي.

حلول ممكنة

 لكي تستعيد الفلسفة مكانتها في مجتمع اليوم، وجب اتخاذ عدة خطوات من أجل إثبات أهميتها وارتباطها بالواقع، ولعل الأولوية هي لتكيف الفلسفة مع التحديات والفرص التي يفرضها العصر الرقمي. ومع صعود الذكاء الاصطناعي والأتمتة، تُطرح بقوة أهمية الفلسفة في تحديد الآثار الأخلاقية للتكنولوجيا.
ولكن، ومن باب أن “مهمة الفيلسوف في التنقيب ملامح الحقيقة في غير ما هو معطى وعدم مسايرة المتاح”، يرى الدكتور محمد جديدي أن بيد أن الإيتيقا ليست هي المدخل الوحيد لتناول الذكاء الاصطناعي من زاوية فلسفية. وأشار أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة إلى طرحين سائدين: أحدهما متفائل بمستقبل البشرية بفضل تقدم الذكاء الاصطناعي، وآخر متشائم من هيمنة الآلة على الإنسان بفعل تخلي هذا الأخير عن جزء متزايد من إنسانيته لصالح الآلة. وخلص جديدي إلى أنه إذا أوكل هذا التقدم إلى الآلة، فإن مفاتيحه ستكون بيد التفرّد
(La singularité) وهي المرحلة التي تخطط ما بعد الإنسانية لبلوغها، حينها يصير التخوف مشروعا ومبررا، ويكون موقف رائد البيوإتيقا فان رانسيلاير بوتر مؤسسا، إذ يصبح الهدف النهائي في هذا التقدم التقنوعلمي هو البحث عن التحكم في التحكم كحكمة جديدة.
على أصعدة أخرى، يمكن للفلسفة استعادة مكانتها من خلال الانخراط مع التخصصات ومجالات الدراسة الأخرى، والإسهام في “معالجة مشاكل العالم الحقيقي” بتقديم منظور فلسفي حول قضايا معقدة مثل تغير المناخ والهندسة الوراثية وأخلاقيات الرعاية الصحية، ومعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية مثل العدالة والمساواة والديمقراطية، للوصول إلى مجتمعات أكثر عدلاً وإنصافًا.
وفي عصر يتميز بالمعلومات المضللة والأخبار المزيفة، يمكن للفلسفة، من خلال تعليم الأفراد كيفية التفكير النقدي، أن تلعب دورًا حاسمًا في تعزيز العقلانية والتشكك والمنطق القائم على الأدلة. كما أن تعامل الفلسفة مع الأسئلة الوجودية، قد يعطي الإنسان إحساسا بالهدف والمعنى في عالم متزايد التعقيد وعدم اليقين.

تعميم الدّرس الفلسفي

من الحلول الممكنة لتستعيد الفلسفة مكانتها، ترقية الدرس الفلسفي وتعزيزه. وقد يتأتّى ذلك بطرق منها دمجه في المناهج التعليمية على جميع المستويات. فمن خلال تعليم الطلاب كيفية التفكير النقدي، والاستدلال المنطقي، والانخراط في النقاش والحوار، يمكن للفلسفة أن تزودهم بمهارات ثمينة تمتد إلى ما هو أبعد من الفصول الدراسية، حيث قد تفيد هذه المهارات الطلاب في مساعيهم الأكاديمية، وحياتهم المهنية، وعلاقاتهم الشخصية.
ويعتبر ذلك شكلا من أشكال التأكيد على تطبيقات الدرس الفلسفي العملية في صنع القرار اليومي. فالتشجيع على التفكير النقدي والتحليلي يساعد على التنقل بين المعضلات الأخلاقية المعقدة، ووزن الخيارات، واتخاذ خيارات مستنيرة.
وتكتسب ترقية الدرس الفلسفي أهميتها من دور الفلسفة في تشكيل القيم الأخلاقية، وتزويد الفرد بالأدوات اللازمة للتفكير في قيمه ومبادئه، وتطوير إطار أخلاقي متماسك يوجه أفعاله وقراراته.
ومن فوائد ترقية الدرس الفلسفي تشجيع الفضول الفكري وطرح الأسئلة الصعبة، إلى جانب تعزيز الإبداع والابتكار، حيث تشجع الفلسفة على التفكير خارج الصندوق، وتحدي الحكمة التقليدية، واستكشاف إمكانيات جديدة. وتسهم أيضا في تعزيز الانفتاح الذهني والانخراط في الحوار مع الآخر.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19680

العدد 19680

الأربعاء 22 جانفي 2025
العدد 19679

العدد 19679

الثلاثاء 21 جانفي 2025
العدد 19678

العدد 19678

الإثنين 20 جانفي 2025
العدد 19677

العدد 19677

الأحد 19 جانفي 2025