عقد المجمّع الجزائري للغة العربية المؤتمر السنوي الأول الذي صاحبه ملتقى دوليا تحت عنوان “اللغة العربية والتنمية” بإسهام وحدة البحث في علوم اللسان، حيث شكّلت مسألة الترجمة ودورها في تنمية اللغة العربية ونقل الثقافة العربية في ظل الذكاء الاصطناعي والرقمنة، محور مداخلات عديد الباحثين المشاركين، جزائريين وأجانب.
أكّد رئيس المجمع الجزائري للغة العربية شريف مريبعي خلال إشرافه على افتتاح المؤتمر الأول للغة العربية، أنه يعد لبنة جديدة قوية في بناء صرح هذه الهيئة العلمية التي طال أمد انتظار دورها في حياة اللغة العربية وحياة مجتمعنا، إذ لم توالها الظروف لتنظيم مؤتمر لها يحضره أعضاؤها منذ إنشائها في 1986 لأسباب موضوعية، كما قدّم في مستهل كلمته تعريفا وجيزا بالمجمع الجزائري للغة العربية.
وأعرب الشريف مريبعي بهذه المناسبة عن شكره للسيد رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون على التفاتته الطيبة إلى المجمع، وقراره التاريخي الحكيم الذي أثلج صدور جميع الراغبين في خدمة اللغة العربية، وترقية استعمالها بمنهج علمي رصين، لتتبوأ مكانتها اللائقة بها في بلدها الجزائر. قائلا: “إنه القرار القاضي بإعادة الاعتبار لهذه الهيئة الموضوعة تحت رعايته السامية، وتحت وصاية رئاسة الجمهورية، كما أشكره على تكرمه بمنح هذا المؤتمر رعايته السامية، وهذا وحده يعد دعما قويا لنا، ودلالة على ما يوليه السيد رئيس الجمهورية من أهمية للمجمع الجزائري للغة العربية، وما أحوجنا إلى دعمه الدائم لتدارك ما فات خاصة فيما يتعلق بإعطاء دفع لمشروع الذخيرة العربية، باعتباره أحد المشاريع الكبرى للمجمع، بل باعتباره مشروع الدولة الجزائرية الذي اقترحته على جامعة الدول العربية، وأقره مجلسها الوزاري منذ 2008”.
وأكد مريبعي أنّه آن الأوان لأعضاء المجمع أن يبرهنوا على أنهم قادرون على خدمة اللغة العربية وترقية استعمالها، والإسهام في جعلها في مصف اللغات العالمية المرموقة.
كما أوضح شريف مريبعي، أنّ قانون انشاء المجمع الجزائري للغة العربية وضع أهدافا كثيرة محورية منها: الحفاظ على سلامة اللغة العربية وجعلها وافية بمطالب التقدم، ملائمة لاحتياجات الحياة ومتطلبات العصر، ومنها تحقيق التراث العربي وإحياؤه ووضع معاجم عامة ومتخصصة.
وأشار رئيس المجمع الجزائري للغة العربية، إلى ضرورة انفتاح المجمع على المؤسسات ذات الصلة بعمله كالمجلس الأعلى للغة العربية وأكاديمية العلوم والتكنولوجيات والمحافظة السامية للغة الأمازيغية والمؤسسات الجامعية ومراكز البحث، وأن يربط صلات التعاون مع المجامع اللغوية العلمية العربية، وأن ينفتح على الجمهور، أي المثقف البسيط الذي ينبغي أن يضطلع المجمع بحماية لغته وتنميتها وتهذيبها ـ يقول مريبعي ـ وأن ينظر إلى تلك المؤسسات والهيئات التي تخدم اللغة العربية في الجامعات والمدارس العليا ومراكز البحث ووحدات البحث، على أنها روافد يكمل بعضها بعضا، وهي ليست محل تنافس بقدر ما هي صروح أنشأها المشرع ليضطلع كل منها بدور محدد، ومهام معينة لبناء المعرفة باللغة العربية.
اللّغة العربية..أداة للعلم والمعرفة
امتدت أشغال المؤتمر ليومين آخرين في ملتقى مصاحب للمؤتمر، حضره باحثون من الجزائر ومن بلدان أخرى مثل القاهرة، باكستان، الأردن، العراق ونيجيريا، ألقوا محاضراتهم بواسطة الحاضر المرئي عن بعد.
وأوضح الدكتور محمد ساري في مداخلته الموسومة بـ “اللغة العربية في المجتمع الرقمي مكاسب - قضايا - آفاق”، أن اللغة تعتبر من أهم المقومات الأساسية التي تعبر عن وجود الإنسان وتعكس مساره التاريخي، وهي كذلك امتداد لثقافته ووعيه، ومعتقده الديني، بل هي أيضا وسيلة لتبادل ونقل العلوم والمعارف.
ولفت ساري إلى أنّنا نعيش اليوم على وقع ثورة تكنولوجية عابرة للحدود ضمن ما يعرف بمجتمع المعرفة، ظهرت فيها لغات عالمية عديدة مثل اللغة الانجليزية واليابانية وغيرها، “وأصبحت تتصدر هذا الحدث الراهن في حين أننا نلاحظ تراجعا رهيبا للغة العربية في مواكبة هذا الحدث وبقيت على الهامش، وذلك لتداعيات وأسباب كثيرة منها عدم مواكبة التطورات العالمية في إدماج مصطلحات اللغة العربية، والاعتماد على مصطلحات اللغات الأجنبية، التي أصبحت تمثل اليوم لغة العلم وبرمجيات الحاسوب والذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يلزم جميعا بالاعتناء بهذه اللغة الرائعة التي هي بالفعل مؤهلة لأن تكون لغة للعلم والمعرفة، وتستطيع أن تبني مجتمع المعرفة العربي، لأنها استطاعت تاريخيا أن تكون أداة للعلم والمعرفة وعبرت عن حضارة العرب والمسلمين أحسن تعبير”، يقول ساري.
وأضاف: “اليوم تؤدي اللغة العربية تحديا أمام الدول العربية من أجل فرضها لغة عالمية، وذلك بالاستغناء عن سلسلة الترجمات المتتالية لمصطلحات اللغات الأجنبية، التي لا تعكس المعنى المضبوط، وبالتالي دمج مصطلحات اللغة العربية في مجال العلم والمعارف، لاسيما التكنولوجيا، وهذا وحده من يعيد المكانة للدول العربية ويخلصها من مستنقع التخلف، ويجعلها حكومات متقدمة لها سلاح قوي ألا وهو اللغة العربية”.
وفي سياق متصل، أشارت نوال بن غالية في مداخلتها: “اللغة العربية ومجتمع المعرفة خطوة في طريق التنمية”، إلى أن العالم اليوم أصبح خاضعا لما يسمى بمجتمع المعرفة، الذي يعبر عن أرقى المراحل المتطورة في تاريخ البشرية، حيث يقوم هذا الأخير - بحسب بن غالية - على إنتاج المعرفة ونشرها وتوزيعها، ويخص بالضبط إنتاج المعرفة العلمية المتخصصة وربطها الرأسمالي البشري، وقد كان لدول الغرب، وعلى رأسهم أمريكا نصيب واسع في الولوج إليه، وهذا ما نتج عنه تحقيق الريادة العالمية، وفرض فجوة رقمية على دول العالم الثالث. وفي هذا الصدد لفتت ذات المتحدثة إلى أن اللغة العربية ستكون أمام تحد كبير ألا وهو ولوج مجتمع المعرفة، أو بصيغة أخرى ضرورة بناء مجتمع المعرفة العربي، الذي يجب أن يحاكي كل التطورات العلمية والتكنولوجية على حد سواء في العالم من أجل تحقيق نهضة الوطن العربيو وتجاوز مرحلة التخلف والركود.
مناهج تساعد في غرس الاعتزاز باللّغة
من جهته، تحدّث عصام خروبي عن دور التخطيط اللغوي في الحفاظ على الهوية اللغوية وثقافة المجتمع ونقل موروثاته، لذلك يقول الباحث: “يجب العناية بالتخطيط اللغوي، وتحمل مسؤولية تنفيذه على مستوى كافة المؤسسات”.
ويضيف “فعلى المستويات السياسية والتشريعية وضع الضوابط والقوانين التي تحافظ على اللغة الرسمية، وفرض وجودها في المؤسسات الرسمية، وعلى المؤسسات التعليمية تنظيم الجهود لإعداد مناهج تساعد بشكل واقعي في غرس الاعتزاز باللغة قبل تعلم اللغة، ورفع قيمة اللغة في نفوس الطلاب قبل عقولهم. وعلى المجتمع المدني بكافة أطيافه تبني مشروع اللغة على أنه فرض حياتي وثقافة يجب الحفاظ عليها، ومساعدة المؤسسات التعليمية في حسن استخدام اللغة، وتنفيذ ما يتم التخطيط له للحفاظ على الهوية اللغوية.”
بدورهما أشار الأستاذان أمين علي ومحمد شفيق من باكستان، إلى أن الترجمة تضطلع بدور بارز في نقل الثقافات واللغات، وتعد من أهم دعائم النهضات العلمية والثقافية والفكرية للغات والأمم، كما أنها وسيلة بارزة في توفير المصادر والمراجع للناطقين باللغات الأخرى، فهي تهدي سالك طريقها إلى المصادر الأصيلة، وتتجلى له سبل النجاح والفوز.
وذكر الباحثان أنّ أغلبية التراجم التي ظهرت للروايات العربية إلى الأردية تمّت باستخدام لغة ثالثة وسيطة، وهي في الغالب اللغة الإنجليزية، التي ترجمت إليها الكثير من الروايات العربية، “وبما أن الطبقة المثقفة والمترجمين في شبه القارة الهندية يتقنون الإنجليزية، وهي اللغة الثانية في الهند وباكستان أيضاً؛ فقد استفادوا من هذه النسخ الإنجليزية المترجمة، وترجموا عنها إلى اللغة المحلية الأردية، ومن البديهي أن هذه التراجم لن تكون - من حيث الجودة والأصالة - بمستوى التراجم التي تمت مباشرة من اللغة الأصلية للرواية إلى اللغة الأردية”، يضيف أمين علي.
وأوضح أنه على الرغم من وجود المئات بل الآلاف من الروايات العربية في الساحة الأدبية، وتوافر الكثير من المترجمين المحترفين في اللغتين العربية والأردية؛ إلا أن المترجم منها إلى الأردية يعد نزراً يسيراً، ربما لا يتجاوز عددها الخمسين رواية حتى تاريخ كتابة هذا المقال. ويصطحب الحال على هذا المنوال باقي فنون النثر العربي؛ فتراجمها الأردية قليلة جداً.
للإشارة، تمّ خلال هذا المؤتمر الإعلان أيضا عن الفائز بجائزة المجمع الجزائري للغة العربية في طبعتها الأولى 2024، والتي عادت لشعيب حبيلة عن عمله الموسوم بـ “في المعجمية المقارنة: دراسة معجمية في الأصول الإنجليزية والفرنسية لمعاني العربية المعاصرة”.