صدر عن سلسلة «ترجمان» في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب كيف نكتب التاريخ، وهو ترجمة سعود المولى ويوسف عاصي العربية لكتاب بول فاين بالفرنسية Comment on écrit l’Histoire. هذا الكتاب من نوع الإبستيمولوجيا التاريخية، أخذ فيه فاين مسافة واضحة من الماركسية كما البنيوية، وهما المقاربتان اللتان كانتا سائدتين في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، ليستند إلى منهج السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر الذي يعتبره عالمًا بالتاريخ أكثر منه عالم اجتماع.
حين صدر هذا الكتاب في عام 1971 اعتبره كثيرون مستفزًّا، وأنّه يعيد النظر في اليقينيات العلموية الشائعة في تلك المرحلة. والحال أنه جاء ليملأ فراغًا نظريًا في مباحث التاريخ، حيث كانت تسود الأرقام والمنحنيات والنظريات الاجتماعية الكبيرة المتأثرة بالماركسية حينذاك؛ إذ وقف فاين في وجه الخطاب المهيمن ليطرح مقاربة تقليدية إنسانية ملوّنة بشيء من الشكوكية. نعم، كانت نزعته الإنسانية واضحة من حيث إيلائه المكان الأول للفاعل التاريخي الذي رأى فيه حاكيًا راويًا للحقيقة. أما شكوكيته فظهرت في حذره من كلّ محاولات المفهمة الحديثة المظهر، سواء أجاءت من المدرسة البنيوية أم الماركسية. ولعلّ أهم ما في هذا الكتاب توكيده مفهوم الحبكة وقدرته السردية بما يشبه ما قال به بول ريكور بخصوص القص الحكائي، والذي يرى فاين أنّه يغذّي على نحو مبطن نظرية التاريخ.
يتألّف الكتاب (536 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من اثني عشر فصلًا موزّعة على ثلاثة أقسام. في القسم الأول، «موضوع التاريخ»، خمسة فصول.
يقول فاين: «التاريخ ليس إلا سردًا حقيقيًا»، إنّه لا وجود لحدث في حدّ ذاته، لكنه يكون حدثًا بالنسبة إلى تصوّر ما للإنسان الأبدي. ويشبّه فاين كتاب التاريخ بكتاب تعليم القواعد؛ «فالقواعد العملية للغة أجنبية لا تُحصي بشكل كامل جميع قواعد اللغة، لكنّها تُحصي فحسب تلك التي تختلف عن قواعد اللغة التي يتكلمها القارئ، والتي خُصّصت له ومن الممكن أن تُفاجئه. فالمؤرخ لا يصف بشكل مستفيض إحدى الحضارات أو إحدى الحقب الزمنية، وهو لا يُجري جردة كاملة لها وكأنّه يهبط من كوكب آخر. إنه لا يقول لقارئه إلا ما هو ضروري كي يتسنّى لذلك القارئ تصوّر هذه الحضارة من خلال ما يُعرف أنّه حقيقي في أيّ وقت».
ويواصل: «كلّ شيء تاريخي، إذًا لا وجود للتاريخ»، يجد فاين أنّه كلّما زاد اتساع الأفق الحدثي أمامنا، بدت لامحدودية التاريخ أكبر: «وهكذا فإنّ كلّ ما تحويه الحياة اليومية للناس جميعًا، بما فيها ما قد يكشفه بمفرده أحد البارعين في كتابة اليوميات الحميمة، هو في الواقع صيد ثمين للمؤرخ؛ إذ لا نرى في أيّ ناحية من نواحي الوجود، سوى في الحياة، ويومًا إثرَ يوم، ما يمكن أن تعكسه التاريخية». وهذا لا يعني بالنسبة إليه أنّ على التاريخ أن يصنع من نفسه تاريخًا للحياة اليومية، إنما يعني ذلك أنّ أيّ حدث لا يُعرف إلا من خلال آثاره، وأنّ أيّ واقعة من الحياة بأسرها للأيام كلّها هي أثر لحدث ما، سواء أكان هذا الحدث مصنّفًا أم لا يزال نائمًا في غابة اللاحدثية. وفي رأيه، لو كانت العناية الإلهية توجّه التاريخ، وكان التاريخ كليّة، لتعذّر تمييز التصميم الإلهي؛ «فالتاريخ بوصفه كلية يفلت من بين أيدينا، وبوصفه تقاطعًا لسلاسل هو شواش يشبه اهتياج مدينة كبيرة يُنظر إليها من الطائرة». ولم تكن الفلسفة الكلاسيكية تُشخصن التاريخ، بل كانت تكتفي بالاطلاع على أنّ عالمنا هو عالم الصيرورة والتوالد والفساد.
«لا وقائع ولا صعيد، بل حبكات».. لهذا يسأل فاين: إذا كان ما حدث كلّه يستحقّ أن يكون من التاريخ، أفلا يدخلنا هذا الأخير في حالةٍ من الفوضى؟ وكيف يمكن واقعة ما أن تحوز دون غيرها قدرًا أكبر من الأهمية؟ كيف يمكن ألا يُختزل كلّ شيء إلى مشهد مملّ من الأحداث المفردة؟ وفي رأيه، ليست الوقائع منعزلة عن بعضها؛ ما يعني أنّ نسيج التاريخ هو ما سوف نسميه حبكة، أيّ مزيجًا إنسانيًّا جدًا مع قليل جدًا ممّا هو علمي من الأسباب المادية والغايات والمصادفات. إنّها، بعبارة أخرى، شريحة من الحياة يقتطعها المؤرخ بحسب تقديره، حيث للوقائع روابطها الموضوعية وأهميتها النسبية. وبحسبه، ليست الأحداث أشياء، أو مواضيع متماسكة، أو موادَّ، بل هي تقطيع للواقع نقوم به بحرّية، ومجموعة من العمليات تعمل فيها وتكابدها مواد في تفاعل، أناس وأشياء.
ويرى فاين «بدافع الفضول الخالص لما هو خصوصي»، أنّ المؤرخين شعروا دائمًا بأنّ التاريخ يتعلق بالإنسان ضمن مجموعة وليس الإنسان الفرد، وأنّه كان تاريخ المجتمعات والأمم والحضارات، بل تاريخ الإنسانية، وتاريخ ما هو جماعي، في المعنى الأكثر غموضًا للكلمة. لكنّ أيّ مؤرخ أو عالم اجتماع يستطيع فصل ما هو فردي عما هو جماعي، أو حتى إعطاء معنى لهذه الكلمات؟ والحال أنّنا لا نُميّز ما هو تاريخي ممّا هو غير تاريخي فورًا وعلى نحو فطري. ولرؤية مقدار تقريبية محاولات تعريف التاريخ هذه، والتي نُكثر منها ونختزل بها تباعًا، من دون أن نشعر أبدًا بأنّنا أصبنا الهدف يكفي أن نسعى إلى توضيحها.
وفي رأيه، إذا جاز تعريف التاريخ بأنّه معرفة الخصوصي المعيَن، تسهل مقارنة هذا التاريخ، وهو يعني تاريخ الأحداث الإنسانية، بتاريخ الوقائع المادية، كتاريخ الأرض أو النظام الشمسي. فيقول: «إنّنا نؤكّد طوعًا أن لا شيء مشترك بين هذين النوعين من التاريخ، فتاريخ الطبيعة لا يهمّنا أبدًا كما يقولون، إلا في حال كون موضوعه موضوعًا ذا شأن، بحجم الكرة الأرضية، لكن لا أحد سيعمل على رواية أخبار عما حدث في بقعة من الأراضي الخالية من السكان. وعلى العكس من ذلك، فإنّنا ننظر إلى أصغر الأحداث في حياة المجتمعات البشرية على أنّها تستحق البقاء في الذاكرة. إذًا يجب أن نستنتج من ذلك أنّنا قد نولي اهتمامًا متميزًا للتاريخ البشري الذي محوره الإنسان، وذلك لأنّ هذا التاريخ يحدثنا عن كائنات تشبهنا».