محمد بوليفة ألهمني وشغفتني ألحان “ملحمة الجزائر” بما أضافت من طابع نايلي
الآلات الموسيقية الـعصرية أفقدت الطّابع النايلي إحساسه وأفرغته من مضمونـه
النايلي لم يـتغيّـر من حيث المــوسيقـى والزخارف الموسيقية نالت اسـتحسان الجمهور
أشتغل على “ملحمـة جبل بوكحيل” وأنتظــر من يـدعمها
”غـزّة الضــّمير ولحن السـّماء”..عن الأوركسترا السمفونية لولاية الجلفة..قريبا
الأناشيد المدرسية..حبّي الأول والتزامي المهني..ورؤيـة مـستقبلـيـة للأغنية النـّايلية
الملحّن فيرح عمر..واحد من الأسماء البارزة في مجال تلحين الأغنية النايلية والأناشيد المدرسية بالجزائر، حيث يسعى دائما للمزج بين الأصالة والتجديد في أعماله. من الأغنية النايلية إلى الأناشيد المدرسية، فقد أظهر شغفه الكبير بالتراث الفني وحرصه على تطويره بما يتناسب مع الأجيال الجديدة، متفائلا بمستقبل الأغنية النايلية والأناشيد المدرسية، مؤمنا بأهمية دعم المواهب الشابة وفتح مجالات جديدة للإبداع..يشاركنا الملحّن في هذا الحوار الذي أجرته معه جريدة “الشعب” رؤيته لتطور الأغنية النايلية.
- الشعب: كيف بدأت مشوارك في تلحين الأغنية النايلية؟ وما هي أوّل أغنية قمت بتلحينها؟
الملحّن عمر فيرح: بدأت التلحين في عام 2007 بأغنية
«أجحاف رحلوا بمهارى” التي كتب كلماتها الشاعر أحمد قدوري، رحمه الله، وأدّاها الفنان لخضر كيحول المعروف بـ “ديديا”، أثناء تسجيل ملحمة أبطال سيدي نائل في ولاية الجلفة. هذا العمل كان خطوة أولى بالنسبة لي في مجال التلحين للطابع النايلي، حيث حاولت من خلاله تقديم هذا النمط في قالب طربي ملحمي للتعريف به، ثم جاءت تجربتي الثانية مع أغنية باللغة العربية الفصحى بعنوان “ضمنا الورد وحيانا الندى واحتفى الطير بنا والزهر غنى”، والتي أدّتها المجموعة الصوتية براعم ابتدائية بوزكري كاكي في عام 2006، أدخلناها كأغنية وطنية بطابع نايلي.
- من هم الملحنون أو الفنانون الذين أثروا على أسلوبك في التلحين؟
كان للملحن الكبير محمد بوليفة تأثير كبير على أسلوبي الفني، خاصة من خلال أعماله في ملحمة الجزائر، حيث تمكّن من إدخال الطابع النايلي ضمن الطبوع الجزائرية الأخرى، وكانت تجربة ناجحة أداها بنفسه.
- كيف ترى تطوّر الأغنية النايلية؟ وهل هناك تغييرات أو تطورات حديثة تراها إيجابية أو سلبية؟
بداية الأغنية النايلية كانت بطابعها التقليدي باستخدام “الغايطة” و«البندير”، كما يظهر في فيديو مصور لتربية سلالة الأغنام في منطقة تعظميت خلال الفترة الاستعمارية. في عام 1969 تأسّست فرقة موسيقية عصرية باسم “فرقة أولاد نايل” بقيادة الفنان صلاح الرايس، لكن هذه الفرقة اعتمدت على الموسيقى الغربية. وفي أواخر السبعينيات، تأسّست فرقة أخرى تحت اسم “أولاد القمر” بقيادة الفنان موسى صخري، ومشاركة مجموعة من العازفين مثل مابدي بلخير، خوجة عبد المالك، تريكي بشير، خوجة مختار، خذيري هشام، بن رمضان مصطفى، والشاعر حميدي معطار..هذه الفرقة سعت لاسترجاع الأغنية النايلية وتحديثها باستخدام الآلات الموسيقية العصرية التي تخلو من أرباع التون، مما أدى إلى فقدان الأغنية لإحساسها الأصلي.
قدّمت فرقة “أولاد القمر” عروضا للجمهور، خاصة الشباب، منذ عام 1979، وكانت أغنية “يا رجال القديد، يا أهلا لمزار الخضرة” من أولى الأغاني النايلية التي أدتها الفرقة في حفل أمام مقر حزب جبهة التحرير الوطني. في الوقت نفسه، ظهر المسرح الحكواتي الذي أسسه الشيخ بن فتاشة أحمد، المعروف بـ “صميدة”، وهو عازف كمان يغني مع الشيخ القندوز ويقدمان عروضهما وسط المدينة بأغاني ذات طابع صحراوي. وفي عام 1983، شاركت فرقة “أولاد القمر” في مهرجان الأغنية العصرية بوهران برفقة الفنان موسى صخري، حيث فازت بجائزة أفضل مطرب.
في عام 1984، سجّل الفنان مداني بلحاج أغنيتين من هذا الطابع، الأولى بعنوان “قادر يا قادر” والثانية “يا لالة يا تركية”، وأعاد تسجيلهما في عام 1994 في برنامج “صباحيات”. كما قام الفنان عبد الرحمن ساسي بتسجيل أغنية “عينان عينان” بالأسلوب النايلي، لكن بإيقاع الزندالي بدلا من الإيقاع النايلي التقليدي. ومن هنا، بدأ اهتمام الفنانين بتوثيق أعمالهم. في عام 1993، ظهرت فرقة “النجوم” بقيادة الفنان كمال زريعة والفنان ديديا بأغاني الراي، وشاركت في مهرجان أغنية الراي والأغنية النايلية، حيث حصلت على المرتبة الأولى. وفي عام 2005، نظمت مديرية الثقافة لولاية الجلفة مهرجانا كتجربة أولى، ومن ثم تحول إلى مهرجان وطني رسمي عام 2024 بقرار من وزيرة الثقافة والفنون صورية مولجي.
رغم أنّ الطابع النايلي لم يتغير من حيث الإيقاع والموسيقى، إلا أنه شهد تغييرات في التوزيع الموسيقي الذي أضاف زخارف موسيقية نالت استحسان الجمهور. هناك محاولات لبعض الفنانين مثل ديديا، للخروج من ربع المقام إلى المقامات الغربية، لكن هذه المحاولات لم تلق تجاوبا كبيرا، حيث فقد الطابع النايلي خصوصيته الفنية.
أرى أن هذا التغيير إيجابي من حيث الزخارف والجمل الموسيقية، أما من حيث الكلمات فقد بقيت محافظة على وصف المرأة، ولم تتحول إلى ما يسمى بـ “اللاّمعهود”، ممّا يسمح لأي شاعر بالكتابة ضمن هذا الإيقاع التقليدي.
- ما هي الصّعوبات أو العراقيل التي تواجهك كملحّن للأغنية النايلية في العصر الحالي؟
إحدى أكبر الصّعوبات هي قلة النصوص الشعرية الجميلة والمتجددة، رغم أن ولاية الجلفة تتمتع بوفرة في الشعراء. فإنّي أواجه مشكلة في العثور على نص جديد وغير تقليدي على الرغم من توفر العديد من النصوص، وهذا يجعلني أحجم عن تلحين أي نص يقترح علي قبل التأكد من جودته.
- كيف تبدأ عادة عملية التّلحين؟ هل تبدأ من الكلمات أم من اللّحن أوّلا؟
أبدا..تبدأ دائما من الكلمات فهي التي تلهمني، أختار الكلمات بعناية لأنها تحدد الجو العام للأغنية والمقام الموسيقي الذي سأستخدمه. مثلا، كلمات “أجحاف رحلوا بمهارى وبنات زين الغزلان”، ألهمتني لاختيار مقامين بدلا من مقام واحد، لأن القصيدة تتطلب تنوعا في الأجواء التلحينية لتصعيد الشعور الموسيقي.
- ما هي النّصيحة التي تقدّمها للفنّانين الشباب الذين يرغبون في التخصّص في الأغنية النايلية؟
أنصحهم بأن يشاركوا في المسابقات لاختيار أفضل الكلمات والألحان، وأن يسعوا دائما إلى تطوير مهاراتهم. كما أؤكد على أهمية احترام خصوصية الطابع النايلي، وعدم الخروج عنه إلا بما يضيف له قيمة فنية حقيقية.
- كيف ترى مستقبل الأغنية النايلية؟
مستقبل الأغنية النايلية يعتمد بشكل كبير على مدى اهتمام الجهات الوصية بتنظيم وتأطير هذا الطابع، وأيضا على خلق بيئة تنافسية تحفّز على الإبداع والتميز بين الفنانين.
- الآن، هل يمكن أن تحدّثنا عن تلحينك للأناشيد المدرسية وكيف يختلف عن تلحين الأغاني النايلية التقليدية؟
بالطبع، فقد لحّنت أكثر من 25 عملا فنيا بين أناشيد وطنية وتربوية. وفاز الفنان الزبير بوخاري بالمرتبة الثانية في جائزة رئيس الجمهورية في مسابقة علي معاشي سنة 2019 عن موشح “يا سحاب الروح” للشاعر بن دراح أحمد سعيد وألحاني، كما اختير هذا الموشح ليعرض في صفحة “أوج - نحو نهضة موسيقية عربية جديدة” للدكتور السوري سعد الله آغا القلعة. كما فازت بعدها أنشودة “حنايا” بالمرتبة الثالثة في جائزة رئيس الجمهورية - مسابقة علي معاشي من آداء المنشد محمد بلحواجب، كلمات الدكتور تاج الدين الطيبي وألحاني. الأناشيد المدرسية تتطلب رؤية خاصة تتناسب مع مستوى التلاميذ من حيث اختيار الطبقة الصوتية والإيقاعات التي تجذب الأطفال بسرعة، بينما الأغنية النايلية تعتمد غالبا على إيقاع واحد هو “الإيقاع النايلي” (ميزان 8/6)، ممّا يجعل تلحينها أبسط من ناحية التوزيع الموسيقي.
- هل هناك مشاريع جديدة تعمل عليها حاليا؟
لدينا ملحمة تاريخية بعنوان “ملحمة جبل بوكحيل” تنتظر من يدعمها، بالإضافة إلى انتظار تسجيل “غزة الضمير ولحن السماء” وهو عمل موسيقي للأوركسترا السمفونية لولاية الجلفة، وهناك أنشودتان وطنيتان الأولى بعنوان “الفوق يا جزاير” والثانية بعنوان “عشق الشهيد” في انتظار تسجيلهما.
- ما الذي يجذبك إلى تلحين الأغاني المدرسية؟
ما يجذبني إلى الأغاني المدرسية بحكم تخصصي كأستاذ ومفتش في التربية الموسيقية وعلاقتي الدائمة بالمدرسة، الأمر الثاني وجود ثراء كبير في الوطن من ناحية كثرة النصوص ومستواها العالي ووجود كتاب مهتمين بالأنشودة المدرسية، وهنا أثمّن المجهودات الكبيرة التي قدمها الشعراء الجزائريون في هذا المجال، ناهيك عن وجود ملحنين أكفاء في حقلي التربية والثقافة، بالإضافة إلى تنظيم مسابقات للأنشودة المدرسية من طرف وزارتي الثقافة والفنون والتربية والتربية الوطنية.
- ما هي الرّسائل أو القيم التي تحاول إيصالها من خلال الأناشيد المدرسية؟
أهدف إلى غرس القيم الوطنية والتربوية في نفوس التلاميذ، وتعزيز حب الوطن والانتماء من خلال كلمات بسيطة وقوية تصل إلى قلوب الأطفال. كما أحرص من خلال الأناشيد المدرسية على تربية الأذن الموسيقية للتلميذ، حتى يتمكن من تقدير الموسيقى الجيدة، ويطور ذوقا موسيقيا راقيا. أعتقد أن الأناشيد المدرسية يمكن أن تكون وسيلة فعالة لإعداد أجيال مبدعة تميل إلى الذوق العام، وتحترم التراث الموسيقي للبلد. أقترح أن تتواصل الجهود من الجهات الوصية لترقية الأنشودة المدرسية بشقيها التربوي والوطني، بحيث تصبح جزءا أساسيا من المنظومة التعليمية، وتساهم في بناء شخصية متكاملة للتلميذ.
- كلمة أخيرة..
أود أن أتقدّم بجزيل الشكر إلى جريدة “الشعب” على إتاحة هذه الفرصة للحديث عن الأغنية النايلية والأناشيد المدرسية. وعلى دعمكم المتواصل للفنانين من خلال نشر وتوثيق هذا التراث الثقافي الثري.