الديمقراطية التشاركية شكل من أشكال الحكم الراشد، حيث يشارك المواطنون بنشاط في عمليات صنع القرار وتنفيذ السياسات. ويؤكد هذا النوع من الديمقراطية على أهمية مشاركة المواطنين في اختيار ممثليه ومسؤوليه، وفي تشكيل السياسات العامة، من أجل نظام سياسي أكثر استجابة وشفافية. ويؤكد الدستور الجزائري على ضمان الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وحماية مبدأ حرية اختيار الشعب، وتكريس التداول الديمقراطي عن طريق انتخابات حرة ونزيهة.
تسعى الديمقراطية التشاركية إلى تعزيز مشاركة المواطنين بمختلف الوسائل، ما يمكّن صناع السياسات من فهم احتياجات وتطلعات الجمهور بشكل أفضل، وبالتالي اتخاذ قرارات أكثر استنارة واستجابة. كما تعزز الديمقراطية التشاركية الشعور بالمسؤولية بين المواطنين تجاه حكومتهم ومجتمعهم، وكذا القدرة على معالجة التفاوتات الاجتماعية وتعزيز العدالة الاجتماعية.
المفهوم والخصـائـص
في كتابهما عن الديمقراطية التشاركية، لاحظ كل من بوحنية قوي وعصام بن الشيخ أنه رغم محاولة العديد من الباحثين تعريف الديمقراطية التشاركية وفقا لرؤيتهم للموضوع، إلا أنهم يجمعون على أنها “أهم آليات إشراك المواطنين بصورة مباشرة في اتخاذ القرارات المتعلقة بتسيير شؤونهم العامة، وتقويم مدى تنفيذ هذه القرارات”.
ويرى الأمين شريط (جامعة قسنطينة) في الديمقراطية التشاركية شكلا أو صورة جديدة للديمقراطية تتمثل في مشاركة المواطنين مباشرة في مناقشة الشؤون العمومية، واتخاذ القرارات المتعلقة بهم، أو هي توسيع ممارسة السلطة إلى المواطنين عن طريق إشراكهم في الحوار والنقاش العمومي، واتخاذ القرار السياسي المترتب عن ذلك.
من جهتها، ترى سميرة لالوش (جامعة بومرداس) أن الديمقراطية التشاركية تمثّل جملة من الآليات والإجراءات التي تمكن من إشراك المجتمع المدني والمواطنين عموما في صنع السياسات العامة، وتمتين الدور الذي يلعبونه في اتخاذ القرارات المتعلقة بتدبير الشأن العام.
وتلخص الباحثة أهم خصائص الديمقراطية التشاركية في سعيها إلى مشاركة المواطن في صنع القرار الذي سيتأثر به، والمشاركة في بناء المناقشات المفتوحة لمعالجة القرارات على المستوى المحلي، والتفاعل المباشر بين المواطنين ونوابهم سعيا وراء إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل والصعوبات المطروحة محليا.
وتهدف الديمقراطية التشاركية إلى:
- توسيع مشاركة الفرد المواطن في الحياة السياسية بصنع السياسة العامة واتخاذ القرار، باعتباره الهدف الرئيسي لعملية التنمية.
- توفير قناة تصاعدية تنازلية للتواصل بين السلطة والمواطن يتم من خلالها تصعيد مطالب واحتياجات المواطن إلى السلطة.
- محاولة تجاوز معيقات الحكم وخلق أسس جديدة بين الدولة والمجتمع.
- إعطاء فرصة للمواطنين لمناقشة قضاياهم، حتى أن قياسات الرأي العام أصبحت أكثر أهمية من البرلمانات، من حيث قدرتها على التعبير عن آراء واتجاهات المجتمع السياسي، وتقديم الاقتراحات والمبادرات، والقدرة على كشف النقص في الأداء الحكومي.
- القضاء على البيروقراطية وتحقيق الشفافية الإدارية، وكذلك توطيد العلاقة بين المواطن والإدارة وتكريس حرية الرأي والتعبير.
ديمقراطية تشاركية وأخرى تمثـيـليـة
طرحت الديمقراطية التشاركية لكي تكون مكملة للديمقراطية التمثيلية، ومساهمة في تعزيز دور المواطن في الحياة السياسية.
وهاتان الديمقراطيتان شكلان مختلفان من أشكال الحكم، يهدفان إلى إشراك المواطنين في عملية صنع القرار، إلا أنهما يختلفان من حيث مستوى المشاركة وآليات صنع القرار.
فالديمقراطية التشاركية والمعروفة أيضًا باسم الديمقراطية المباشرة، تؤكد على المشاركة النشطة للمواطنين في عملية صنع القرار، بالاستفتاءات والاجتماعات البلدية والجمعيات المدنية. أما الديمقراطية التمثيلية فهي نظام ينتخب فيه المواطنون ممثلين لاتخاذ القرارات نيابة عنهم، ويسمح هذا الشكل باتخاذ القرارات بكفاءة وتقسيم العمل.
وهنا يكون التركيز على مستوى الخبرة والتخصص المطلوبين لاتخاذ قرارات مستنيرة، ففي الديمقراطية التشاركية قد لا يتمتع المواطنون دائماً بالمعرفة أو الخبرة اللازمة للحسم في قضايا معقدة، أما الديمقراطية التمثيلية فتعتمد على المسؤولين المنتخبين الذين من المتوقع أن يمتلكوا الخبرة والمهارات اللازمة لمعالجة التحديات المتنوعة والمعقدة التي تواجه المجتمع.
ويتمتّع كلا النظامين بقوته وحدوده، ويعتمد الاختيار بينهما على الاحتياجات والأولويات المحددة لمجتمع معين. وفي نهاية المطاف، فإن مفتاح الديمقراطية الناجحة يكمن في إيجاد التوازن بين مشاركة المواطنين والحكم الفعال، وضمان أن تكون السياسات والقرارات شاملة ومستنيرة.
المـشاركة السـيـاسية
وعلى اختلاف شكل النظام الديمقراطي، تشاركيا كان أو تمثيليا، أو مزيجا بين الاثنين، فإنه يعتمد على المشاركة السياسية، التي تشكل جانباً بالغ الأهمية في المجتمعات الديمقراطية، ما جعلها من اهتمامات تخصصات من بينها علم الاجتماع السياسي.
ويمكن أن تتخذ المشاركة السياسية أشكالاً عديدة، بما في ذلك التصويت في الانتخابات، والانضمام إلى الأحزاب السياسية، والتواصل بالمسؤولين المنتخبين.
في كتابها “المشاركة السياسية والديمقراطية”، تتطرّق سامية خضر صالح إلى عدد من عوامل زيادة المشاركة السياسية. وتذكر من بينها التعليم، إذ يحتاج المواطنون إلى تدريب على الديمقراطية، وذلك من خلال المجالات الأخرى لحياتهم، على غرار التعليم والعمل، ومع تزايد المشاركة يشعر الناس بقوة انتمائهم للمجتمع وبتدعيمهم للنظام السياسي، ومن هـذا المنطلق تقوم المشاركة السياسية بخلق نظام سیاسي ذاتي التدعيم، وتعد هذه الرؤية الموجبة تعبيراً عن أهداف شبكة العمل الخاصة بالمجتمع، وهو ما يذهب إليه “فيبرا” و«نورمان”. وحسب “غولدمان” و«بيري” و«جاندا” فقد اتضح من خلال النموذج الاجتماعي الاقتصادي أن المواطنين ذوي التعليم الأعلى وكذلك الدخل والرواتب الثابتة هم الأكثر مشاركة في السياسة، حيث تعد هذه العوامل الأكثر دفعاً إلى المشاركة.
ومن العوامل المشجعة على المشاركة السياسية، يذكر الكتاب عامل الوعي، فمجرد عملية الانتخاب مثلا تتطلب من المواطن التوقيع على بطاقة الانتخاب، والتوجه إلى مكان الاقتراع، وتقرير الإدلاء بالصوت من عدمه، فالمواطنون يقومون بنشاط، وهم على وعي به.
كما توجد عوامل أخرى قد تؤثّر في المشاركة السياسية، منها التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، التي غيّرت من شكل وآليات الفضاء العمومي.
دور المجتمع المـدني
في دراستها لدور المجتمع المدني في تعزيز الديمقراطية التشاركية في الجزائر، توصّلت سميرة لالوش (جامعة بومرداس) إلى جملة من النتائج، من بينها ارتباط الديمقراطية التشاركية ارتباطا وثيقا بالمواطن، وبما أن إشراك المواطن بصفة فردية أمر يستحيل تحقيقه نتيجة الفوضى التي تنجر عن ذلك، يتعين عليه الاندماج في مؤسسات المجتمع المدني.
والأساس المعياري للمجتمع المدني، حسب الباحثة، هو الأساس المعياري للديمقراطية، فالعلاقة الموجودة بينهما أكيدة ووثيقة لأن المجتمع المدني وفاعليته ركن أساسي من أركان النظام الديمقراطي وشرط أولي لفاعليته.
وعلى قدر فاعلية المجتمع المدني ونشاطه، تعطي الديمقراطية التشاركية ثمارها وتؤدي دورها في النظام السياسي. وقد أدركت معظم الحكومات أهمية دور المجتمع المدني، فأصبحت تشجعه وتدعمه وأحيانا تكلفه بتنفيذ بعض المشروعات والبرامج الحكومية الموضوعة في خطة الدولة.
وأوصت الباحثة بأن تشجّع مؤسسات المجتمع المدني كافة أفراد المجتمع على ممارسة دورهم في عملية البناء، والإعلان عن تصوراتهم وأفكارهم التي يؤمنون بها بكل وضوح وشفافية وبروح من النقد البناء والتقييم الموضوعي لنشاط هذه المؤسسات، كما أوصت بتقوية تنظيمات المجتمع المدني ومنحها الاستقلالية وتسهيل عملها ونشاطها، وهذا لا يكون إلا عن طريق دعم سياسة قائمة على مشاركة المواطن والاستفادة من انتشار الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني. كما رأت الباحثة أن على مؤسسات المجتمع المدني العمل على جذب العناصر المثقفة والواعية.
الدّيمـقراطـية في الـدّستور الجـزائـري
حين قراءة نص الدستور الجزائري، نجد أن كلمتي “انتخاب” و«انتخابات” تتكرّران بما مجموعه 34 مرة. ويركز الدستور الجزائري على مبدأ الحرية، الذي به تتحقق الديمقراطية، حيث تفتتح ديباجة كما يلي: “الشعب الجزائري شعب حر، ومصمم على البقاء حرا. فتاريخه الممتدة جذوره عبر آلاف السنين سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح والجهاد، جعلت الجزائر دائما منبت الحرية، وأرض العزة والكرامة. لقد عرفت الجزائر في أعز اللحظات الحاسمة التي عاشها البحر الأبيض المتوسط، كيف تجد في أبنائها، منذ العهد النوميدي، والفتح الإسلامي، حتى الحروب التحريرية من الاستعمار، روادا للحرية، والوحدة والرقي، وبناة دول ديمقراطية مزدهرة، طوال فترات المجد والسلام”.
وتتطرق ديباجة الدستور إلى مشاركة المواطنين: “إن الشعب الجزائري ناضل ويناضل دوما في سبيل الحرية والديمقراطية، وهو متمسك بسيادته واستقلاله الوطنيين، ويعتزم أن يبني بهذا الدستور مؤسسات، أساسها مشاركة كل جزائري وجزائرية في تسيير الشؤون العمومية، والقدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة، وضمان الحرية لكل فرد، في إطار دولة ديمقراطية وجمهورية. فالدستور يجسم عبقرية الشعب الخاصة، ومرآته الصافية التي تعكس تطلعاته (...)، إن الدستور فوق الجميع، وهو القانون الأساسي الذي يضمن الحقوق والحريات الفردية والجماعية، ويحمي مبدأ حرية اختيار الشعب، ويضفي المشروعية على ممارسة السلطات، ويكرس التداول الديمقراطي عن طريق انتخابات حرة ونزيهة”.
كما يكفل الدستور “الفصل بين السلطات واستقلال العدالة والحماية القانونية، ورقابة عمل السلطات العمومية في مجتمع تسوده الشرعية، ويتحقق فيه تفتح الإنسان بكل أبعاده”.
والجزائر هي جمهورية ديمقراطية شعبية (المادة 1)، كما أن “الشعب حر في اختيار ممثليه”، و«لا حدود لتمثيل الشعب، إلا ما نص عليه الدستور وقانون الانتخابات” (المادة 11). و«تقوم الدولة على مبادئ التنظيم الديمقراطي والفصل بين السلطات والعدالة الاجتماعية”، و«المجلس المنتخَب هو الإطار الذي يعبر فيه الشعب عن إرادته، ويراقب عمل السلطات العمومية”، و«تشجع الدولة الديمقراطية التشاركية على مستوى الجماعات المحلية” (المادة 15).
بل إنّ المادة 212 تنص على استحالة أن يمسّ أي تعديل دستوري ثمانية نقاط، من بينها “الطابع الجمهوري للدولة”، و«النظام الديمقراطي القائم على التعددية الحزبية”، و«الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والمواطن”.
مجالس وهيئات استشارية
ودائما في صلب نص الدستور الجزائري، وتعزيزا للديمقراطية التشاركية، استُحدثت مجالس استشارية نذكر من بينها المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي يوضع لدى رئيس الجمهورية، ويتمتع المجلس بالاستقلالية الإدارية والمالية (المادة 198)، ويتولى المجلس مهمة المراقبة والإنذار المبكر والتقييم في مجال احترام حقوق الإنسان (المادة 199) ويدرس المجلس، دون المساس بصلاحيات السلطة القضائية، كل حالات انتهاك حقوق الإنسان التي يعاينها أو تُبلّغ إلى علمه، ويقوم بكل إجراء مناسب في هذا الشأن. ويعرض نتائج تحقيقاته على السلطات الإدارية المعنية، وإذا اقتضى الأمر، على الجهات القضائية المختصة، ويبادر المجلس بأعمال التحسيس والإعلام والاتصال لترقية حقوق الإنسان، كما يبدي آراء واقتراحات وتوصيات تتعلق بترقية حقوق الإنسان وحمايتها، ويعدّ المجلس تقريرا سنويا يرفعه إلى رئيس الجمهورية، وإلى البرلمان، وإلى الوزير الأول، وينشره أيضا.
ومن الهيئات الاستشارية المجلس الأعلى للشباب، الذي يضم ممثلين عن الشباب وممثلين عن الحكومة وعن المؤسسات العمومية المكلفة بشؤون الشباب (المادة 200)، ويقدّم المجلس آراء وتوصيات حول المسائل المتعلقة بحاجات الشباب وازدهاره في المجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والرياضي، كما يسهم في ترقية القيم الوطنية والضمير الوطني والحس المدني والتضامن الاجتماعي في أوساط الشباب (المادة 201).
ولا ننسى المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي الذي هو إطار للحوار والتشاور والاقتراح في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وهو مستشار الحكومة (المادة 204). ويتولى المجلس على الخصوص مهمة توفير إطار لمشاركة المجتمع المدني في التشاور الوطني حول سياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضمان ديمومة الحوار والتشاور بين الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين الوطنيين، وتقييم المسائل ذات المصلحة الوطنية في المجال الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والتكويني والتعليم العالي، ودراستها، وعرض اقتراحات وتوصيات على الحكومة (المادة 205).
في الختام، تمكّن الديمقراطية التشاركية المواطنين من المشاركة بنشاط في عمليات صنع القرار، وتعزّز الشفافية والعدالة الاجتماعية، كما تتمتّع بالقدرة على خلق نظام سياسي أكثر شمولاً واستجابة يعكس بشكل أفضل احتياجات وتطلعات جميع المواطنين، ويعدّ دعمها ضمانا لمجتمع أكثر إنصافًا وعدالة.