أّسطورة الأوراس وعبقري الأغنية الجزائرية البدوية الشاوية، ذلك الصوت الذي اهتز له جبل الأوراس، وتميز بطول النفس إنه الفنان الكبير والعملاق أو أسطورة الأغنية الشاوية عيسى الجرموني صاحب الصوت القوي الأصيل والألحان العذبة، الذي أبهر الكثيرين ممن اهتموا بأمور الفن في الجزائر والأغاني الرائعة التي عرفت ومازالت تعرف نجاحا كبيرا لدى كل فئات المجتمع فأحبه الجميع على حدّ سواء..
عيسى الجرموني نجم العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي جعله صوته الجميل والقوي يتميز عن باقي الفنانين الذين عايشوه والذين أتوا من بعده، لأن حسّه المرهف الذي كان يتميز به لم يمنعه من معالجة قضايا هامة وحساسة في الكثير من الأغاني التي أداها..
بقرية “متوسة” بسيدي زعيش ولاية أم البواقي عام 1886 ولد عيسى بن رابح مرزوقي، وهو الاسم الحقيقي لعيسى الجرموني الحركاتي، ترعرع وسط عائلة بسيطة، لم يدخل المدرسة قط، قضى فترة شبابه في التنقل بين القرى والمداشر لإحياء الأفراح والأعراس والمواسم الدينية، وهذا منذ سنة 1910، وهكذا ذاع صيته رفقة مجموعته المتكوّنة من الحاج محمد بن الزين والميلود قريشي عازفان على آلة القصبة ومحمد بن براج “البراح”.
البساطة والتواضع
بساطته وتواضعه وأخلاقه الحميدة هي صفات جعلت عيسى الجرموني يكسب احترام الجميع لأنه كان يشعر بآلام أهل قريته وشعبه التي زادتها شراسة المستعمر الغاشم مرارة، فكانت وسيلته الوحيدة للتعبير عن هذه الآلام هي الأغنية التي أبدع فيها أيما إبداع. كما أن ما حبب فيه شعبه أنه كان لا يرفض أي دعوة لإحياء عرس أو فرح مهما كان صاحبها، ومهما كانت المسافة التي تبعده عنها ويذكر أنه كان يتضايق لحد البكاء عندما يتلقى دعوتين في نفس الوقت لمناسبتين من أهالي تفصلهما مسافة كبيرة كونه سوف يرفض واحدة حتما...
في 23 أفريل من سنة 1930 (ومصادر أخرى تقول 1933) سجل عيسى الجرموني أول أسطوانة له بتونس، والتي كانت فرصة لتوصيل هذا الصوت الرائع إلى كل أنحاء الوطن، أما إنطلاقته الحقيقية فكانت بباريس، حيث سجّل العشرات من الأشرطة تحت إشراف “جوزي هارون “ انطلاقا من سنة 1934، ثم قدم بعدها المئات من الأعمال الفنية وإحياء العشرات من الحفلات بأغانيه العذبة ذات الألحان الشجية سواء بالشاوية أو بالعامية ومن أشهرها أغنيته المعروفة “يا عين الكرمة جيبي لي لخبار”، هذه الأغاني التي عرفت نجاحا كبيرا وباهرا ويكفيه فخرا أنه أول فنان جزائري يحيي حفلا بقاعة الأولمبياد بباريس سنة 1937 رغم إصرار بعض السياسيين الفرنسيين، على عدم برمجة هذا الحفل الذي وصفوه بالمهزلة.
.. غنّى للمرأة
عيسى الجرموني الصوت القوي الأصيل وصاحب التنقلات الكثيرة ونجم بداية القرن الـ20 كسب ثقة وصحبة الآلاف من الأصدقاء، لمع اسمه في سماء الأغنية الجزائرية وأصبح صيته على كل لسان، فأصبح البعض منهم يقطع عشرات الكيلومترات لحضور حفل يحييه هذا المطرب، كما أن من بين أهم مميزات هذا الفنان إلى جانب أوتاره الصوتية الرنانة، غنائه عن المرأة، سواء كانت الأم، الاخت، الزوجة أو البنت خاصة ابنته فاطمة التي أحبها كثيرا وفضلها عن غيرها من بناته الأخريات، مع العلم أنه رزق بسبعة بنات من بينهن فاطمة وعائشة التي سلكت هي الأخرى طريق والدها بعد أن أحبت الفن، حيث غنت لأبيها عدة أغاني مسجلة على مستوى الإذاعة والتلفزيون.
هذا الصوت الثوري والعاطفي الذي دوى لسنوات طويلة صمت بعد أن تمكنّ منه المرض حيث أصيب بداء “التيفيس”، ليفارق الحياة في 16 ديسمبر 1946 وكان عمره لا يتجاوز 60 سنة، تاركا فراغا كبيرا في مجال الأغنية الأوراسية، ولم يبق منه إلا الصدى الذي ما يزال يملأ جبال الأوراس.. لقد ترك بصماته الفنية على كل طبوع الأغنية الأوراسية التي جاءت من بعده لأنه يعتبر حقيقة مدرسة فنية يتجرّع من علمها كل من هو متعطش إلى فن أصيل.
رصيد حافل
رحل عيسى وترك وراءه رصيدا هائلا من الأغاني الشاوية البدوية الأصيلة، رحل وترك عشاقه وأحبابه خاصة صديقه الفنان بن الزين القصاب الذي كان يرافقه في مشواره الفني، والذي قرّر أن لا يعزف إلا معه، حتى أنه يوم وفاته قال كاسرا القصبة “من بعد عيسى ما بقى لاغنى ولا فن”.
واليوم وبعد مرور أكثر من سبعة عقود عن رحيله لايزال اسمه لامعا في سماء الأغنية الجزائرية، وأغانيه لازالت تردّد إلى يومنا هذا، وقد حاول بعض المطربين الشباب اليوم إعادتها في ثوب جديد بعد ادخال عليها بعض التعديلات تخص الآلات الحديثة، ونالوا بها شهرة كبيرة مثل أغنية “لسود مقروني، عين الكرمة، غيم العشوة.. وغيرها”.
كما تمّ تسجيل فيلمين وثائقيين حول شخصيته الأول بعنوان “من عمق الأوراس” للمخرج يزيد، والثاني للصحفي سليمان خاطر بعنوان: “أسطورة الأغنية الشاوية” انتاج التلفزيون الجزائري، وما يمكن قوله في الأخير أن عيسى الجرموني كان عبقري الأغنية الجزائرية البدوية وعبقري بل أب الاغنية الشاوية وعميدها.