«لا تنظروا إلى السّماء”.. هو النّداء الذي يطلقه مناهضو “المعرفة” في لحظة الذّروة ضد الدكتور راندال ميندي والطالبة الدكتورة كايت ديبياسكي، وهما يقدّمان البرهان الحيّ على صدق النتائج التي توصّلا إليها حول مذنب ضخم يوشك أن يصطدم بالكرة الأرضية ليقضي على كلّ أنفاس الحياة، فقد كان كافيا أن ينظر الناس إلى أعلى، كي يروا المذنب “ديبياسكي” وهو يقترب، غير مبال بمصالح السياسيين ورجال الأعمال، ولا بالحملات الإعلامية المضادّة لـ«المعرفة”، غير أن النّظر إلى السّماء، على سهولته، يصبح صعبا للغاية حين يسند الأمر إلى جموع من الحمقى والمغفلين..
هكذا أراد المخرج والسيناريست آدم مكّاي أن يضع الحضارة الجديدة بمجملها، قبالة المرآة، حتى تتمكّن من رؤية المستوى المتدنّي الذي بلغته، والمآل الرهيب الذي تعدّه للحياة برمّتها، وهو يصوّر، في السخرية السّوداء (Don’t Look Up)، جوانب دقيقة من مسار التّدهور الذي تخيّرته حضارة الإعلام، وهذه رؤية لا تختلف كثيرا عمّا قال به مايك جادج في فيلم (Idiocracy- 2008)، غير أن مكّاي كان أكثر دقّة في سخريته، واستغلّ أدوات واقعية كي يعبّر عن الفوضى التي اجتاحت الحياة، ومآلاتها الرهيبة التي لا يمكن تجنّبها..
هذه هي القصّة..
تكتشف الطالبة الدكتورة كايت ديبياسكي (جينفر لاورانس) مذنبا عرضه من خمسة إلى عشرة كيلومترات، وهو يتوجّه للاصطدام المباشر بالكرة الأرضية، فتحذر أستاذها المشرف راندل ميندي (ليوناردو ديكابريو) الذي يساعدها في الحساب، ويتأكد لهما أنّ المذنب أمامه ستة أشهر قبل صدمة النهاية، فيسارعان معا إلى الاتصال بالمصالح المختصّة بقصد العمل على تغيير مسار المذنّب، وهنا يواجهان بعض الصعوبة في التّواصل، ولكنهما يتمكنان في الأخير من تحذير مدير مركز تنسيق الدّفاع بين الكواكب، الدكتور كلايتونأوغلثروب (روب مورغان)، فيوثّق حساباتهما، ويستدعيهما في الحال إلى عرض اكتشافهما أمام رئيسة الولايات المتحدة جاني أورليان (ميريل ستريب) من أجل اتّخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الخطر المحدق بجميع أشكال الحياة.. ويتنقّل العالمان إلى واشنطن، غير أن لقاء الرئيسة يتعذّر عليهما بعد انتظار يوم كامل بسبب انشغال هام، لا يعدو أن يكون احتفالية بعيد ميلاد واحدة من الموظفات، فيتمّ إلغاء اللقاء الأوّل من أجل تحديد موعد جديد، وفي الأخير، يلتقي العالمان رئيسة الولايات المتحدة الأمريكية، ورئيس ديوانها جاسون أورليان (جوناس هيل)، وهو ابنها الذي يسخر من البروفيسور راندل وطروحاته، ويميل إلى الانشغال الأهمّ لوالدته.. انتخابات التجديد النصفي للكونغرس..
الخطر كبير، فالمذنب هو مما عرف في الأوساط العلمية بـ«قاتل الكواكب”، غير أن الشّرح لم يقنع البيت الأبيض، فاقترح الدكتور كلايتون على العالمين التّوجّه إلى وسائل الإعلام من أجل تحذير الناس من الخطر القادم، إلا أن التلفزيونات كان لها انشغالها المختلف هي الأخرى، فأثارت كثيرا من السّخرية مما صرّح به العالمان اللذان جوبها بانحطاط أخلاقي واضح على منصّات التّواصل الاجتماعي، وكانت حال الدكتور راندل أفضل من حال طالبته، لأن اهتمام المنصات انصبّ على وسامته، بينما تقرّر الرئيسة استغلاله في حملتها الانتخابية، فتتبنّى رؤيته، وتعمل مع “نازا” على تغيير مسار المذنب وفق الإجراءات المعروفة..
ينعقد اجتماع على أعلى مستوى بالبيت الأبيض الأمريكي، ويحضره الدكتور راندل وطالبته، ويتم الاتفاق على تطبيق خطة تغيير مسار المذنّب، ويتم إطلاق الصّواريخ فعلا، لكن، يتدخل مموّل الحملة الانتخابية للرئيسة، بيتر إيشرويل (مارك ريلانس)، مدير شركة “باش لصناعة الهواتف النقالة”، ويعلن عن اكتشاف مذهل لعلماء شركته الذين أفادوا بأن المذنّب يمثّل منجما حقيقيا لمواد تدخل في صناعة الهواتف النقالة تساوي آلاف الملايير من الدولارات، فيقنع الرئيسة بتجنب تطبيق خطة تغيير مسار المذنّب، على أساس أن شركته قررت أن تفتته إلى ثلاثين قطعة، ما يجعل اصطدامه بالأرض آمنا، ويسمح بالإفادة من معادنه، وهنا، تتغيّر الخطة عوضا عن تغيير مسار المذنّب الذي ينتهي بمساره إلى الاصطدام بالأرض، ويعلن نهاية الحياة، تماما مثلما قال العالمان راندل وديبياسكي..
وهذه غاياتها..
لن نختلف في الطبيعة الأجناسية لفيلم “لا تنظروا إلى السّماء”، فهو كوميديا درامية تشتغل على أدوات وآليات السّخرية السّوداء، بحكم تضمّنه سخرية لاذعة لا يتبناها المخرج وأبطاله، وإنّما يتولى تمريرها ضحايا السخرية أنفسهم، فهم الذين يشرحون انهيار تراتبية القيم الاجتماعية، ويفكّكون طبيعة العلاقات بين ثلاثية السلطة – المال –الإعلام، كما يقومون، على مدار تصاعد الأحداث، بتقديم صور واضحة عن مختلف الأسباب التي صنعت التّدهور الأخلاقي، وميّعت الواقع المعيش، لتنتهي بالعالم إلى نوع من الهجنة المستساغة على أنّها الأمر الواقع الذي ينبغي أن يكون..
الفيلم الذي أطلقته ّمنصّة “نتفليكس” في الرابع والعشرين من ديسمبر 2021، يقدّم إرهاصات مآلاته، انطلاقا من العتبات، حين يرصّع الشّاشة، بعد اكتشاف المذنب، بمقولة الفكاهي الشّهير جاك هاندي: “أريد الموت بسلام أثناء النّوم مثل جدّي، عوضا عن الصّراخ برعب مثل ركّاب طائرته”، وهو ما يتجسّد فعلا في نهاية الفيلم بالنّسبة لراندل وديبياسكي اللّذان يستقبلان نهاية الحياة على الأرض، بسلام العارفين، بعيدا عن الرّعب الذي استولى على من لا يعرفون حقيقة ما أحاط بهم..
تبدأ أول مظاهر السّخرية السّوداء مع المكالمة الهاتفية التي يجريها راندل مع مديرة “نازا”، جوسلين كالدر، بعد أن يئس من تلقي الردّ على مراسلاته المستعجلة عبر المايل، غير أن كالدر تقابله بنوع من الجفاء، لأنّه قاطعها في اجتماع كان ينبغي أن تعلن فيه لفريقها عن تضييع تمويل يقدر بثمانية ملايير دولار، دون أن تنتبه إلى طبيعة الخطر المحيط بالعالم، ثم نكتشف مع توالي الأحداث أن جوسلين كالدر، “مديرة الناز”، لا علاقة لها بعلم الفلك، وأنّها، في الأصل، طبيبة مختصة في التخدير، تستقيل من منصبها بعد أن تقع رئيسة الولايات المتحدة في فضيحة مجلجلة، فتعمل على استغلال “المذنّب” في حملتها الانتخابية، وتكون استقالة كالدر برهانا على انسجام خطاب البيت الأبيض، داخل السّرد، بينما تكون نفس الاستقالة بيانا بليغا عن تحقير العلم وإذلال العلماء، يوضع بين أيدي المتفرجين..
الصورة الثانية تأتي مباشرة بعد رحلة العالمين إلى واشنطن في طائرة عسكرية غير مجهّزة للمسافرين، نعتقد أن السيناريست تخيّرها إمعانا في ترسيخ فكرة تحقير العلم والعلماء.. في هذه الصورة، يجلس العالمان برفقة أوغلثروب في قاعة الانتظار بالبيت الأبيض، غير أن الرئيسة جاني أورليان تتأخر عن مواعيدها، كما هي عادتها التي اشتهرت بها، وعلى هذا، تنشغل عن لقاء العالمين، ما يفسح المجال للجنرال ثيمز كي يجالسهما لبعض الوقت، ويستغل انتظارهما الطويل كي يبيعهما شيئا من الماء والمقرمشات، يكتشفان بعد ذلك أنها توزّع مجانا على ضيوف البيت الأبيض، وهذا ما يخنق ديبياسكي التي تتساءل: “كيف أمكن لجنرال يعلق ثلاثة نجوم أن يبيعنا ما هو مجانيّ أصلا؟!”..
وتتواتر صور تحقير العلم، والمسؤولين غير المؤهلين معرفيا ولا اجتماعيا، إلى أن يكتمل المشهد في لقاء راندل وديبياسكي مع الرئيسة أورليان، ورئيس ديوانها، فيتبيّن أن الخطر المحدق بالعالم لا يهمّهما مطلقا، بل يتعاملان معهما وفق إملاءات طموحهما السياسي، ولا يكادان يستوعبان شيئا ممّا يقول العالمان، فيسخران منهما، ويتدّخلان من أجل “تصحيح” مقولات راندل، كي يُظهرا أنهما أكثر وعيا منه بما ينبغي أن يقال.. ولقد أبدع المخرج في إعداد المتلقي لخطابه حين ركّز على اللّوحات المعلقة على جدران البيت الأبيض، وكأنها وقفات رمزية أمام تاريخ عظيم يفترسه الحمق المنقّح للآلة السياسية..
ولا يغفل صاحب “لا تنظروا إلى السّماء” عن جناحي الحضارة الجديدة الفاعليْن، ونقصد سلطة المال التي يمثلها مؤسس شركة “باش” الجشع، وسلطة الإعلام التي يمثلّها عدد من مقدّمي البرامج التلفزيونية الحمقى، إضافة إلى ما صار يعرف بـ«المؤثرين” على مستوى منصات التواصل الاجتماعي، وهنا، يبدع آدم مكّاي في تمرير المستوى الرّكيك الذي بلغته البشرية..
في ساحة النّقد..
ظل آدم مكّاي على الدّوام واحدا من الذين يثيرون الأسئلة الصعبة بأسلوب غاية في السّخرية، وهذا ما يصطنع، عادة، كثيرا من الاختلاف في قراءة أعماله، حتى حين يحقّق أعلى الإيرادات في عالم السينما، وهذا ما يتكرّر مع عمله الأخير الذي وصفه أحد النّقاد بأنه “يقول الحقيقة بشأن العالم، غير أن الحقيقة لا تجعل منه ناجحا، لأنه هجاء بلا أسنان”..
على كلّ حال، مساحة الرضى الذي اكتسحها آدم مكّاي، أوسع من مساحة السّخط لحدّ الآن، ونعتقد أن الذين عبّروا عن امتعاضهم من الفيلم، وجدوا صعوبة في التّوغل إلى عمق السّخرية، حيث ربطها كثيرون بفترة حكم دونالد ترامب، واصطنعوا مذاهبهم في التأويل وفق تلك المرحلة بالذّات، إلا أنّنا نرى أن قراءة العمل الفنّي تكون مجحفة للغاية إذا ركّزت على مرحلة تاريخية قصيرة كمثل التي تولى في أثنائها ترامب قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، تماما مثلما تكون مجحفة إلى ركّزت على واقعة واحدة من العمل دون ربطها ببقية الوقائع، مثلما فعل اللبناني بلال خبيز في مقال نشره بـ«ألتراصوت” حيث تحدّث عن الوضع المشين الذي بلغه “العلم”، ولكنّه اعتمد على نبوءتين اثنتين أطلقهما مؤسس شركة “باش”، وقرأ السّخرية من هذه الزّاوية، مع أن صاحب النبوءتين هو نفسه ضحية في المنظومة السّاخرة، وليس ساخرا، ما يعني أن نبوءتيه تصنّفان فيما يرفضه الساخر الحقيقي، ولا علاقة لهما بما يدعو إلى الاعتراف به، فإن كانت نبوءته في حق رئيسة الولايات المتحدة صادقة، بينما كذبت نبوءته في حق راندل، فهذا لا علاقة له بتحقير العلم والاستهزاء من العلماء؛ ذلك لأن المتنبئ نفسه ليس سوى واحد ممّن يمضون بالعالم إلى الهاوية، فهو يعتمد على الحاصلين على نوبل في شتى العلوم، ولكنه – أصلا – يستغلهم بسلطة المال، وليس بسلطة المعرفة، ولعل هذا يوضح ما أشرنا إليه من صعوبة في النفاذ إلى عمق الخطاب السّاخر..
أما العنوان العربي “لا تنظروا إلى السّماء”، فهو ليس معادلا تماما لـ«Don’t Look Up” التي ينبغي أن تكون “لا تنظروا إلى أعلى”، غير أن الترجمة الحرفية لا تعبّر عن المضمون بالضرورة، وعلى هذا، نعتقد أن المترجم وفق تماما في الاشتغال على العنوان من أجل الإلمام بفكرته، وتوجيه القارئ إلى المقصود من الفكرة العامة التي صاغها آدم مكّاي..
ختاما..
نعتقد أن مكّاي عرف كيف يقرأ واقع الحضارة الجديدة، تماما مثلما عرف كيف يشرح تفاصيل المغالطات التي تتأسس عليها العلاقات المعقّدة بين ثلاثية “السلطة – المال – الإعلام”، تحت مظلة الحمق والسّذاجة واللّغو الفارغ، واللّهث وراء المصالح الصغيرة، عوضا عن الحرص على المصالح المشتركة.. وهنا، ينبغي أن نتوقف حتى لا نحرق كلّ تفاصيل الفيلم على الذين لم يشاهدوه بعد، ونكتفي بالقول إن المذنب “ديبياسكي” قد ضرب الأرض فعلا مع استقرار الحضارة الجديدة التي عرفت بـ«حضارة التّواصل”؛ ذلك لأن “الاستشراف” الذي اعتمده مكّاي، ليس سوى آلية من آليات السخرية المقذعة..