تناقش المداخلة موضوع المواطنة من حيث المصطلح والقضية خاصة في ظل ما يسمى بـ «الربيع العربي».
سنتعرض إلى معاني ودلالات مفهوم المواطنة من حيث اللغة، ومن حيث سياقه القانوني والسياسي وباعتبارها قيما وسلوكا اجتماعيا ومسئولية، وباعتبارها آدابا وأخلاقا، وتكوينا وذوقا حضاريا، وتراثا مرتبط بقيم وثوابت المجتمع، وفلسفته في الحياة.
يشغل مفهوم المواطنة حيزا كبيرا عند المثقفين منهم السوسيولوجيين والنفسانيين، نظرا لدور هذا المفهوم في تشكيل ملامح بعض الحضارات القديمة كالحضارة اليونانية والرومانية التي اعتبر فيها مفهوم المواطنة ركيزة أساسية لتأسيس مجتمع المدينة الفاضلة والديمقراطية، كما يرجع الاهتمام بهذا المفهوم إلى التطور الذي عرفته المجتمعات الغربية خلال القرنين 18 و19، فمع إعلان استقلال الولايات المتحدة في عام 1786 والمبادئ التي أتت بها الثورة الفرنسية في عام 1789، وبروز دور الفرد داخل المجتمع، وتكريس مبدأ العلمانية. سيعرف مفهوم المواطنة تداولا كبيرا في أدبيات الفكر الغربي.
وهذه اللفظة وما ارتبط بها من قضايا كانت مدخلاً استخدمته الدول الاستعمارية لتأليب الأقليات على غالبية الشعب، ولكي توجد لها جيوباً موالية من الشعب نفسه، لقد كان ملف الأقليات ورقة ساخنة في أيدي الدول الاستعمارية تضغط به على أنظمة الحكم في بلادها كي تقبل بتدخل تلك الدول في شؤون البلاد ومصالحها الموجودة في بلده، في المقابل فإن بلداً إسلامياً تفوق نسبة المسلمين فيه الـ 80% وربما 90 % أو أكثر من ذلك، بالتالي لا يعقل أن يقبل هؤلاء، أن يتربع على قمة السلطة، شخص يدين بديانة مغايرة لديانتهم. والمطلوب من أي نظام قادم أن يستمسك بأمرين: الالتزام بأحكام الشريعة في كل شيء؛ وخاصة في ما يتعلق بوضع أهل الذمة في بلاد المسلمين. و ثانياً إعطاء أهل الذمة حقوقهم التي كفلتها لهم الشريعة، والحذر من التفريط فيها.
مفهوم المواطنة بعد حراك ثورات الربيع العربي
تطور مفهوم المواطنة عبر التاريخ الإنساني، واقترن بحركات نضاله الدائم عبر مختلف العصور، وذلك من أجل أن يحقق العدل والمساواة والإنصاف في المجتمعات التي ينتمي إليها. فتنوّعت تبعا لذلك إفرازات مفهوم المواطنة، في تاريخ الإنسان المعاصر، نظرا لاختلاف التيارات الفكرية السياسية والاجتماعية، التي أنتجتها ظروف الحياة - التي أحاطت بها - بما فيها من أبعاد اقتصادية وسياسية، واجتماعية و أيديولوجية وتربوية. تعتبر المجتمعات العربية، من أكثر المجتمعات اتصافا بتعدُّدية دينية ومذهبية وعرقية وثقافية و لغوية، نشأت عبر التاريخ والجغرافيا والظروف السياسية التي مرت بها.
لذلك نرى أنه ينبغي على قادة الحراك العربي، إعطاء نوعا من الأولوية لتلك التعدُّدية، فى شعاراتها وبرامجها السياسية لأن الأقليات العربية المنتمية لواحدة أو أكثر من تلك التعدديات، تحتاج إلى الاطمئنان في الحصول على حقوقها الوطنية مثلها مثل الأكثرية.
وهذا يتطلب طرح شعارات أخرى، قوية من حيث المضمون والانتشار يمكنها وأن توازي قوة شعار الديمقراطية وفي مقدمتها شعار المواطنة الذي ينبغي الاهتمام بكل تفاصيله من مبادئ ومكونات القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. إذ لا يكفى القول بأن شعار الديمقراطية يتضمن مفهوم المواطنة، لأن توفر المظاهر التنظيمية الديمقراطية لا تعني بالضرورة وجود ممارسات المواطنة.
لذلك ينبغي على القوى السياسية والمؤسسات المدنية، أن تضع موضوع المواطنة، كشرط أساسي من شروط تجسيد شعار الديمقراطية في البلاد، إذ لا تقل المواطنة فى أهميتها عن شروط أخرى مثل الانتخابات والبرلمان والحكومة المنتخبة. لذلك ينبغي أن يردد شعار المواطنة فى كل المنابر الإعلامية وجعله في مقدمة المطالب المطروحة في ساحات النضال العربية.
هنا يجب التذكير بأنه مثلما الديمقراطية السياسية لا تكتمل ولا تستقر إلا بالتحامها مع الديمقراطية الاجتماعية ـ الاقتصادية، فكذلك الحال مع المواطنة الحقوقية القانونية، فإنها لا تكتمل إلا باندماجها الكامل مع المواطنة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي يحسُّ بها المواطن ويعيشها في كل نشاط من نشاطاته اليومية وفي كل ركن من المجتمع الذي يعيش فيه. عندما تتأكد الجماعات التعددية أن مفهوم المواطنة لا يتنافى ومفهوم التعددية، بل إنه يشجع تواجدها المتفاعل الخلاَّق، في ظل ما تفرضه المواطنة من انتماء مدني، يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات والفرص والامتيازات يسري على الجميع، ويخضع لرقابة الدولة، التي تعمل على تحسَينه بصفة مستمرة حتى يصبح أكثر عدلا.
فعندما تعرف الجماعات التعددية، أن هناك خطوات عملية تتحقق فعليا ستطمئن وبالتالي ستندمج تدريجيا في حراكات المجتمع دون تردد أو خوف.
ومن ثمة سيمكنها التصدي للآلة الإعلامية، التي تؤجٍّج الخوف وتغذٍّيه في نفوس بعض الطوائف والأقليات، ممثلة في بعض الإذاعات والقنوات التليفزيونية المحلية والفضائية وبعض شبكات التواصل الالكتروني، يشرف عليها بعض الانتهازيون من الرموز السياسية ورجال الأعمال.
ترسٍّخ تلك الوسائل الإعلامية، فكرة الطائفية والقبلية والقطرية المحلية والتمزيق الإثني واللغوي.
بعد حراك الربيع العربي، ينبغي ألا تجد تلك الخرافات
والسموم مكانا، لاسيما فى ظل مكونات وممارسات المواطنة الديمقراطية العادلة، التي تقوم على القيم السماوية والإنسانية، وما يفرضه الضمير وتتطلبه الأخلاق.
المواطنة الحقيقية، هي تلك الممارسة التي تقوم على أساس الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى كفلتها له المواثيق الدولية، وحثت عليها كل الدّيانات السماوية.
والمواطن هو مصدر السلطات، ومنبع الإرادة المجتمعية، ومواطنته هي روح التسامح والتفاهم والتعاضد مع الآخرين، وكذا عدم إقصاء أو تعصُّب أو اعتداء على حقوق الآخرين. لابد أن يكون شعار المواطنة بكل تفاصيله متواجدا في كل المنابر الإعلامية والسياسية والثقافية، وضمن كل برنامج القوى الثورية العربية.
لقد ولد بني البشر مختلفين في العرق والجنس والدين والمذهب، ولقد قدر لهؤلاء المختلفين أن يسكنوا في وطن واحد. لا يضبط طبيعتهم الإنسانية، سوى الروابط والوعود المتبادلة. تحكمهم مؤسسة دنيوية واحدة، أن واجبها أن تضمن لهم المساواة و العدل. المواطنة، هي أعدل المفاهيم قسمة بين من يعيشون معا على الأرض واحدة.
لكن واقعيا، عندما تطرح قضية المواطنة في التدوال السياسي العربي، إلا وتصحبها مجموعة من الإشكاليات والعوائق الإيديولوجية، من بينها: أن مفهوم المواطنة مفهوم غربي المنشأ فهل يوجد مرادف لمعنى المواطنة في أدبيات الفكر العربي الإسلامي؟
فما هي أهم العوائق الأيديولوجية والسياسية والثقافية، التي تحول دون تأسيس هذا المفهوم في التربة العربية الإسلامية؟ من أهم تلك العوائق، هو العائق الثقافي.
حيث عرفت أوربا خلال تاريخها - خاصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر - فصل الدين عن السياسة، وتكريس مبدأ العلمانية، كما عرفت أوربا التنظيم العقلاني للعمل، وتحرر الفرد وعدم خضوعه لجماعة معينة، إنما يخضع لسلطة العقل والمنطق السليم.
كل ذلك كرّس مبدأ المواطنة، الذي يعترف بأحقية الفرد في العيش الكريم والحرية والمساواة والحق في المشاركة السياسية والمجتمعية.
في الحضارة العربية، لايزال الديني يخضع للسياسي، ولم يتم الفصل بينهما، رغم وجود حركة اجتماعية وسياسية، تطالب بتكريس مبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة.
ولازالت سلطة الجماعة والقبيلة هي السائدة في المجتمعات العربية، بل ومازالت السلطة السياسية تعتمد على القبيلة، من أجل قضاء مصالحها السياسية والاقتصادية، فكيف يمكن إذن، بناء الديمقراطية والمواطنة، وتأسيس مجتمع الحق والواجب.
«إنّ ممارسة مبدأ المواطنة على أرض الواقع يستوجب توفير حد أدنى من الحقوق الأساسية للمواطن حتى يصبح للمواطنة معنى. إذ لا معنى لوجود حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية على الورق لا يتوفر الحد الأدنى من ضمانات ممارستها على أرض الواقع «3».
أما العائق الأكبر الذي تعاني منه الشعوب العربية، هو عائق الفقر، لأن المواطن الذي لا يجد قوت يومه يصعب عليه أن يطالب بحقوقه السياسية، لأن تفكيره ينصب فقط على توفير لقمة العيش لعائلته، قبل أن يمارس حق الانتخاب أو الاقتراع، أو يشارك في تظاهرة أو ينضم إلى حزب سياسي، أو ينشط داخل جمعية....إلخ. لذلك يتنازل الأفراد عن حقوقهم كمواطنين.
ما يؤدي بهم إلى الإحساس باللاعدل واللامساواة، و بالتالي يضعف عندهم الشعور بالمواطنة بما لها من حقوق وما عليها من واجبات.
وفي ظل هذا الوضع تبقى التربية على المواطنة وترسيخ مبدأ المواطنة في صفوف الأفراد والشباب وتأهيل مؤسساتنا التعليمة من أهم الوسائل البيداغوجية، فالمؤسسات التعليمية تأتي في مقدمة الوسائط التربوية – لاسيما في مراحل التنشئة الأولى – من خلال المقررات الدراسية والأنشطة المدرسية...الخ، التي يمكن من خلالها إكساب الأفراد قيم المواطنة (قيم الحوار، التسامح، العقلانية، الحقوق، الواجبات....). إضافة إلى دور الإعلام ومختلف الوسائط المعلوماتية في ترسيخ مبدأ المواطنة.
الهوامش:
1 - د. علي محمد فخرو. ثورات وحراك الربيع العربي وشعار المواطنة. مجلة البيان، عدد «297» ـ 2013 - 02 - 20
2 - د عثمان بن صالح العامر. أثر الانفتاح الثقافي على مفهوم المواطنة لدى الشباب 2013.
3 - يوسف الكلاخي مفهوم المواطنة بين النطرية والممارسة 6 - 01 - 2012