رجال ألهمهم الله الفهم والذكاء والفطنة، لم يدخلوا المدارس ولا الجامعات.
لكنهم اكتسبوا الخبرة التجربة. الحياة كانت صعبة جدا. هي التي علمتهم كيف يكون النجاح والانتصار.
كان لهم ما أرادوا، واجتمعت الأمة، وبدأوا بحرب العدو، فأظهروا شجاعتهم العظيمة وذكائهم المتقد وابتكروا أساليب لم يعرفها أسلافهم ومن العجائب أنهم جمعوا الذين كانوا أعداء للعدو، ورغبوهم بالانضمام إلى المجاهدين في الجبال، أين دامت الثورة طيلة سبع سنوات ونصف من الكفاح المسلح والعمل السياسي. أمر بتجنيد كل من كان صالحا للجهاد، فاستجابوا لنداء أول نوفمبر. قام كل واحد بواجباته خير قيام وانطلقت ثورة أول نوفمبر 54 في جميع مناطق الوطن، واصلت العمل في إطار نقص التنسيق فكل قائد منطقة كان يسير شؤون الحرب في المنطقة وفق تجربته واجتهاده.
كان يقدم الأولويات التي يراها مناسبة. فقلة الإمكانيات البشرية والمادية.
بدأت العمل في التوجيه والتوعية للانضمام إلى جيش التحرير الوطني.
بقي الأمر في كل منطقة معزولة ينقصها التنسيق وكيفية الخروج من بعض القضايا المطروحة الهامة.
فكر القادة في تنظيم لقاء بين القادة وفي انتظار مؤتمر الصومام الذي وحد التنظيم في شكل برنامج عمل تقسيم الولايات وتوزيع المهام والرتب العسكرية. أصبحت وحدة مستقلة، كل ولاية خاضعة للجنة التنسيق والتنفيذ.
لقد انبثقت القيادة عن المؤتمر، القيادة الجماعية تتكون من أربعة أعضاء مسؤول سياسي، عسكري وله ثلاثة نواب في جميع المجالس، منها ولاية منطقة، ناحية، قسم، ولقد تم تكوين المجالس الشعبية في نظام سياسي إداري بديلا للإدارة الفرنسية.
فهو تنظيم سياسي يعمل ويقوم للدعاية والتجنيد والتأطير التي أسندت إليه،
وذلك لتوفير الظروف الملائمة ليقوم جيش التحرير الوطني بمهامه العسكرية.
عزل الإدارة الفرنسية والحصول محلها حيثما أمكن ذلك في الجبال والأرياف.
لخصّت وثيقة مؤتمر الصومام، بتنظيم سياسي وهيئات تتكفل بالتموين والقضاء وتجنيد المجاهدين ومصالح الأمن والأخبار. كان مؤتمر الصومام قد شهد نقاشا ساخنا حول هذه المواضيع بين المشاركين. أعربوا عن أراء مختلفة حول مبدأ الانتخابات أم التعيين أو حول أحادية القوائم أو تعددها.
كان العربي بن مهيدي رحمه الله أكثرهم تمسكا بمبدأ الانتخابات.
أقيمت هذه المحاكم على مستوى الناحية والمنطقة والولاية بتشكيل متماثل. فالمحكمة الثورية للناحية مثلا، كانت تضم ثلاثة ضباط هم: المسؤول السياسي- العسكري – والاتصال والإخبار في المنطقة وعلى مستوى الولاية أيضا وتتخذ هذه التنظيمات إجراءات تأديبية.
كما نظم الرتب العسكرية والوحدات كالفصيلة والكتيبة والفوج وأفواج فدائية وكومندوس والمجاهدين المتميزين بحمل السلاح والزي العسكري والقتال في الأرياف و فئة المسّبلين التي تضم مناضلين يعيشون بين السكان ويقومون بتخريب منشآت العدو. كما قام بتنظيم في فترة قصيرة العمل في الخارج في مجال التنظيم العسكري والسياسي والتمويل بالسلاح.
أخذ في تهيئة النفوس لمجابهة العدو وبدأ المجاهدون في المناطق بإتصال مع السكان وقام بفتح باب التجنيد من لأبناء المناطق هذه. أثبت الشعب الجزائري بالتزاماته طبقا لنداء جبهة التحرير الوطني، بوحدة الشعب، فكان التغلغل الهائل بجبهة التحرير بين سكان المدن، ففند مزاعم فرنسا من أن قوات جيش التحرير الوطني، هي عصابات ومجموعة من قطاع الطرق. ولا نشاط لها سوى في الجبال وكان التفاف الشعب حول الثورة.
كانت الأرياف الجزائرية هي القلب النابض للثورة في مجال تجنيد جيش التحرير الوطني في الـ 57 ، أنشئت وحدات منتقلة ذهابا وإيابا بين الداخل والخارج، من الولاية الرابعة إلى تونس أو المغرب وذلك لتزايد الحاجة إلى الأسلحة وعندما عرفت فرنسا الوضع فكرت في قطع مصادر التموين عن الداخل فظهر مشروع بناء الخطوط الكهربائية (موريس وشارل).
أصبح الأمر صعبا فاستشهد الكثير من هذه الكتائب التي كانت تحمل الأسلحة إلى الداخل وكانت مزودة برشاشات ومدافع وبأسلحة حديثة، لكن كانت تتعارك مع العدو عند العودة وأحيانا تكون قد نفدت الذخيرة وعند العودة تكدست هذه الأسلحة بدون قائد وجيش الحدود لم يعرف الظروف القاسية التي كانت في الداخل.
مرت سنة على مؤتمر الصومام الذي أقر مبدأ أولوية الداخل على الخارج و أولوية السياسي على العسكري و أحداث تعديل كبير على اللجنة التي ارتفع عدد أعضائها الى 14 عضوا، أربعة منهم شرفيون هم السجناء الخمسة.
لكن لم يطرأ تغيير على توزيع الوظائف ولا على أصحابها وهكذا بقيت لجنة التنسيق على حالها.
انتهى كل شيء، بقي غير الحرب في الجزائر يسمع عنها كل العالم. تتوفر فيها مواصفات الحرب و العدو لا يزال يرفض الاعتراف بحرب بجميع المقاييس من ضراوة المعارك إلى كثافة التخريب، وضخامة القوات الفرنسية في الجزائر سنة بعد سنة.
اعتقد ضباط فرنسا أن السلاح النفسي وسيلة للرعب وهو خطير جدا في هذه الحرب فهو الذي مكن الآفلان، في رأيه من التحكم في السكان وقد كتب هذا دون أن يخشى المبالغة، انه أشد خطرا من الأسلحة النووية ويتم توظيفه عن طريق الدعاية والتحريض غسل الدماغ والنقد الذاتي والمحاكمات الشعبية والتسميم بواسطة الإبهار.
كان التنظيم محكما في مؤتمر الصومام، فكانت فكرة لقاء قادة الثورة في مؤتمر تنظيمي، إذ هو نقطة أساسية للثورة. فالظروف لم تسمح إلا بعد وقت معين من ميلاد ثورة التحرير التي كانت تسير بسرعة فائقة وثابتة، أضحى من الضروري تقييم هذه المسيرة ومهام الصعاب والمشاكل.
شرع القادة في الإعداد للمؤتمر. كانت في البداية متجهة إلى عقد المؤتمر في شمال قسنطينة، إلا أن الصعوبات جعلت من غير الممكن أن يعقد هناك، كما تعذر من الانعقاد في عدة ضواحي كالأوراس وسوق أهراس والأخضرية. تأجل المؤتمر بسبب تسرب أخبار مكانه وزمانه إلى المستعمر. وفي الأخير تم الاتفاق على منطقة وادي الصومام، أين سيطر جيش التحرير الوطني على المكان.
تم عقد مؤتمر الصومام من 14 أوت إلى 23 أوت 1956، . استمر 10 أيام برئاسة العربي ابن مهيدي وعبان رمضان وحضره القادة من كل ولاية إلا منطقة الأوراس، وكان جدول الأعمال. الذي شمل كل ما يتعلق بالثورة من قضايا الساعة و أفاق المستقبل، وإيجاد الحلول المناسبة لها.
تم الاتفاق بين المؤتمرين على وضع قرارات تهم كافة ميادين الثورة منها
التنظيم – و أهداف الكفاح وكيفية الوصول إلى استرجاع حرية الجزائر و استقلالها، وبناء الدولة الجزائرية المستقلة.
تم إصدار وثيقة برنامج الصومام، هيكلة جبهة التحرير الوطني.
هيكلة التراب الوطني، تقسيم البلاد إلى 6 ولايات.
الولاية:
تتكون الولاية من المناطق والمناطق من النواحي والنواحي من الأقسام والأقسام من الدواوير ...إلخ.
على رأس كل ولاية عقيد وله ثلاثة نواب وهم:
-الرائد السياسي.
-الرائد العسكري.
-الرائد المكلف بالمخابرات و الاتصال وكذلك المصالح التابعة للولاية،
من ( طبيب – ومسؤول نزع الألغام – كاتب الولاية – المكلف بالدعاية – إيصال الولاية ).
والولاية تنقسم إلى مناطق عديدة بحسب الوضع الجغرافي للولاية، قد تكون من 4 إلى 5 مناطق وكذلك المناطق تنقسم إلى نواحي والناحية بحسب مساحتها، والناحية تنقسم إلى مجمعات سكانية ودواوير.
وكل مجمع سكني يضم 5 مسؤولين.
المسؤول الأول: مكلف بالسياسة والمالية.
المسؤول الثاني: مكلف بالإتصالات والأخبار.
المسؤول الثالث: مكلف بالشؤون الاجتماعية.
المسؤول الرابع: مكلف بالتموين.
المسؤول الخامس: مكلف بالمسبلين والحراس.
كما نظم المؤتمر دور المحافظ السياسي،
من أجل تحقيق مبادئ عامة كالمشورة والديمقراطية.
من خلال دور المحافظ السياسي عرف سكان الجزائر حق المعرفة نظام الثورة كخلايا وأفواج بحسب الاحتياجات كان دور المحافظ السياسي ينشط في أماكن آمنة وفق المطالب، الاجتماع – المراقبة الإنضباط –المحاسبة .
كان عمله يرتكز على جمع الاشتراكات والمؤونة والأدوية.
كان يقوم بدور فعال كالإعلام وتوعية السكان وتقديم يد العون والتكفل بأرامل الشهداء والمجاهدين والفصل في الخصومات ومنع اللجوء إلى المحاكم الفرنسية لقد اجتاز هذا النظام الذي تحدى العدو بالطرائق والتفكير، وهذا ما جعل العدو في عدة مرات يتعجب ويبهت.
كان العمل في بداية الأمر سيكولوجية مدعما بإعلام وبصحف تكتب أحداث الساعة، واستطاع هذا الجناح بإيصال الرسائل إلى السجون وإلى الذين ظلمهم الكولون.
كانت تصدر باللغتين العربية والفرنسية وكان المحافظ ينشر التقارير الداخلية للإطارات والمجاهدين. كان يشرف على دور الأمن والحراسة من أجل حماية المقيمين في الجهة. يشرف على محو الأمية و دحض الغزو الثقافي، كما يتم تعليم الجنود كيفية الإسعافات الأولية. كان لكل كتيبة مرشد يعلم الجنود الدين – السياسة الثقافة والمحافظة على قيام الصلاة.
أما دور العسكري، يقوم العسكري بالتنظيم المحكم بالكمائن والاشتباكات
وتدريب المجاهدين على كيفية استعمال السلاح والقتال وتعليم المجاهدين بأساليب الكروالفر- و اتقان فنون القتال، وعند الكمائن لابد من انتظار الضوء الأخضر من المسؤول وذلك يكون أول من يطلق الرصاص.
دور المخابرات والاتصال
فهو دور استراتيجي بني على نظام الثورة ومخطط محكم – وهو يستقى الى جمع المعلومات حول العدو المتمركز في الجهة كعدد ضباط جنود العدو وعدد الجزائريين داخل العدو لاقناعهم بالتسلل من صفوفه لتجنيدهم من جديد جيش التحرير. والاتصال بذويهم حتى يقتنع أبنائهم بالعمل مع جيش التحرير الوطني، يسلم تقاريرا حول عتاد العدو ويسجل ذلك بدقة عدد الدبابات، الشاحنات، جنود العدو وأسماء الطرق التي يمر منها وذلك لتحديد مكان الكمائن ... والهجوم على العدو.
كان المجاهدون يستفيدون من تلك المصادر التي تصلهم، لإعادة تنظيم من جديد على هيئة فرق صغيرة تلتحم مع العدو عند الضرورة لتلحق الخسائر الفادحة بالأعداء وفق التكتيك الجديد لحرب العصابات، الهجوم في الوقت المناسب والانسحاب عند الضرورة.
رغم مخيمات التجميع والاكتظاظ ومنها كانت أحوال الصحة، ارتفاع وفيات الأطفال، الفقر المدقع، البؤس المادي و المعنوي ذلك هو النصيب عن المحتشدات، سياج الأسلاك الشائكة و أبراج للحراسة و تنصيب فوقها مكبرات الصوت التي توزع بدون انقطاع، خليط من التهريج و الروايات الملفقة من قبل مكاتب لاصاص هذه حياة المحتشدات التي بلغ عدد الجزائريين فيها أكثر من ثلاثة ملايين أو يزيد.
كما كان القتل والقمع والتعذيب والقهر وتكثيف التفتيش في كل مناطق الوطن، لكن جيش التحرير الوطني أخذ كل احتياطاته من أجل تفويت الفرصة لجنرالات فرنسا الذين تخرجوا من الكليات الحربية، وفي هذه الظروف الصعبة التي عانى المجاهد من ندرة الذخيرة، وبهذه الظروف بالذات كان الصبر والحكمة والخطة هي نجاحنا.