مبدأ يختلف حوله الفقه الدولي يستعمل ذريعة لاستغلال واستعمار الدول

إشـكاليـة التـــدّخـل الدولي الإنسـاني وتأثـيره على السيادة الوطنيـة

بقلم الدكتور حساني خالد أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان بكلية الحقوق والعلوم السياسية جامعة عبد الرحمان ميرة - بجاية

الفرع الثاني: مشروعية التدّخل الإنساني

إذا كان الفقه الدولي قد اختلف حول مفهوم التدّخل الدولي الإنساني بين من يعتبره ذلك التدّخل الذي يتم عن طريق القوّة المسّلحة بتفويض من مجلس الأمن، ومن يرى بأنه يمكن أن يتم عن طريق استخدام القوة العسكرية أو عن طريق وسائل أخرى مثل الضغط السياسي والضغط الاقتصادي والدبلوماسي، فإنه يتفق على أن الغرض منه إنساني وهو حماية حقوق الإنسان والأقليات، كما ميّز الفقه بين التدخل الإنساني المنفرد وهو تدخل غير مشروع وتدخل الأمم المتحدة الإنساني وهو تدّخل مشروع أقرّته الممارسة الدولية لمجلس الأمن.

أولا: عدم مشروعية التدّخل الإنساني المنفرد

الأصل في التدّخل أنه عمل دولي غير مشروع، فقد أكد ميثاق الأمم المتحدة التزام الدول بعدم التدّخل في شؤون بعضها البعض، وهو ما يستفاد من نص المادة 2/4 التي تنص على أنه «يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوّة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة».
يعتبر هذا الحظر في الحقيقة نتيجة اعتراف الميثاق بالسيادة المتساوية للدول الأعضاء (م 2/2)، ومن ثم فقد ساهم مبدأ حظر استخدام القوة بشكل كبير في الحد من ظاهرة عدم احترام مبدأ عدم التدّخل، وذلك لأن أغلب حالات استخدام القوّة تعتبر من قبيل التدّخل في الشؤون الداخلية للدول.
 وقد تأكد مبدأ عدم التدّخل في العديد من الوثائق الدولية، أهمها الإعلان الخاص بعدم جواز التدّخل في الشؤون الداخلية للدول الصادر بقرار الجمعية العامة رقم 36/ 103 بتاريخ 09 ديسمبر 1981، وقد تضّمن هذا القرار واجب الدول في الامتناع عن استغلال وتشويه المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان بهدف التدّخل في الشؤون الداخلية للدول وممارسة الضغط على الدول أو إحداث الشك أو الاضطراب داخل دولة أخرى أو بين مجموعة دول.
وبالرغم من ذلك إلاّ أن الفقه الدولي انقسم حول مشروعية التدّخل الإنساني المنفرد الذي تمارسه دولة أو مجموعة من الدول إلى تيارين: الأول يعتبر التدّخل الإنساني المنفرد عملا مشروعا، والثاني يعتبره عملا غير مشروع.

التيار المؤّيد للتدّخل الإنساني المنفرد

يستند الموقف المؤيد للتدخل الإنساني المنفرد باعتباره عملا مشروعا إلى الحجج الآتية:
 - إن ممارسات الدول قبل إبرام ميثاق الأمم المتحدة تؤكد مشروعية التدّخل الإنساني المنفرد، لأنه يستند إلى تكافل شعوب العالم للتوّصل إلى حد أدنى من الأمن للإنسانية، كما أن الميثاق لم يتضمن نصًا صريحًا يمنع الدول من حق التدخل الإنساني المنفرد أو الجماعي أو يخوّلها ذلك، زيادة على أن التدّخل الإنساني يندرج ضمن صوّر التدّخل المشروع المستثناة من مبدأ حظر استخدام القوّة وفق ما تنصّ عليه المادة 51 من الميثاق، ومن ثم فإن الدول حافظت على قاعدة عرفية تسمح لها بالتذرع بنظرية الـدفاع الشرعي لحماية حقـوق الإنسان المتعلقة خاصّة بمواطنيها.
- إن القانون الدولي المعاصر لا يهتم فقط بتنظيم العلاقات بين الدول وإنما يهتم أساسا بحماية الكائن البشري وضمان احترام حقوقه، كما أنه لا يضع حدا فاصلا بين المبدأ الخاص بسيادة الدولة، وبين الاهتمام المتزايد بحقوق الإنسان، فميثاق الأمم المتحدة يضع هذين المبدأين اللذين يظهران كأنهما متناقضان، جنبا إلى جنب، فمن ناحية يحظر الميثاق التدّخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ومن ناحية أخرى يلزم الدول على التعاون لحماية حقوق الإنسان وتعزيزها والعمل على تطويرها.
ينتهي التيار المؤيّد للتدّخل الإنساني المنفرد إلى نتيجة مفادها أن القانون الدولي العرفي لا يمنع في ظل شروط وظروف معينة استخدام القوة لأغراض إنسانية، فإذا عجز مجلس الأمن عن ممارسة سلطاته المقرّرة في الفصل السابع من الميثاق بسبب استخدام إحدى الدول الدائمة العضوية حقّها في النقض، يكون التدّخل العسكري المنفرد مشروعا في حالة الانتهاكات الجسيمة والخطيرة لحقوق الإنسان، بتوافر شروط أهمها: وجود أدلة موضوعية تؤكد بوضوح وقوع انتهاكات جسيمة وواسعة النطاق لحقوق الإنسان، وعدم قدرة الدولة المعنية على اتخاذ التدابير المناسبة لوقف هذه الانتهاكات، أو عدم رغبتها القيام بذلك أو هي التي ترتكب هذه الانتهاكات، وأخيرا استنفاذ التدابير غير العسكرية دون جدوى وفشل مجلس الأمن في اتخاذ التدابير المناسبة لمنع استمرار هذه الانتهاكات.

التيار المعارض للتدّخل الإنساني المنفرد

يستند التيار المعارض للتدّخل الإنساني المنفرد إلى الحجج التالية:
- إن الاعتراف بمشروعية التدّخل الإنساني المنفرد يخالف أحد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها ميثاق الأمم المتحدة والمتمثل في مبدأ حظر استخدام القوة أو التهديد باستعمالها في العلاقات الدولية ( م 2/4)، وهو مبدأ اتفاقي وعرفي في آن واحد، وأصبح حاليا من القواعد الآمرة  Jus  Cogens التي لا يجوز مخالفتها.
 كما أن الاعتراف بالتدّخل الإنساني المنفرد ينكر ويخالف جميع قرارات الجمعية العامة التي تحرّم استخدام القوة في العلاقات الدولية تحريما شاملا بموجب ميثاق الأمم المتحدة، فقد استثنى الإعلان رقم 2625 الخاص بمبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودّية والتعاون بين الدول من نطاقه الحق في التدّخل، ولم يتضمن أي نص يتعلق بالتدّخل الإنساني، كما أعاد قرار الجمعية العامة رقم 3314 (1974) الخاص بتعريف العدوان ما جاء في القرار 2625، حيث نصّ في المادة الخامسة على أنه «ما من اعتبار أيا كانت طبيعته، سواء كان سياسيا أم اقتصاديا أم عسكريا أم غير ذلك، يصّح أن يتخذ مبررا لارتكاب عدوان».
سبق لمحكمة العدل الدولية أن تعرّضت إلى مبدأ عدم تدّخل الدول في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، في قضية مضيق كورفو بين ألبانيا والمملكة المتحدة، حيث ورد في حكمها الصادر في 09 أفريل 1949 أنه «يُعمل بقاعدة تحريم اللّجوء إلى القوة مهما كانت النقائص الحالية للأمم المتحدة»، واعتبرت المحكمة أن التدّخل المزعوم وسيلة سياسية لاستخدام القوة، مضيفة أنه حتى ولو فشل مجلس الأمن في اتخاذ التدابير المناسبة تطبيقا للفصل السابع، بحيث تعود الدول إلى الحالة السابقة على الميثاق، إلا أنه لا يمكن قبول ذلك كمبـرر للتدّخل الإنساني.
 في السياق ذاته، فقد أدانت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في 27 جوان 1986 قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتدريب وتسليح وتمويل قوات الكونترا وتشجيع ومساعدة النشاطات العسكرية وشبه العسكرية الموّجهة ضد نيكاراغوا، منتهكة بذلك القانون الدولي العرفي الذي يفرض عدم التدّخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وقد قرّرت المحكمة أن استخدام القوة لا يعد الأسلوب المناسب لضمان احترام حقوق الإنسان، وخلصت المحكمة إلى أن الدافع المبني على حماية حقوق الإنسان في نيكاراغوا لا يمكن أن يبرر قانونا.
 من ثم يظهر أن المحكمة رفضت فكرة التدّخل الإنساني المنفرد لحماية حقوق الإنسان، والذي يؤدي في غالب الأحيان إلى ارتكاب انتهاكات جسيمة لهذه الحقوق، ونحن بدورنا نميل إلى هذا الرأي وحجتنا في ذلك أن التدّخل الإنساني المنفرد يعد عودة إلى القانون التقليدي، أين كانت الحرب وسيلة مشروعة لتسوية النزاعات الدولية، مما يجعل أحكام الميثاق بلا معنى، كما أن الاعتراف بهذا النوع من التدخل يؤدي إلى نشر الفوضى وتزايد النزاعات وانتهاك الحقوق الأساسية للإنسان مثلما حدث في العراق عقب التدّخل الأمريكي عام 2003.

ثانيا: مشروعية التدّخل الإنساني الأممي
أصدر مجلس الأمن بعد نهاية الحرب الباردة العديد من القرارات استنادا إلى الفصل السابع من الميثاق تتعلق بتسوية مسائل لم تكن تقليديا من بين مصادر تهديد السلم والأمن الدوليين، فحماية حقوق الإنسان والأقليات الإثنية والعرقية وتقديم المساعدات الإنسانية، تبرز أن المجلس لم يعد يعتبر الاعتداءات العسكرية وحدها كمصدر لتهديد السلم.
 من ثم فإن أخذ مجلس الأمن بالتفسير الواسع لمفهوم التهديد بالسلم والأمن الدوليين ليشمل النزاعات المسلحة الداخلية والتي تعرف انتهاكات خطيرة وجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، أصبح مبررًا شرعيا للتدخل الإنساني من طرف الأمم المتحدة وبناءً على الفصل السابع من الميثاق.
لقد أكد الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي أن المنازعات التي يتعين على الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الأمن تسويتها، ليست نزاعات محتدمة بين الدول بل ناشبة بداخلها، وعلى الأمم المتحدة أن تواجه في كل يوم الحروب الأهلية وعمليات الانسلاخ والتجزئة والانقسامات الإثنية والحروب القبلية.
    أمام إشكالية التعارض بين التدّخل الدولي لحماية حقوق الإنسان وقيد الاختصاص الداخلي للدول، فقد اعتبرت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في 05 فيفري 1970 في قضية Barcelona Traction أن حقوق الإنسان ذات طابع شامل وعالمي ملزم وتندرج ضمن القواعد الآمرة (Jus Cogens) التي تتجاوز الاختصاص الوطني، حيث يجوز لجميع الدول أن تعتبر بأن لها مصلحة قانونية في حماية هذه الحقوق، وبالتالي فهي التزام في مواجهة الكافة (Erga Omnes).
يضاف إلى ذلك، أن ميثاق الأمم المتحدة يعتبر أن أي تهديد للسلم والأمن الدوليين من جانب دولة ما يشكل استثناء على مبدأ عدم التدّخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء (م 2/7)، وهذا يعني أن منظمة الأمم المتحدة لها الحق في التدخل في الشؤون الداخلية للدول بواسطة قرار صادر عن مجلس الأمن، استنادا إلى الفصل السابع من الميثاق.
وعليه إذا كان الهدف من تدخل مجلس الأمن هو حماية حقوق الإنسان والأقليات، فإن هذا التدّخل لا يعد تدخلا غير مشروع في الشؤون الداخلية للدول. وذلك لأن المادة 2/7 من الميثاق التي تحظر التدّخل في الشؤون الداخلية للدول استثنت إجراءات القمع المتخذة بواسطة مجلس الأمن تطبيقا لأحكام الفصل السابع لحفظ السلم والأمن الدوليين.
 في السياق ذاته، يجد التدخل الإنساني الذي تقوم به الأمم المتحدة بهدف حماية حقوق الإنسان سنده وأساسه القانوني في القرار الذي أصدره معهد القانون الدولي خلال دورته المنعقدة في Saint- Jaques de Compastalle بتاريخ 13 سبتمبر/ أيلول 1989 بشأن «حماية حقوق الإنسان ومبدأ عدم التدّخل في الشؤون الداخلية للدول»، والذي ذهب إلى إخراج المسائل المتعلقة بحقـوق الإنسان من إطـار المجال المحجـوز للدول وفق ما تقضي به المادة الثانية من القرار، وعليه فإن تدخل الأمم المتحدة الإنساني يشكل أحد الاستثناءات الجديدة لمبدأ عدم التدخل والتي فرضتها قواعد القانون الدولي المعاصر.
غير أن الدول العربية ترفض فكرة التدّخل الإنساني حيث أن مجرد ذكر كلمة «تدخل» يعيد إلى الأذهان ذكريات تاريخية مريرة عن حقبة الاستعمار، ويثير ردود فعل كثيرة وأحاسيس بعدم الأمان، وبالفعل، فإنه من غير المتوّقع أن تتعاطف أي دولة عربية مع مفاهيم التدّخل الإنساني لأنها هي المستهدف الأكبر بهذا المبدأ للتدخل في شؤونها الداخلية، كما أن الموقف العربي من التدخل الإنساني يركز دائما على أنه خلال عملية تطوير المفهوم ثم تطبيقه، تظهر مشاكل عديدة لها علاقة بشرعيته وفاعليته وبتبعاته الإنسانية وانعكاساته على القانون والنظام الدوليين، إضافة إلى ذلك يعتقد الفقه العربي أن عملية فهم وتبرير التدخلات الإنسانية تكون مرفوقة بتهم الانحياز والكيل بمكيالين، وينطبق ذلك على معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي فبينما يعجز العالم عن حمايتهم من الاعتداءات الإسرائيلية يرى البعض أن الحجة الإنسانية هي فقط ذريعة للتدخل في البلدان الأخرى.

«يتبـــــع»

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024