مـقـدمـة
إن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه التدّخل الدولي لاعتبارات إنسانية هو التدخل عسكريا من أجل حماية حقوق الإنسان ومنع حدوث انتهاكات جسيمة وخطيرة للقانون الدولي الإنساني؛ وقد تطوّر هذا المبدأ بشكل كبير خلال القرن التاسع عشر، حيث تم استخدامه عدّة مرات من طرف الدول الأوربية للتدخل في شؤون الدولة العثمانية في تلك الفترة، وذلك تحت ذريعة حماية الأقّليات المسيحية التي كانت تعيش في ظل الدولة العثمانية آنذاك. وقد تزايد التدخل العسكري لاعتبارات إنسانية، منذ بداية التسعينيات، حيث شهدت هذه الفترة تطبيقات عديدة للتدخل العسكري لأغراض إنسانية سواء على مستوى أحادي أو على مستوى جماعي في إطار الأمم المتحدة.
غير أنه تجدر الإشارة إلى أن ميثاق الأمم المتحدة لم يستخدم اصطلاح «التدّخل الإنساني» أو «الاعتبارات الإنسانية» بصورة مباشرة، على الرغم من أن الميثاق نفسه قد أشار بصورة صريحة إلى ضرورة احترام وتعزيز حقوق الإنسان، كما جاء في ديباجة الميثاق، وكذلك في نص المادتين 55 و 56 من ميثاق الأمم المتحدة؛ لذلك يمكن القول أن الميثاق لم يسمح ولم يحرّم مثل هذا النوع من التدخل كاستثناء على مبدأ حظر استخدام القوة المنصوص عليه في الفقرة الرابعة من المادة الثانية من الميثاق، أو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية المقرر في المادة 2/7 من ميثاق الأمم المتحدة.
إلا أن تأكيد الميثاق على ضرورة التعاون الدولي لحماية حقوق الإنسان قد يبرّر التدخل الإنساني لحماية الشعوب المضطهدة وقمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني ذلك أن الأخلاق والتضامن يفرضان على المجتمع الدولي واجبا أخلاقيا وأدبيا للتدخل قصد مساعدة ضحايا الكوارث الطبيعية وما شابهها، ويرتبان للضحايا حقا إنسانيا على المجتمع الدولي.
بالمقابل فإن التدخل الإنساني لم يعد مبدءًا متفقا عليه من طرف الفقه الدولي بسبب الانتقادات الموجهة إليه نتيجة تعارضه مع مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول من جهة، واستعماله كذريعة لاستغلال واستعمار الدول من جهة أخرى، الأمر الذي دفع بالمجتمع الدولي إلى إعادة النظر في مفهوم التدخل الإنساني على المستوى النظري لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، من خلال التقرير الذي وضعته اللجنة المعنية بالتدخل وسيادة الدول (ICISS)، هذا الأخير صدر بتكليف من الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 18 ديسمبر 2001، حيث استبدل هذا التقرير مصطلح التدخل الإنساني بمصطلح مسؤولية الحماية La Responsabilité de protéger، ويشار إليه اختصارا بــ (R2P)، وذلك قصد تحقيق نوع من التوافق بين مفهوم سيادة الدولة ومسؤوليِتها تجاه رعاياها –التي يقع عليها التزام حماية مواطنيها– من جهة؛ وبين مسؤولية المجتمع الدولي في حماية هؤلاء الرعايا عند ثبوت عدم قدرة الدولة الوطنية على حماية رعاياها من جهة أخرى.
بناءً على ذلك ففي حالة الانتهاكات الجسيمة والخطيرة لحقوق الإنسان الأساسية لفئة أو جنس معين، فإن المجتمع الدولي ليس أمامه من البدائل سوى تطبيق فكرة التدخل الدولي الإنساني لمصلحة هذه الفئات المنكوبة والمضطهدة، وقد طرح تعارض التدخل الدولي الإنساني مع مبـدأ السيادة العديد من الإشكاليات سنحاول الإجابة عليها في هذه الدراسة.
المبحث الأول: ماهية التدّخل الإنساني
لم يعد التدّخل الإنساني مفهوما متفقا عليه من طرف الفقه الدولي بسبب الانتقادات الموجهة إليه نتيجة تعارضه مع مبدأ السيادة من جهة، واستعماله كمطية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول من جهة أخرى، ومن ثم فإننا سنتناول مفهوم التدّخل الإنساني في مطلب أول، ثم نعمل على إبراز مشروعيته في مطلب ثانٍ.
المطلب الأول: مفهوم التدّخل الإنساني
يعتبر مبدأ عدم التدّخل في الشؤون الداخلية للدول من المبادئ الجوهرية للقانون الدولي المعاصر، غير أن التفسير الواسع للفصل السابع من الميثاق وما ترتب عنه من توسيع المصادر المهدّدة للسلم والأمن الدوليين، جعل تجاوز هذا المبدأ من الممكن جدا في الوقت الحالي، وأصبح التدّخل الإنساني قاعدة عرفية استوجبتها التغيّرات المعاصرة للمجتمع الدولي.
غير أن الفقه الدولي اختلف في تحديد مفهوم التدّخل الإنساني بين من يدافع عن مفهوم ضيِّق للتدخل الإنساني، وهو ذلك الذي لا يمكن أن يتم إلا من خلال العمل العسكري واستخدام القوّة المسلّحة (الفرع الأول).
بينما يدافع الاتجاه الثاني عن مفهوم واسع للتدّخل الإنساني، حيث يعتبر أن التدّخل كما يمكن أن يتم عن طريق استخدام القوّة العسكرية، يمكن أن يتم أيضا بوسائل أخرى مثل الضغوط السياسية، الاقتصادية، والدبلوماسية وغيرها (الفرع الثاني).
الفرع الأول: المفهوم الضيّق للتدّخل الإنساني
يتّجه فريق محدود من الفقهاء نحو حصر التدخل الدولي الإنساني في ذلك التدّخل الذي يقتصر تنفيذه على استخدام القوّة العسكرية، فاستخدام هذه القوّات يمثل إذن الأساس الذي يستند إليه هذا النوع من أنواع التدّخلات الدولية، فقد أطلق مثلا الأستاذ Baxter وصف «التدّخل الدولي الإنساني» على كل استخدام للقوّة من جانب إحدى الدول ضد دولة أخرى لحماية رعايا هذه الأخيرة مما يتعرّضون له من موت أو أخطار جسيمة، كما يمكن أن يستهدف فعل التدّخل حماية رعايا الدولة التي تقوم بتنفيذه، عن طريق ترحيلهم من الدولة التي يتعرضون على إقليمها لخطر الموت.
أخذ بهذا الرأي كل من Bayerlin, Scheffer et Brownlie حيث أكد هذا الأخير أن الهدف من التدخل يكمن في حماية الرعايا وحرياتهم متى كانت دولهم عاجزة عن حمايتهم أو ليست لها الرغبة في ذلك، ويتضح أن المفهوم الضيّق للتدخل الإنساني يرتبط بالقوة المسلّحة، وهو ما سبق أن عبَّر عنه الفقيه Lillich الذي وظف التدخل لحماية رعايا الدولة المتدّخلة أو رعايا الدول الأخرى متى كانوا في أوضاع معرّضين فيها للخطر، كما أكد الفقيه Mario Bettati على مبدأ الضرورة، ومبدأ النسبية، أي أن يكون التدّخل العسكري نتيجة لانتهاكات خطيرة لا غير، فـضـرورة التدّخـل تقدر بقدرها.
بينما قام الأستاذ Marie-José Domestici-met بتعداد ست عمليات يرى أنها تنتسب بشكل أو بآخر إلى هذا النوع من التدّخل، وتتميز هذه العمليات بأن تنفيذها قد تم عن طريق استخدام القوّات المسلّحة، تتمثل هذه العلميات في: التدّخل البلجيكي في الكونغو في جويلية 1960، التدّخل الأمريكي البلجيكي في Stanleyville-Paulis عام 1964، والغارة الإسرائيلية على مطار عنتيبي عام 1976، والعملية التي قامت فرنسا بتنفيذها في Kolwezi عام 1986، والغارة الأمريكية الفاشلة على Tabas (إيران) عام 1980، والعملية التي قامت بها القوات المصرية في مطار مالطا عام 1985 والتي استهدفت إنقاذ الرهائن المحتجزين على متن طائرة البوينغ التابعة للخطوط الجوية المصرية.
غير أن المحكمة الدائمة للعدل الدولي رفضت هذا النوع من التدّخل في قضية (penevezys saldustiskis) عندما أكدت أن قواعد القانون الدولي تمنح الدولة حق الحماية الدبلوماسية لمواطنيها في الدول الأخرى، وأنه لا يحق لها إهمال هذا الحق لرفع الضرر عن غيرهم، بينما أكدت محكمة العدل الدولية في قضية (Barcelona Traction) ضرورة احترام الحماية الدبلوماسية للرعايا على المستوى العالمي، واعتبرت أن وسائل حماية حقوق الإنسان لا تخوّل الدول صلاحية حماية المتضرّرين من انتهاك هذه الحقوق، بصرف النظر عن جنسيتهم، ومن ثم لا يمكن أن يكون التدّخل العسكري الذي تقوم به دولة ما لحماية مواطنيها في دولة أخرى تدخلا إنسانيا مشروعا، لأنه يمثل حالة غير مشروعة لاستخدام القوة وفقا لقواعد القانون الدولي.
أولا: المفهوم الواسع للتدّخل الإنساني
إن الاتجاه المدافع عن المفهوم الواسع للتدّخل الإنساني لا يربط بين التدّخل الذي يتم لأغراض إنسانية و بين استخدام القوّة المسلحة، فهذا النوع من التدّخل يمكن أن يتم بوسائل أخرى غير اللّجوء إلى هذه القوّة كاستخدام وسائل الضغط السياسي أو الاقتصادي أو الدبلوماسي... إلخ، فكلما كان الهدف من هذه الوسائل حمل إحدى الدول على الكف عن انتهاك حقوق الإنسان، كلما أمكن اعتباره تدخلاً دوليا إنسانيا.
يعـد الأستاذ Mario Bettati من أكبر المدافعين على مفهوم واسع للتدّخل الإنساني، حيث يعتبر أن التدخل الإنساني هو ذلك التدّخل الذي يتحقق من خلال تدّخل دولة أو منظمة دولية حكومية في الشؤون التي تعد من صميم الاختصاص الداخلي لدولة معينة، ويضيف إلى ذلك أن التدخلات التي تحدث من قبل أشخاص عاديين أو من قبل مؤسسات أو شركات خاصة أو من قبل منظمات دولية غير حكومية لا ترقى إلى كونها تدخلا دوليا وإنما تعد مخالفات داخلية يتصّدى لها القانون الداخلي للدولة.
بينما يؤكد الأستاذان Olivier Corten et Pierre Klein المفهوم الواسع للتدخل الإنساني، من خلال إدراجهما –تحت الوسائل التي يمكن أن يتم بها هذا النوع من التدّخل- العديد من الوسائل، تتلخص أبرزها في تنظيم الحملات الصحفية، توقيع الجزاءات الاقتصادية، فرض القيود على بيع الأسلحة، منع إرسال مواد الإغاثة للسكان، التدّخل المسلح من طرف واحد، اللّجوء إلى تدابير القمع التي يتخذها مجلس الأمن طبقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
عليه فإنه في ظل هذا التصوّر للتدّخل الدولي الإنساني فإن الهدف من التدّخل يختلف من حالة إلى أخرى، إذ يمكن أن يشمل التدّخل لحماية الرعايا، حماية الأقليات، إنهاء الاعتداءات الداخلية، احتواء الهجرة وتوطين المهاجرين من اللاجئين، التصّدي للمآسي الإنسانية نتيجة الكوارث الطبيعية أو الكوارث البشرية وتدعيم حركات التحرير الوطني بناءً على حق تقرير المصير.
بناءً على ذلك يتفق البعض على أن التفسير الضيّق للتدخل الإنساني قد يتفق مع المرحلة السابقة لإنشاء منظمة الأمم المتحدة، أين كانت الحرب وسيلة مشروعة ومقبولة لتسوية النزاعات الدولية، غير أنه لا يتفق مع المرحلة اللاحقة لإبرام الميثاق عام 1945 حيث تم حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية إلا في حالتين، هما:
- حالة تدابير الأمن الجماعي التي يتخذّها مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من الميثاق.
- حالة الدفاع الشرعي، استنادا إلى المادة 51 من الميثاق.
ومن ثم فإن عدم إدراج التدّخل الدولي الإنساني ضمن هاتين الحالتين، إضافة إلى حصر التدّخل الإنساني في اللّجوء إلى القوة العسكرية يعني القضاء عليه، وهو ما لا يتفق مع الانتهاكات الجسيمة والخطيرة لحقوق الإنسان في عدّة دول، لاسيما حينما يكون الإنسان مهدّدا في حياته و ووجوده بسبب انتمائه لفئة معينة أو تكلّمه بلغة خاصة أو إيمانه بعقيدة مختلفة أو اتسامه بلون مغاير للآخرين.
«يتبـــــع»
الحلـــقـة 1