كثيرون يطرحون مثال الوحدة الأوروبية كقدوة يجب أن نحتذي بها، ومن هنا أتوقّف في إطار هذه الإطلالة السّريعة عند ذلك الإنجاز الرّائع، الذي أجرؤ على القول بأنّه كان درسا للوطن العربي كله، وهو يجمع دياناتٍ ومذاهبَ مختلفة ولغاتٍ وطنية متعّددة في إطار سياسي اقتصادي، واستطاع أن يكون قوة دولية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها في كل التحركات السياسية والاقتصادية الدولية، وأصبح «الإيرباس» الأوروبي منافسا عنيدا «للبوينغ» الأمريكية، والأورو يرفع الرأس بفخر واعتزاز أمام الدولار.
من هنا تأتي أهمية المقارنة بين ما أنجزوه هناك وما تعثّرنا في مجرد الانطلاق به عندنا، وبغض النظر عن أن هناك من يردّدون بأنّ السّيف يفقد قدره إذا قلت أنّه خير من العصا.
وحقيقي أنّ تشكيل الجماعة الأوروبية للفحم والصلب في الخمسينيات على يد كل من ألمانيا الغربية وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ كان انطلاقة عملية نحو المشروع الذي فكّر فيه كثيرون من الساسة الأوروبيين، وإلى درجة استعمال القوة العسكرية لتحقيقه، وهو ما فشل فيه «نابليون بونابرت»، عندما فكّر في إعادة وضعية مثيلة لوضعية الإمبراطورية الرومانية التي كانت تمتد حول البحر الأبيض المتوسط، أو لإمبراطورية شارلمان ثم الإمبراطورية الرومانية المقدّسة، اللّتين وحّدتا مساحات شاسعة تحت إدارة فضفاضة لمئات السنين، قبل ظهور الدولة القومية الحديثة.
وحقيقي أنّ اتفاقية روما في النصف الثاني من الخمسينيات كانت الأساس الاقتصادي للاتحاد الأوروبي الذي يضمّ اليوم ثمانية وعشرين دولة، حيث نصّت على إنشاء سوق أوروبية مشتركة حتى يتم الاستفادة من المنتوجات الأوروبية، وخلق تكتّل اقتصادي وسياسي مندمج بين الدول الأوروبية، قبل أن تتحوّل إلى ما يعرف حاليا بالاتحاد الأوروبي، غير أنّني ممّن يؤمنون بأنّ الانطلاقة الحقيقية لإنشاء الاتحاد كانت لقاء الجنرال «شارل دوغول» مع المستشار الألماني «كونراد أديناور» في 1963، وهو ما أثبت أن الاقتصاد مهما كانت أهميته لا يمكن أن يكون بديلا عن الإرادة السياسية.
كانت فرنسا قد هضمت عقدة الذّنب التاريخية التي نشأت عن معاهدة 1919، والتي تميّزت باضطهاد ألمانيا والعمل على إذلالها والتعامل معها كمجرم حرب، وكانت ألمانيا قد تخلّصت من أوهام الجنس الآري وأطماع التوسع الجغرافي وأوهام المجال الحيوي، وكانت هذه هي الأرضية الحقيقية التي تمّ على أساسها تحقيق النواة الصلبة للاتحاد، وهو ما تواصل فيما بعد على يد فرانسوا متران وهلموت كول.
ولأنّ المقارنة فرضت نفسها، أذكر بأنّ اتفاقية روما كانت مثالا للجدية في طرح قضية الاتحاد الأوربي، حيث تكوّنت من 248 فصلا مبوبة إلى 18 بابا وعشرة أقسام، موزّعة على 17 فصلا مضافا إليها أربعة ملاحق و13 بروتوكولا، في حين أنّ المعاهدة التي أقامت اتحاد المغرب العربي تميّزت بعمومية أهدافها، وكانت تتكوّن على ما أتذكّر من 19 مادة (مادة وليس فصلا)، بحيث يبدو أنّ قلّة المواد كان نتيجة لانعدام حسن النية بين المجتمعين، وبالتّالي تحجيم كفاءة الخبراء وتقييد كتاب النّص النّهائي.
وكان ممّا يؤكّد هذا الاستنتاج الخلاف الذي حدث بين الأعضاء حول مقر الأمانة العامة، حيث كانت الخشية من تأثير دولة المقر عليها، كما يحدث الآن مع جامعة الدول العربية، والتي كان الشائع أنها كانت في عهد الرئيس السابق حسني مبارك مجرد زائدة دودية لوزارة الخارجية، التي كانت هي نفسها زائدة دودية للجنرال عمر سليمان، رحمه الله.
ولقد توحّدت أوروبا لأنّ كل دولة من دولها تصرّفت كفرد من عائلة واحدة متساوية الحقوق والواجبات، ليس فيها كبير أو صغير، فإيطاليا لا تجتر أمجاد الإمبراطورية الرّومانية ولم تعد ترى في الآخرين مجرّد برابرة، وألمانيا لم تعد تتغنّى بفضائل الجنس الآري، وفرنسا لا تعاير الجميع بثورة الباستيل وبأنّها عاصمة حقوق الإنسان، واليونان لا تجتر أفضال أرسطو وأفلاطون على الحضارة الإنسانية، ومالطا لا تجعل من احتضانها فرسان الهيكل مبرّرا لسلطة روحية على المسيحيّين.
والجميع يتّحدون اليوم لمواجهة ما يسمّونه خطر الإرهاب الإسلامي، وهو الاكتشاف الذي اخترعته شركات البترول ومؤسّسات صناعة الأسلحة بعد سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الاشتراكي.
وسنجد هنا أنّ جلّ دول المعسكر المنهار انضمّت إلى خصومها السّابقين في الحلف الأطلسي، لتؤكّد أنّ الأمر أصبح فعلا صراع حضارات لعل بذوره تعود إلى الحروب الصّليبية، وكما يقول المثل الشّعبي «كسْكس له يرجع لأصله».
ولن أتوقّف كثيرا عند استعراض أجهزة اتحاد المغرب العربي، وهي تابعة تماما لقيادات دول الاتحاد، وتذكر المقارنة مع أجهزة الاتحاد الأوروبية بقضية السيف والعصا، ولعل أوضح الصّور هي قضية مجلس الشورى الذي لا يشبه في شيء البرلمان الأوروبي، فبالإضافة إلى أنّ أعضاءه ليسوا منتخبين مباشرة من جمهور المغرب العربي، فإنّه عاجز عن إلزام حكومات الدول المعنية بأي أمر يستقر الرأي عليه، وأصبح مجرّد فرصة لاستفادة البعض من المنح المالية وجوازات السفر الديبلوماسية، وكاد يكون صورة جديدة لمؤسسات الجامعة العربية القعيدة.
وبينما بُنِيَ الاتحاد الأوروبي على اتفاق بين مؤسّسات وقادة منتخبين جماهيريا، يتولون مسؤولياتهم بأسلوب ديموقراطي وعلى أساس مبدأ التداول على السلطة، نجد أنّ معظم ما تمّ في منطقتنا كان أقرب إلى نزوات بين قادة يمكن طرح تساؤلات كثيرة عن خلفيات بعضهم في اتخاذ القرارات، ولهذا جعلت معاهدة اتحاد المغرب العربي من الاتحاد ورقة عملة ملوّنة لا تستند إلى رصيد ذهبي حقيقي.
ولقد كان ممّا حقّق نجاح الاتحاد الأوروبي شجاعة التّنازل عن رموز وطنية عريقة للذوبان في الرمز الأوربي، وأعني هنا تنازل ألمانيا عن المارك وفرنسا عن الفرنك، ولكل من العملتين رمزيتهما التّاريخية، وهكذا ذاب الجميع في عملة «الأورو»، بينما فشلنا نحن في المغرب العربي حتى في مجرّد توحيد اسم العملة، ولا أعني توحيد العملة نفسها، لأنّ قيمة الدولار الأمريكي مثلا تختلف عن قيمة الدولار المكسيكي أو الكندي أو الأسترالي أو الليبيري.
وهكذا جمع «الدينار» بين ليبيا وتونس والجزائر، وظل المغرب يستعمل الدرهم وموريطانيا تستعمل الأوقية.
أكثر من ذلك نجد أنّنا فشلنا حتى في توحيد نموذج اللوحات المعدنية التي تحمل أرقام السيارات في بلدان المغرب العربي، وفشلنا حتى في توحيد بعض مصطلحات الحياة اليومية، فهناك من يسمّي الزّبون عميلا ومن يسميه حريفا ومن يواصل استعمال كلمة كليان (CLIENT).
أكثر من ذلك، توقّف برنامج «مغرب فيزيون» الذي كانت التلفزة في مغرب طنجة تبثه شهريا على الجميع من أحد الأقطار الثلاثة.
وبينما يُرفع علم الاتحاد الأوروبي بجانب الأعلام الوطنية الأوروبية، ويحرص كل زعيم أوروبي خلال النّدوات الصّحفية على وجود علمين خلفه، لم يحدث أن رأيت علم الاتحاد بجانب أعلامنا الوطنية، ولدرجة أنّ الكثيرين لا يعرفون أن لاتحاد المغرب العربي علمه المميّز، والذين يعرفون ذلك لا يتذكّرون شكل العلم.
وأنا أطرح السّؤال: ماذا أعطينا اتحاد المغرب العربي لننتظر منه مقابل هذا العطاء؟ ولما لا نتذكّر التّعبير الرّائع الذي استعمله الرّئيس كينيدي عندما قال: لا تسألوا ماذا أعطتنا بلادنا بل اسألوا أنفسكم ماذا أعطيتموها أنتم؟
وأتذكّر هنا نكتة سيدة مات زوجها فأعطت معمّما وجدته في المقبرة عشرين دينارا، وطلبت منه أن يقرأ شيئا ترحّما على الفقيد، ونظر الرجل إلى القطعة المعدنية ووضعها في جيبه ثم وقف على القبر وهو يتلو بصوت مرتفع: خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة درعها سبعون ذراعا فاسلكوه......وتصرخ المرأة قائلة: أنت تحرق المرحوم، ويردّ الشّيخ قائلا: هل تريدين له جنات تجري من تحتها الأنهار بعشرين دينارا.
أليس من حقّي اليوم أن أقول بأنّ علينا التخلص من الهيكل الدّيكوري الذي بنيناه في الثمانينيات،وخدعنا بابتسامات القادة وتصوّرناها كافية للبناء الجاد، في حين أنّ ما قمنا به يذكر دائما بالعجز وقلة الحيلة.
أو لم يحن الوقت لنقيم بناءً جديدا لاتحاد المغرب العربي، يسجّل إدراكنا، بكل شجاعة، أن جيلنا عجز، مرحليا على الأقل، عن البناء السياسي وعن التشييد الاقتصادي، لكنّنا قادرون على أمرين لا ثالث لهما، الاحتياطات الأمنية والإنجازات الثّقافية، والتّركيز على هذه وتلك ليس عيبا نتفاداه أو عارا نخجل منه، وهو أمر ممكن إذا حسنت النّوايا وتوفّرت الإرادة المشتركة، ووصلنا إلى اليقين بأنّنا جميعا في مركب واحد يجتاز بحرا متلاطم الأمواج، شديد العواصف والأنواء.
لكن الوقفة أمام الذّات يجب ألاّ تكتفي بتعداد السّلبيات، وهنا أستأذن في توقّف أخير.
..يتبع
الحلقـــــــة 3