الحلقة الرابعة
ينبغي العودة من الديمقراطية المباشرة إلى ديمقراطية نصف المباشرة إذا صحّ التعبير وهي الصيغة التي تعالج بها الديمقراطيات الأوروبية النصف الباقي بواسطة الاستفتاء الشعبي (Référendum)، غير أن الالتجاء إلى هذا الحل لا يحدث إلا في حالات الاستعصاء بسبب نفور السلطة والأحزاب من حل يحتمل أن يؤدي إلى نزع الثقة منهم كما حدث للجنرال دوغول سنة 1968، ومثلما يحدث اليوم للأحزاب الاشتراكية والديمقراطية المسيحية في عدد من البلدان الغربية، وقد أظهر الاستفتاء الأخير على انفصال سكوتلندا أهمية لعبة قياسات الرأي العام لتوجيه انتخابات ديمقراطية جدا، وهي تكتسي أحيانا بالإثارة، إن مؤسسات استطلاع الرأي العام تقوم على حساب التوقعات والإيحاء بنتائج وهي في كل الحالات ليست من العلوم الصحيحة.
وتمثل الديمقراطية «الموجهة» (Gouvernée) الشكل الأولي للنظام الديمقراطي وفيه تخضع إرادة الشعب لمصفاة بحيث أن الأنظمة والقوانين هي تعبير عن إرادة الشعب، ولكن ليس.. إرادة الشعب كله، على الرغم من أنها يمكن أن تصبح تنظيما أو قانونا، وبما أن الديمقراطية «الموّجهة» هي أساسا برلمانية، فإن كل القرارات تصدر بالأغلبية سواء اعترضت الأقلية أو امتنعت عن التصويت، وقد يحدث الاجماع أي اتفاق ممثلي الشعب على قرار هام مثل إعلان الحرب أو تغيير المؤسسات الدستورية أو الانخراط في معاهدة جهوية أو دولية وعندئذ ينسب القرار للأمة كلها.
ولكن الديمقراطية، يمكن أن تكون حاكمة (Gouvernante) أيضا، وهي شكل من السلطة التمثيلية تعتمد على توجيه الحرية لتكون قابلة أو راضية (Consentante) في مقابل تعهدات من السلطة بتحقيق جملة من الاهداف مثل الوحدة الوطنية ومواجهة عدوان خارجي (بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية). وهي العقد الذي يربط النظام الرئاسي بالمنتخبين في الولايات المتحدة الامريكية.
وفيما يخص حال الديمقراطية في المنطقة المصنّفة في الدراسات الجيوسياسية الأروبية والأمريكية تحت عنوان «الشرق الأوسط وشمال إفريقيا(MENA)، فإن بعض الدراسات التوصيفية والاستشرافية التي تقوم بها مجامع التفكير الاستراتيجي المعروفة في الولايات المتحدة باسم طوسك فورس (Task Force)¡ فإن من بينها تلك التي تحمل توقيع مايكل هدسون (M. Hudson) في نهاية العقد الأخير من القرن الماضي وتقتطف من خلاصتها مايلي:
تتمثل الصفة الأساسية لهذه الحقبة من الاضطراب في فشل الدولة في اكتساب الشرعية في نظر المجتمع، والواقع أن نمو الدولة في بعدها البيروقراطي هو المسئوول عن النفور منها، إن البيروقراطية المتبرجزة (Embourgeoised) تولّد الاحباط وتزايد الإستياء، كما أن العناصر المسيّسة من الشباب التي تتزايد عدديا والتي يستمر إبعادها من دوائر الدولة تتحدى بالتدريج حق النظام في أن يحكم وحده.
يضاف إلى ذلك، وجود قسم من الرأي العام يعتبر الأنظمة الحاكمة عميلة لقوى خارجية مما يضعف أكثر شرعية تلك الأنظمة، ولكن إذا كانت المعارضة غير متماسكة وليس لها أطروحات بديلة، فإنها لا تصل بالتالي إلى توافق على عقد اجتماعي يؤدي إلى وضع مغاير.
كما تنبأ «س. هيتنغتون» (S.Huntington) (5) في دراسة نشرت في بداية العقد السابق فيما سماه الموجة الثالثة (The third wave) تتميز في رأي هذا الباحث المستشار في البنتاغون بالتعددية الحزبية إما بأحزاب كبيرة أو فسيفسائية وتحرير السوق وإبعاد الدولة عن شؤون الإقتصاد أي تمجيد الملكية الخاصة وزيادة تأثير الموجهات Orientations الخارجية لجلب الاستثمارات الخارجية وإعادة الشرعية للملكية الخاصة وطلب المزيد من الاندماج في الاقتصاد الدولي.
ينطلق التوصيف والتحليل السابق من ثقافة الحرب الباردة بين النظامين السوفياتي السابق واللبيرالي الذي انتصر ايديولوجيا على خصومه من شيوخ الكرملن بدون منازع، حيث تقترن في معظم أدبياته الديموقراطية باللبيرالية وعدم الاعتراف بالحيادية، أي « من ليس معنا فهو ضدنا « في تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق «رونالد ريغن».
وعلى الرغم من مقولة، و. تشرشل الشهيرة « الديمقراطية أسوأ الأنظمة ماعدا غيرها الأسوء منها» ، فإنها في أنظمتها المعروفة تقف أين تبدأ مصالح الدولة كما عبّر عن ذلك وزير الداخلية الفرنسي الأسبق (ش. باسكوا) (La démocratie s’arrête ou commence l’intérêt de l’état )
5 الديمقراطية ومصير الدولة الوطنية
وأيا كانت صورة الديمقراطية وعلاقتها بالحريات الفردية والجماعية فإنها ليست غاية في حدّ ذاتها، إنها كما أشرنا سابقا صورة تركيبية للحرية والعدالة تخضع لمقياس نسبي يرتبط بالزمان والمكان والتطور الاجتماعي والثقافة السياسية السائدة. إن الاشكالية المركزية في الممارسة الديمقراطية تكمن في الجواب على التساؤل التالي: هل أن الديمقراطية مجرّد تقنيات؟ أم هي قيمة مطلقة؟ فإذا قلنا إنها مجرد تقنيات وجدنا أن كل نظام هو إلى حد ما ديمقراطي كلما نجح في تغليف ضغوط السلطة بما يوفره من قوة التبليغ الإعلامي والجمعيات النشطة الموالية وإجراءات تقنية تمتص الشعور بالضغط ونقص الحرية مع استعمال جيد لتمارين الانتخاب والاستفتاء.
أما إذا قلنا إنها قيمة مطلقة، فإن كبار مفكري الغرب يتساءلون منذ أكثر من عقدين هل أن السلطات المتعاقبة والأحزاب والجمعيات واللوبيات الأخرى قد قررت سلفا مصير الفرد والجماعة وأوهمته بأنه حر في اختياره وسيد في حياته الشخصية؟ والحقيقة أن سلوكه ومعتقداته وحتى مأكله وملبسه وميلاده ووفاته واتصالاته مع أصدقائه وزملائه مسجلة ومراقبة (الوثائق التي كشفها سنودن (Snowden) عن مراقبة الملايين من الناس، وكذلك كبار المسؤولين من حلفاء الولايات المتحدة) حتى عندما يمرّون أمام واجهات المحلات (ببريطانيا) فهي كلها مبرمجة من طرف أجهزة عتيدة، لا تترك له لحظة ليساهم في بيداغوجية الديمقراطية كما يشير إليها ريموند ورفاقه (04) R.Rémond في مؤلفه عن إعادة البناء الديمقراطي، لم يقف التشاؤم عند هذا الحدّ فقد تنبأ قهينو (J.M Ghehenno) بـ «نهاية الديمقراطية» (05).
وأطروحة الكاتب على درجة كبيرة من الدقة في العرض والتدليل، ومؤداها : أن الديمقراطية كنظام للحكم ظهرت بميلاد الدولة – الأمة وهما معا في طريق الزوال، وسوف يحل محلهما الكيان فوق القومي (Supra-national) في مجتمعات ما بعد التصنيع الغربية، وحتّى في المجتمعات المستقلة حديثا، فإن خيبتها كانت مزدوجة، فهناك من جهة بداية تفكك في الكيانات الوطنية الجديدة التي تحوّلت إلى غطاء للقبيلة تمهيدا للنزول إلى الوحدات القبلية البدائية، وهناك من جهة أخرى هيمنة لا تقاوم للشركات المتعددة الجنسيات عابرة الحدود مع عجز تلك البلدان المتزايد عن تثمين موادها الأولية ففي صناعة السيارات لا تزيد قيمة المواد الأولية عن 40% من القيمة الصناعية وعن 1% في صناعة الالكترونيات، أما القيمة نفسها فقد انفصلت عن القرار الحكومي، بل عن الأرض نفسها بعد ثورة الاتصال ومحطات البث الفضائي للمعلومات وهو بث يتحكم فيه رأس المال المتعدّد الجنسيات.
«يتبــــــع»