محاورة الموروث وحوار الفنون

تجربة عـز الديـن جلاوجـي المسرحيـة.. فنّ التجـاوز

د. صابر حرابي المدرسة العليا للأساتذة - بوزريعة

ماذا يمثل التراث للأديب عز الدين جلاوجي؟! وكيف تمثلت كتاباته المسرحية هذا المرجع؟ يبدو أن هذا التساؤل قد أصبح كلاسيكيا ومتداولا. غير أن المسألة لا تبدو بهذا التسطيح، إذا عولجت من مواقع متعدّدة تقرأ الفتوحات اللامتناهية للكتابة المسرحية، وعلاقاتها المتواشجة بلحمة النسيج النصّي من جهة، وفي شبكة التبادل الانفتاحي التأويلي بين الخطاب والقارئ من جهة ثانية. وتصبح أكثر حراكا من حيث عمق التفاعل بين فجوات النص وآليات ترميم هذه البياضات.

يتجدّد الأثر الأدبي بتجدّد المنظورات النقدية وتباينها، والتي لها مسوّغاتها ومقصديتها. وبتجدّد الحياة كذلك، وتحوّلات السياق (الآخر، الواقع التاريخ)، وبهذا يخرج التساؤل – المقاربة - نحو إعادة اكتشاف العلاقة الدينامية بين النص والمرجع المراجع. كما أن الوعي بهذه العلاقة لدى المبدع والقارئ يخصب الإنتاجية الأدبية والثقافية، إذ يدفع بالحفر في وظيفة الفن ومؤداه، ويعمق التجربة الإنسانية، ويعزّز توهج الكتابة المصاحب للتحوّلات الاجتماعية والثقافية.
من هذا المنطلق تطرح الكتابة المسرحية لعز الدين جلاوجي - في حساسية كثيفة - ممارسة كتابية قوامها التجريب، من خلال مشروع يجدد الكتابة المسرحية وفق سحر المرجع وجمالياته. وبهذا تعيد هذه التجربة صياغة أسئلتها الجديدة، لفك هذه العلاقة وقراءتها بأدوات حداثية وما بعد حداثية، جاعلة من التنقيب في الذاكرة والانتكاسات الذاتية المتداخلة في شروحات السياق مادتها الأساسية.
ويمكن القول إن الأديب عز الدين جلاوجي يتبصر التراث المحلي والعربي باقتراح جديد، ويوظف الموروث العربي والشعبي في استبصار خارجي يقدم إضاءات داخلية ترسّخ دلالات التفاعل الناتجة عن مقولة التناص. أي أن المسرحية لدى جلاوجي، تتحرك في أنساقها الكتابية المعمارية في ممكنات جوانية وبرانية، تضغط بكل حمولتها وثرائها في كتابة تنساق من مشهدية المسرح وفرجته، إلى غواية السرد والحكاية، وهو التبئير الجمالي على التراث، يكتب جلاوجي.
من هنا، تتبدى أولى مظاهر التجريب المسرحي الذي يمسك بين تلابيب السرد في الكتابة، وبين صيغ المسرحية من الهيكلة والمعمار. وهي الكتابة الجديدة التي تروم - بشكل مغاير - إسقاط مقولة الأجناس الأدبية من تواشجها وتلاحمها في كتابة متماهية.

بلاغة الموروث والمسرح الجزائري
هل يمكن القول، إن المسرح الجزائري انطلق في بداياته من التراث؟!
 في كرونولوجيا الكتابة مسرحية الجزائرية، يؤكد الباحثون على أن إرهاصات المسرحية الجزائرية تلولبت في إهاب التراث سواء المسرحية المكتوبة باللغة العامية أم المكتوبة باللغة العربية الفصيحة. من هنا يأتي الرواد سلالي علي ومحي الدين باش طارزي ورشيد القسنطيني، في محاولة كتابة مسرحية باللغة العامية. وترجع المحاولة الأولى إلى عام 1926، حيث قدمت مسرحية كوميدية بعنوان “جحا “ من ثلاثة فصول وكانت من تأليف سلالي علي، وعرضت في مسرح كورسال بالعاصمة. وتعد أول مسرحية تتجه لوجدان الشعب وتخاطبه باللغة التي يفهمها، مما أتاح لها نجاحا كبيرا أدى إلى عرضها عدة مرات.
من هذا التجاوب بين الفن والمتلقي، ناوشت الكتابة المسرحية الفصيحة الذائقة الأدبية. وبعد عقد، بزغت أولى المحاولات.. من هنا تأتي ريادة محمد العيد آل خليفة بظهور أول مسرحية شعرية له، هي مسرحية “ بلال بن رباح” المكونة من فصلين. وكانت هذه المسرحية بمثابة النواة التراثية التي حاولت استلهام التاريخ العربي الإسلامي، كما نلفي التجربة التراثية في مسرحية “حنبعل” لأحمد توفيق المدني عام 1948، وهي تستقي موضوعها من التاريخ الروماني. ثم اطردت الكتابة المسرحية التي تتكئ على الموروث، في أعمال المدني وعبد الرحمن الجيلالي، ومحمد الصالح رمضان بنص “الخنساء” والرائد أحمد رضا حوحو الذي يعد من أغزر الكتاب إنتاجا، حيث كتب ما يفوق سبع عشرة مسرحية.
إن المسرحية التي كتبت في تلك الفترات، والتي تبلورت في أغلبها حول موضوعات اجتماعية تربوية هادفة، لم تخرج عن نطاق الاستلهام البسيط المباشر والتقريري، أي كتابة لا تتعدى بلاغة الموروث، من حيث التيمة، ومن حيث الشكل الكلاسيكي للمسرح العالمي والعربي.
هكذا تمظهرت أعمال جلاوجي التي لم تتوقف عند الاستلهام بل ذهبت نحو المحاورة والسجال والمساءلة التي تمس بنية الكتابة وطرائقها، وتحرك التيمات الراكدة والمتواترة في الحياة والفن من منظور حداثي أي مسرحية مسردية تمزج أشكال الموروث بتلونات الفنون السمعية والبصرية.

الفـن والمســـرح

المسرح أبو الفنون.. مقولة متواترة منذ أن وعى الإنسان أهمية الفن؛ ذلك أن المسرح تتفاعل في رهاناته الكتابية عديد الفنون وأشكال القول المختلفة، من مليودراما وحبكة ورقص وحكاية وشعر وموسيقى سواء في الكوميديا أو التراجيديا. ومن ثمة تترافد الحقول المعرفية والتلونات الفنية.
ومن بدايات الكتابة المسرحية عند الإغريق والرومان تلامحت مظاهر الفن والتراث، والذي لا شك فيه أن التراجيديا اليونانية اعتمدت في بنائها على الأسطورة المتوارثة على مر العصور كجزء أساسي في التراجيديا، غير أننا - في هذه المقاربة - سنقتصر على جانب من هذه العلاقة، تمس توجهات الفن المتشعبة في اتجاهات وفتوحات الكتابة المسرحية، الأكثر تشعبا وانفتاحا وشمولية Totalité. أي مدى تمثل الفن للفن، باعتبار أن المسرح فن خلاسي يحتوي ويمتص عديد الحقول المعرفية والمدونات الفنية، ويتقاطع ويتحاور معها. والمسرحية هي ذلك الخطاب المعرفي الذي يحكي/يسرد بجمال، وقوامه الحرية - المتأصلة أساسا في كل فن خلاق - كأفق واسع ومرتكز صميمي، فإنها المدونة الأكثر سجالا واستقراء للعلاقة بين الذات والفن من جهة، وبين الفن والحقيقة من جهة أخرى، وذلك من خلال قدرة المسرح الذي تترافد داخله آليات الفكر وسحر الفن، القادرة على اقتناص أقصى الدلالات الرؤيوية والجمالية معا. أي تغدو ممارسة ثقافية تنظم التشظيات بين الذات المبدعة والسياق الآخر والواقع والتاريخ، كما تحاول موضعتها في اتساق طافح ودقيق، وإن بدا عصيا منفلتا غير متسق، وذلك كي يشاكل اللاطمأنينة في الحقيقة والوجود.
من هنا، نقب أهم وألمع كتاب المسرح في جذوره، إبسن وشكسبير وبيكيت وبرناردشو والحكيم من حيث أصوله الفنية الموسيقى والرقص الشعبي ومنح هؤلاء الرواد للكتابة المسرحية مناخات جديدة، تتصل بضواحي الحكايات وترتبط بتهويمات الفن. ومنحوها تعاريف تشبه البحث عن النص الغائب، المندس بين الأنا والمجموع من جهة، وبين المسرحية والجمالية من جهة ثانية.. إنها الفن المتكامل، وهو ما جعل التشابك بين الفن والمسرح يصبح أكثر عمقا وتواشجا، من حيث أن كلاهما يؤرخ ويحاول القبض على الشعرية الوجودية، بما يكتنفها من غموض واعتياص؛ لذلك لم يستطع الفن عبر أداة واحدة الإلمام بالجمالية الوجودية، ولذلك يرفد الفن المسرحية، تقصيا للشعور الجمالي الحقيقي.
وإذا كانت الفنون تتمظهر في أشكال حسية وملموسة، فإن المسرحية تسلك منحى التخييل والفرجة والحركية التي تسبر أغوار العقل والذات، فالفن هو الشكل الحسي للمخيال المسرحي في مساراته المعقدة من خلال تقنيات جوانية وبرانية، يترصع بها الكتابة المسرحية.
من هذا المنطلق، نحاول تبيان تلمسات الكتابة المسرحية لعز الدين جلاوجي للكتابة المسرحية، في نثارها ومعمارها. ولا شك أن الأديب المتعدد الشواغل عز الدین جلاوجي، يقدم تجربة ريادية تنتمي إلى كتابات الحداثة وما بعدها. إذ تطرح هذه التجربة كتابة تنهض على التعدد والمغايرة، والتتابع كذلك مستهلة توجهات جديدة في التطريس المسرحي. من هنا يسعى الكاتب إلى تجاوز الخطية المنوالية نحو شكل مغاير للمعيار المكرس سابقا. أي تندرج ضمن تجديد الكتابة المسرحية الجزائري.

التجريب والتراث في مسرح جلاوجي

 يتبدى التجريب في خلخلة البنى الكتابية، فقد يكون هو كتابة النص المتلائم بين الذات المبدعة ورؤاها وحركيات السياق الواقع التاريخ، أي تمثل نص يشكل اتساقا عضويا وانفصالا تصادميا في آن واحد، خارجا عن المألوف، لكنه في جوهره يتماشى مع النسق الثقافي الذي انبجس منه. وبالتالي يغدو تحديث الشكل رهانا أساسيا لكل تجريب واع وخلاق، حتى في تمثله للأساليب التراثية؛ لأن الشكل والأسلوب سيفرضان بؤرا ودلالات جديدة بالضرورة، فالوعي بالشكل أساس كل تجريب، كما أن الوعي بالآخر يعضد الحمولة الكتابية الحداثية من خلال الاتصال معرفة والانقطاع إدراكا، إذ يصبح التجريب استراتيجية للكتابة المسرحية وهي استراتيجية تتجلى ملامحها في اختراق الماضي والحاضر بتقنيات متعددة، ووفق مستويات أهمها معرفة الذات جيدا، والحفر في تجاعيد الذاكرة، ومراودة المطلق الذي لا يكتسب أبدا والذي يضمن قلق الإبداع.
لقد اتصل المسرح العربي بالتجريب، وناوش الكتابة الحداثية، والمسرح واحد من الميادين التي اخترقتها مظاهر الحداثة والعولمة وتفاعلت فيه الوسائط الفنية الجديدة. (إذ المسرح كان دائما ميدانا للتجديد، فلا يكاد مذهب أدبي أو فني فيه يستقر حينا من الزمن، حتى يعصف به التغيير الذي كان تجديدا، فيقلب الكثير مما أرسى ذلك المذهب من القواعد ألم تعصف مرحلة شكسبير بكل ما ورثه المسرح من قواعد اليونان وفن الشعر الأرسطي).. هكذا يكتب أحد رواد المسرح العربي.
وفي مسرح جلاوجي تتمفصل مظاهر التجريب، والاتكاء على المرجعيات التراثية، فكيف تسافر المقابسات المضيئة المرجعيات التراثية إلى المسرحية دون أن تفقد الكتابة الإبداعية فرادتها؟
من هذا المنطلق، نبحث في التجربة المسرحية لعز الدين جلاوجي، وأهميتها في خارطة المسرحية الجزائرية والعربية، من منظور محدد، هو تمثل المسرحية للموروث. إذ تطرح هذه الكتابة المسرحية ممارسة قوامها التجريب والحوار، من خلال مشروع يحاول تجديد المسرحية الجزائرية وفق سحر المرجع وجمالياته. وبهذا تعيد هذه التجربة صياغة أسئلتها الجديدة، لفك هذه العلاقة بين المسرحية والتراث بصوغ حداثي وما بعد حداثي، يجعل من التنقيب في الذاكرة التراث والانتكاسات الذاتية المتداخلة في شروخات السياق، مادتها الأساسية.
يمكن القول، إن عز الدين جلاوجي يتبصر التراث المحلي والعربي باقتراح مغاير في الترهين وفق مقابسات ثابتة ومتحولة، ويوظف الموروث العربي والشعبي في استبصار خارجي يقدم إضاءات داخلية ترسخ دلالات التفاعل الناتجة عن مقولة الحوار. وهو ما يحيل إلى التماهي الحواري الذي يفضي إلى انحلال الشكل المسرحي، في جدلية الذات المبدعة والمرجع، مما يجعل الممارسات النصية توهج المرجع والمسرحية المسرجية في آن.
بهذا الطرح، يتضح أن التراث يحمل دلالة التوهج، وليس بعد القداسة والثبات، من حيث التحاور والامتداد من الحاضر إلى الماضي، أي ضمن سيرورة الخطاب الروائي والنسق أي يصبح (إستراتيجية تقوم بوصل القارئ بالمقروء، بغية إعادة ربط الذات القارئة بكل ما تحمله من نصوص تاريخية ومعرفية وحضارية بالمنهج المقرؤ من جديد)، وبالتالي، تغدو العلاقة بين المسرحية العربية عامة، وكتابات جلاوجي - خاصة مع التراث - أكثر من ضرورية، حيث يمثل التراث الحقل الطبيعي لتكون الأديب العربي، إذا اعتبرنا أن التراث هو ما يمكن قراءته من مدونات العرب قبل الإسلام وبعده، وهذه المدونات، هي ما يندرج في مكونات الثقافة والفكر والفن مثل التصوف والفلسفة والمرويات والزخرفة والموسيقى.
تفعيل هذه المراجع يكون بتحويلها إلى ورش إبداعية بحكم أن البعد الجمالي والدلالي في كل تراث هو أهم ما يميزه. وبهذه الرؤية تتحرك الكتابة المسرحية لدى جلاوجي في استبصار تجليات التراث وتحولاته، وهي إستراتيجية قائمة على إدراك وغائية. وبالتالي تصبح المسرحية (ثقافة بقدر ما هي ممارسة إبداعية)، وهو ما يجعلها في توالد وتخصيب، يحقق حضورها واستمراريتها.
ومن خلال هذه الاستراتيجية الكتابية التي تطال المسرحية والقصة والرواية، استطاع عز الدين جلاوجي أن يموضع صوته ضمن الكتابة الأدبية الجزائرية الواعدة، وهي تجربة تنطلق من الواقع، ولكنها تتجاوزه لتحلق في سماء الفن والخيال، لأن الإبداع الحقيقي هو التجاوز

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024