بـين التعقّــل والتخـلّق.. كيف الطريق إلى الارتياض بمكارم الأخلاق عند ابن عربي؟ (3)

د. عبد الرزاق بلعقروز جامعة سطيف

المقدّمة المنهجية التي وضعها ابن عربي في كيفية تعاطيه مع النقل الفلسفي اليوناني، تجد أسمى تجلّ لها في تناوله للأخلاق وكيفية الارتياض بمن قعد، ولم يتحقق بالفضائل الأخلاقية التي تجعل من نفسه الناطقة حاكمًا على نفسه الشهوانية ونفسه الغضبية في استبصاره الصورة الإنسان الأصلية المنسية.

 إنّ آلية التعاطي مع الموروث الفلسفي اليوناني هنا كانت آلية تقريبية تشغيلية، بما يحقّق القصد ضمن النسيج الضام للمشروع الأخلاقي، وهنا تظهر القدرة التقريبية والموهبة التركيبية التي رسم بها ابن عربي معالم الفقه الروحي الأكبري، بخاصة الأنساق الأخلاقية الروحية منها؛ حيث نجد في متنه مذاهب تنتمي إلى الرواقية وفيلو والأفلاطونية الجديدة ومدارس قديمة أخرى، وقد عكف على تأويلها ميتافيزيقيا، وأدمجها في بانوراما حكمة ابن عربي الإلهية. وقد كان عقله بلورة تعكس المذاهب العرفانية والعلوم الكونية وعلم النفس والطبيعة في إهاب ميتافيزيقي شفيف يكشف عن المفصل الذي يدور حوله كل صور حكمة الأولياء والحكماء مثل الجذر الذي يغذي كل شيء، وكل مقامات الحقيقة المغمورة في الربوبية. ولن يتحقق بهذه الخصيصة المنهجية الثاقبة، إلا من كان يمتلك رؤية منهجية أو منظورًا معرفيًا جليًا لديه، فيأخذ من البنيات الأخلاقية ما يخدم القصدية الأنطولوجية والأخلاقية الكامنة في مشروعه، وهذا على التحقيق ما كان ابن عربي يطبقه مع الأنساق الفلسفية، والتشريعات الأخلاقية التي أقام بينها وبينه حوارًا جدليًا مثمرًا، وهو بهذا الإجراء المنهجي يسكن في أرض العقلانية المعاصرة التي من سماتها المنهجية المفاهيم الرحالة (les concepts nomades) التي تسافر من نسق علمي لكي تقيم في نسق علمي آخر، أو يجري الأخذ بقيمة خلقية من سياق تاريخي ومعرفي إلى سياق تاريخي ومعرفي يفرضان تحديات ثقافية جديدة.
وتسري هذه المنهجية عينها مع ابن عربي في اعتبار السياسة مفهومة بمعنى التدبير العقلاني الحصيف؛ هي القناة التي بامتلاكها يستطيع الإنسان إدارة حياته، بما يتوافق وقانون الاعتدال الذهبي بين قواه العقلية والغضبية والشهوانية، بأن تكون البواعث النفسية (الغضبية والشهوانية) مسخرة في يد القوة العاقلة التمييزية، ولو أن ابن عربي كاشف حدود الفكر التمييزي الذي تميزت به الثقافة اليونانية، ونَظَرَ دوما إلى الفكر بمعيار العقل أو النور الأضوى الذي يُشرق من مكابدة الأعمال وتجرع آلام المجاهدة الخلقية كي تصفو النفس وتتطهر من رذائلها وتستكمل سفرها من موطن إلى آخر، فإنه كان دوما ينطلق من رؤيته التي عمادها أن الفكر يقوم على مبدأ الحركة والتقلب والتحول، لا على الثبات والاستقرار، كما هو الحال لدى تيار كبير من الفلاسفة، فالفكر الذي ينتصر للحركة والتقلب في كل شيء في الموجودات والصفات والأحوال والصور والمقامات والجواهر والماهيات، هو أحرى بأن يكون فكرًا منفتحا على مغامرات الحرية بأكثر أشكالها جذرية وغرابة.
هذا ما يجعل منظور ابن عربي للعقل يفارق المنظور الجوهراني الثابت الذي تميزت به الثقافة اليونانية والمُنْحَصِر في مفارقة الحيوان والاختصاص بالمعرفة، فالعقل فاعلية متواصلة ومنفتحة ومتقلبة، ومُتَصَالِبَة مع العمل والأحوال الوجدانية، ومن ثمة، فحركة العقل وقوته وتواصله جميعها مشروط بالعمل الروحي الوجداني الذي  يُجدد جمود العقل، ويحرّر الفكر من إنتاجاته المعرفية التي متى رجعت إلى قوة العقل كانت كـ «الحمم البركانية» في حالة غليانها، أما إذا توقفت عند معارفها وركنت إلى الفكر وحده، بردت وتصلبت.
وهنا، لا بد من القول إنّ ميزة ابن عربي هنا تتجلى في تلك الذائقة المنهجية الطريفة التي اقتدرت على إعادة صهر تلك المكونات المتعددة في تركيبة إبداعية خلاقة، اختصاص الإنسان بالتمييز العقلي، والرمزيات الروحية اليونانية، والثقافة القرآنية، والرياضة الروحية؛ لأن منطق الفكر الأكبري يمنعنا من استبعاد أي حد من حدود هذه الأسئلة أو المكونات، ولا أي جانب من هذه الاحتمالات المفترضة، لأن النفي الصارم الذي يؤول إلى العدمية، والإيجاب الجازم الذي ينتهي إلى الوثوقية، ليسا من شيم الفكر الأكبري القائم على القلب والتقلب. فقد كان يقول إن التجلي المتكرر في الصورة الواحدة لا يُعول عليه، وإن الإقامة على حال واحدة، نفسين فصاعدا، لا يعول عليه عند أكابر الرجال، فابن عربي لا يمكن أن ينتمي لأصحاب نعم أي النظر والبرهان، ولا لأصحاب لا (أي مفارقة النظر نحو الكشف والفيض الإلهي)؛ لأنّه يفضّل أن يوجد في برزخ بينهما، متمتعا بمقام الحيرة التي كلما زادت حدتها ازداد كمال الإنسان.

الوسائل العقلية والسّلوكية لتحرير الرّوح

 في البدء، يقيم ابن عربي ثنائية تقابلية بين وصفين للإنسان هما: الاسترسال مع الطبع واستعمال الفكر والتمييز، ذلك أن الإنسان إذا استرسل مع طبعه، ولم يستعمل الفكر، ولا التمييز، ولا الحياء، ولا التحفظ، كان الغالب عليه أخلاق البهائم، لأن الإنسان إنما يتميز عن البهائم بالفكر والتمييز. فإذا لم يستعملها كان مشاركًا للبهائم في عاداتها، والشهوات مستولية عليه، والحياء غائب عنه، والغضب يستنفره، والسكينة غير حاضرة له، والحرص والأحقاد ديدنه، والشر لا يفارقه، فالناس مطبوعون على الأخلاق الردية، منقادون للشهوات الدنية.
جلي هنا الأخذ بالذاتية المقومة للإنسان من حيث هو کائن عاقل، وهذا العقل ليس هو على طريقة الرسم اليوناني جوهرًا قائما بالإنسان، تنحصر فاعليته في التفكير والمعرفة، فهو إنما يتحدد بالفاعلية التي يُعد التمييز أقوى صفة يتجوهر بها، والتمييز يجر معه الحياء والتحفظ والتيقظ، وتكون الثمرة الإعراض عن الأخلاق القبيحة، والارتفاع من طبائع البهيمة إلى رونق الحكمة.
وبهذا كان سير حكماء الإسلام والأخلاقيين منهم، على وجه التخصيص، تحرير العقل من الوظيفة الفكرية، والأخذ به إلى مقام التوجيه ليس فقط للنفس الحسية المنفعية في الإنسان، بل للصفة الاختيارية أو الإرادية التي لها تعلق بالأخلاق في الإنسان،
وفي هذا يقول أبو الحسن العامري: ولهذا، فإن اقتباس الحكمة وإن كان مجديًا في استصلاح النفس الحسية، فإن جدواه فيه يكون عرضًا، لأن القصد الأول من مقتبسها يكون متجها إلى استصلاح القوة الاختيارية، لتصير أفعاله مؤداة بحسب الفضيلة، ومعارفه معتقدة بحسب الحقيقة (...) إلا أنه يتعاطى مع ذلك تأديب الشهوة والغضب ليذعنا للعقل في الهوى والمنية، وهنا لا بد من لفت النظر إلى أهمية القوة الناطقة في الإنسان من أنها الحاكم على سائر القوى، وهو مذهب ابن عربي نفسه في تعديد فضائل النفس الناطقة، التي تتقوى بها العلوم والآداب، والتي بها أيضًا يتلمح الإنسان عواقب الأمور، فيستحسن ما هو حسن ويستقبح ما هو قبيح، والأكثر من هذا قيمة أنها الميزان في المفاضلة بين الناس؛ إذ الفضائل واكتسابها والتحلي بها، هي الميزان الحقيقي، وليست الفضيلة في القنية (كثرة اقتناء الأشياء) والتزيد في الملذات والمشتهيات، وبهذا، فإن الشرف الإنساني الحقيقي مرتبط بالنفس الناطقة وليس الشرف في الإقبال على الغضبي والشهواني. ومن عمل بما توجبه فضائل النفس الناطقة، كان فاضلاً مذللا للقوتين الباقيتين، أي الغضبية والشهوانية، وإن هو مال إلى ما توجبه هاتان القوتان، كان شريرًا خبيثا جاهلا ؛ فمن أجل ذلك، وجب أن يُعمل الإنسان فكره، ويميز أخلاقه، ويختار منها ما كان جيدا مستحسنا جميلا، وينفي منها ما كان مستنكرًا قبيحًا، ويحمل نفسه على التشبه بالأخيار ويتجنب كل التجنب عادات الأشرار، فإنه إذا فعل ذلك صار بالإنسانية متحققا، وللرياسة الذاتية مستحقا.
وفضلا عن حاجة الإنسان إلى إعمال القوة الناطقة، فإن هذه القوة، وإن اعتبرها وسيلة قويمة من وسائل السياسة للنفس، فإنها في مستوى نظامها المعرفي؛ لا تستغني بنفسها بمعزل عن نور الإيمان وابن عربي هنا يضع حدودًا للعقل وينبه الطالب دومًا إلى تزويده عن طريق الخبر والمشاهدة والمكاشفة، وفي المثوى الأخير، يؤثر ابن عربي طريق الكشف والمشاهدة على طريق أهل النظر، فمن طلب الله بعقله عن طريق فكره ونظره فهو تائه، وإنما حسبه التهيؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك.
وإذ تعيّنت هذه القيمة الجوهرية للنطق الذي بان به الإنسان عن البهائم، فإنّ ابن عربي، كي يبقى النور مشرقا في الإنسان، دعا إلى أهمية الرياضة أو الارتياض بمكارم الأخلاق، حتى يكون خليقا وجديرًا بالمنزلة الشريفة التي أنزله الله إياها، لأن هذا الطريق نحو تحرير الروح؛ هو من الضروريات وليس من الكماليات..من الفرائض الوجودية وليس من النوافل العينية: إن المرآة إذا صقلت وجلي عنها الصدأ وتجلت صورة الناظر فيها، أليس يرى نفسه حسنًا أو قبيحًا!! وحقيق بالإنسان لهذا أن يعمد
إلى مرآة قلبه فيجلوها من صدأ الأغيار، ويميط عنها كل حجاب يحجبها عن تجلي صور المعقولات والمغيبات، بأنواع الرياضات والمجاهدات. فإذا تصفت وانجلت تجلى فيها كل ما
قابلها من المغيبات فنطق عما شاهد ووصف ما رأى، إذن، فالتهذيب والمجاهدة والرياضة هي الوسائل الناجعة لتحرير الروح من ميل الطبع إلى ما لا يوجبه العقل الذي هو محل إشراق الروح. ومقتضى هذا الإقرار بأولوية الفعل الخلقي العملي، لتحصيل الأدب وعمارة الظاهر والباطن، أن الروح تحتوي الكنوز أو حقائق الأشياء، أو صور العالم منتقشة فيها بلغة ابن عربي، وما على السالك إلا بذل الجهد لأجل تحرير الروح، لأن مبرر وجوده الأكبر إنما هو السفر من الظاهر إلى الباطن من محيط دائرة الوجود إلى مركزها الذي لا يرتقي إليه الإدراك، ورجوع الخليقة بذلك إلى الأصل الذي تحدرت منه.
يتّضح ممّا سبق، أن في ذات الإنسان كيانا مركوزا، نوراني الأصل، احتجب بفعل الهوى والشهوة، ولكي يعيد الإنسان تفعيل هذا الكيان المركوز، فإن التعلم بتقوية العلوم العقلية عن طريق الاستناد إلى علوم الأخلاق والسياسات هي المسلك الآمن نحو هذا المبتغى، يقول أبو حامد الغزالي إظهارا لهذه الحقيقة: وليس التعلم إلا رجوع النفس إلى جوهرها وإخراج ما في ضميرها إلى الفعل، طلبا لتكميل ذاتها، ونيل سعادتها (...) فاشتغال النفس بالتعلم هو إزالة المرض العارض عن جوهر النفس لتعود إلى ما علمت في أول الفطرة وعرفت في بدء الطهارة، ولازم هذا أن رسالة التخلق في صميمها إن هي إلا وضع المعالم التي يهتدي بها السالك في ظلمة نوازع النفس وبواعثها الموجودة في الطبع المائل نحو التسفل، وهنا يقرر ابن عربي مفهومه المخصوص للرياضة التي - بحسب رأيه - ليست المعاندة الجذرية للطباع، كما ظهر ذلك مع رهبان النصارى الذين يكافحون ضد الجسد بحجة الانتصار للروح وإماتة الأهواء والشهوات جذريًا، هذا الأمر لدى ابن عربي غير ممكن رأسًا، وبيان ذلك أن مفهوم الرياضة في المعجم الأخلاقي عنده هو تهذيب الأخلاق، فإن الخروج عن طبع النفس لا يصح، ولما كان لا يصح، بين الله لذلك الطبع مصارف فإذا وقفت النفوس عندها حمدت وشكرت ولم تخرج بذلك عن طبعها، فرياضتها اقتصارها على المصارف التي عينها لها خالقها وزيادة على هذا فإن الرياضة تذليل النفس وإلحاقها بالعبودية، ولذلك سميت الأرض أرضًا ذلولا، فالرياضة عندنا من صير نفسه أرضًا، مثل الأرض.
والقارئ لطبيعة الإنسان يعي صوابية ابن عربي فيما ذهب إليه، لأن محاولة إلغاء الدوافع الطبيعية، بلغة معاصرة، في الإنسان مثل الدافع الجنسي والدافع الغذائي والدافع التملكي مثلا؛ لا تُنتج إلا الإنسان النافي، الذي لا يعرف حركة العمارة في الوجود، والأنكى أنها تُنتج وساوس داخلية قاهرة، قد تظهر لاحقا في الإباحية، أو الثقافة الاستهلاكية، أو المطابقة بين التملك ووهم السعادة. وفي المقابل من تكون حركته سيرًا مع حاجات الدوافع المذكورة (الجنسي والغذائي والتملكي) لا يحل المشكلة أيضًا، إذ يبقى النور الروحي المركوز في الإنسان يؤرق من كان مائلا. مع دوافعه ومنغصا عليه ركونه إليها، وقد ينتج أيضًا أشكالاً من التدين الروحي الشاذ الذي لا يرى في العالم إلاّ شرا وبؤسا وألما.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024