يتخذ لفظ الارتياض مدلولا عقليا وآخر أخلاقيا، فالأول هو تحصيل الدربة على التحرر من التخيلات والأوهام، والرجوع في الأحكام إلى القوة العقلية المسنودة بالوحي الإلهي وحدها؛ كي لا يقاد الإنسان بالأوهام والتخيلات والثاني هو الرياضة الروحية وتكرار الأفعال المحمودة وتكلف اقترافها كي تصبح هذه الأفعال راسخة وثابتة تصدر عن النفس بسهولة ويسر، فالارتياض تبعا للشق الثاني من المدلول، يدخل في باب الوسائل التي تكتسب بها الأخلاق، وبيان ذلك «أن التدريب العملي والممارسة التطبيقية ولو مع التكلف في أول الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى، من الأمور التي تكسب النفس الإنسانية العادة السلوكية، طال الزمن أو قصر..
وحين تتمكن في النفس– بواسطة الممارسة التطبيقية - تكون بمنزلة الخلق الفطري، وحين تصل العادة إلى المرحلة تكون خلقًا مكتسبا، ولو لم تكن في الأصل الفطري أمرًا موجودًا.. وثمة استعمال لفظي آخر متقارب في المبنى وفي المعنى على حد سواء، هو لفظ الرياضة، وفي هذا جاء شرح الرياضة عند ابن عربي بالقول إنها: تهذيب الأخلاق وترك الرعونة وتحمل الأذى ومعنى (تهذيب الأخلاق) تنقيتها وتطهيرها مما لا يليق بها، وترك الرعونة وهي المحق والاسترخاء والعجلة (وتحمل الأذى) الذي يصدر عن الخلق والعفو عنه والاستغفار لهم.
وقد جاء في حدها أيضًا، تمرين النفس لإثبات حسن الأخلاق، ودفع سيئها، وبهذا اختصاص عمل التصوف، أو على حد تعبير الغزالي: “وأما الرياضة فهي تمرين النفس على الخير ونقلها من الخفيف إلى الثقيل باللطف والتدريج إلى أن ترتقي إلى حالة يصير ما كان عنده من الأحوال والأعمال شاقا سهلًا”. واللافت للنظر هنا، اختصاص الرياضة بالجانب الأخلاقي أكثر من الجانب العقلي، وهذا يبدو قولا مقصودا، يجد أصله في أن العمل بالأخلاق يوسع المدارك العقلية وينمي التفكر الإنساني بما لا ينميه العقل المجرد، وانطلاقا من هذا المعنى للرياضة، الذي تصفو فيه النفس كي تكون مؤهلة لتلقي المعاني وانتقاش صور العلوم فيها، يساند هذا الفعل، أي الارتياض والرياضة، فعل آخر هو “المجاهدة” الذي يحمل في معناه بذل الجهد في المستوى العقلي، أي الاجتهاد، وبذله في المستوى الإرادي، أي الجهاد، وفي هذا يقول محمد بن عجيبة شارحًا مفهوم المجاهدة من حيث إنها فطم النفس عن المألوفات وحملها على مخالفة هواها في عموم الأوقات، وخرق عوائدها في جميع المجالات (...) وهي ثلاث: مجاهدة الظواهر بدوام الطاعات وكف المنهيات، ومجاهدة البواطن بنفي الخواطر الرديئة ودوام الحضور في حضرة القدسية، ومجاهدة السرائر باستدامة الشهود وعدم الالتفات إلى غير المعبود.
وإذ تقرر هذا، فنحن جديرين بأن نصرف القول إلى أن الارتياض، أو المجاهدة، أو الرياضة، يتنزل كل منها ضمن نسق العمل التزكوي الذي ينبني على اعتبار أن للقوة الروحية الأثر الأعمق في نفس الإنسان، فهي التي تكشف غطاء النفس وتأخذ بيد الإنسان من الجذب الطيني إلى الجذب الروحي، وفي هذه الحال، تكون القيمة الحقيقية للإنسان، لأنه صير الروح خليفة على النفس وسائسة لها، والنفس باتت حركتها أو سكونها استجابة لما توجبه الروح من ترق في قيم الإيمان التي ترتفع بدورها بالوجدان والسلوك إلى الهيئة الأخلاقية المحمودة.
مكارم الأخلاق
تتباين معاني العبارة المركبة مكارم الأخلاق من حيث ما تحتويه من قيم خلقية محمودة، وقلما نجد من يقف على حقيقتها ومعناها على طريقة الحد المنطقي أو الرسم التعريفي، ونجد في المقابل من يعدد فوائدها ويكثر من الإشادة بها، من أنها ضرورية وأساس العلاقات الاجتماعية بين الإنسانية التي لا يمكن حصرها في تبادل المنافع الاقتصادية من غير مكارم الأخلاق والقول الأكثر معقولية أن استخدام مكارم الأخلاق يراد به الأخلاق المحمودة التي يؤسس لها الشرع ويقتبسها العقل، ومن ثمة جرى وضع هذا المصطلح لكي يكون معبرا عن الفضائل الأخلاقية المحمودة، بما أن لفظ الخلق يدخل في معناه كل من الصفات السيئة والصفات الحسنة التي تصدر عن الحال أو الهيئة التي عليها الصورة المعنوية للإنسان.
والقارئ لما جاء في المدونات الأخلاقية، يلمح هذا الإظهار لمكارم الأخلاق من حيث تعديد الأفعال وليس من حيث استقراء الماهيات، مع إجراء المفتتح في الغالب بالإشارة إلى الحديث النبوي الشريف إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ( وفي رواية صالح الأخلاق)، ثم الانتقال إلى جمع هذه المكارم في أفعال حميدة يكون الغرض من الإشارة إليها دفع النفس إلى التحلي بها واكتسابها كي تصبح عادة وسجية، ومثال ذلك ما جاء في كتاب الطبراني مكارم الأخلاق الذي جعل المكارم في أبواب وقال: “هذه أبواب في مكارم الأخلاق التي ينال بها المؤمن الشرف في حياته، ويرجو فيها النجاة بعد موته”، ومن هذه المكارم الواردة في صيغة أبواب فضل تلاوة القرآن وكثرة ذكر الله والصمت إلا من خير، وحب المساكين ومجالستهم، وحسن الخلق، وفضل لين الجانب وسهول الأخلاق وقرب المأخذ والتواضع، وفضل الانبساط إلى الناس ولقائهم بطلاقة الوجه، وفضل الرفق والحلم والأناة، وفضل الصبر والسماحة، وفضل من يملك نفسه عند الغضب.
ويسلك أبو حامد الغزالي مسلك تعديد المكارم أيضًا لما يكون حديثه في بيان مكارم الأخلاق: “مكارم الأخلاق من أعمال أهل الجنة، قول لطيف يتبعه فعل شريف، مكافأة المحسن بأكثر من إحسانه، صاحب مكارم الأخلاق هو الذي لا يحوجك أن تسأله، ولا يزال يعتذر ضد اللئيم الذي لا يزال يفتخر، والتغافل عن زلل الإخوان والمسارعة في قضاء حوائجهم، وطرح الدنيا لمن يحتاج إليها”.
وبيّنٌ من هذا القول أن المكارم هي الصفات الحسنة التي تصدر من النفس الإنسانية، وبيّنٌ أيضًا أن المكارم ليست معاني جامعة مانعة، أو أبوابًا يمكن حصرها في قيم أخلاقية مرسومة، بل هي لامتناهية من حيث تجليها، وهنا لا بد من الوعي بأن نظام الأخلاق في الإسلام قد أعرض عن نظرية الفضائل الأخلاقية اليونانية المحصورة في أربع، وهي: العفة والشجاعة والروية والعدل، ورسم نظام الأخلاق رسما مفتوحًا ممدودًا، والمسوغات التي شرعت لهذا الاعتبار هي على التوالي:
الأولى: أن الأخلاق هي بعدد أفعال الإنسان، فلما كانت هذه الأفعال أكثر من أن تحصى، كانت الأخلاق مثلها لا تُحصى.
الثانية: أن الفعل الخلقي الواحد ليس رتبة واحدة، بل هو رتب متعددة، قد لا تقف عند حد مثلا، الصبر، وصبر الصبر، القوة وقوة القوة وغيرها، بمعنى أن يتولد من الفعل الخلقي فعل آخر يختلف عنه في المرتبة.
الثالثة: أن الأخلاق هي طريق إدراك معنى اللامتناهي، وليس التعداد كما ساد بذلك الاعتقاد؛ ذلك أنه لما كانت أفعال الإنسان لا تتناهى، ورتبها هي الأخرى لا تتناهى، صار الشعور بهذا المعنى في عموم هذه الأفعال أقرب إلى الإنسان منه في أفعال مخصوصة كأفعال الحساب.
وهذا الاختصاص بانفتاحية الأخلاق عكس حصرها في الفضائل الأربع، كما هي في الأخلاق اليونانية، كان قد لاحظه ابن عربي في تناوله لسؤال الكم في عدد الأخلاق في الفتوحات المكية، لما كان السؤال كم خزائن الأخلاق؟ الجواب على عدد أصناف الموجودات وأعيان أشخاصها، فهي غير متناهية من حيث ما هي أشخاص، ومتناهية من حيث ما هي خزائن، وسميت خزائن لكون الأخلاق مخزونة فيها اختزانًا وجوديًا، وإنما جعلت خزائن لما تتضمنه في حكم من اتصف بها من الصفات التي لا نهاية لوجودها.
وجلي هنا التمييز بين المرتبة الوجودية للأخلاق، والمرتبة العيانية للأخلاق، ثم إن ابن عربي يأخذ في تقسيمه لهذه الخزائن إلى خزائن لها تعلق بالذات أو الأخلاق في صورتها الأصلية الكاملة أو الذوات من حيث هي ذوات، والثانية خزائن تترابط مع النسب الموجبة للأسماء من حيث هي نسب، والثالثة خزائن لها تعلق بالأفعال من حيث ما هي أفعال، والقول الكاشف لهذا هو أن للأخلاق وجودًا موضوعيًا مستقلا، وترابطًا في صورة الصفات وما توجبه على الأعيان والفعل بين تحليه بالأخلاق وبين بعده عنها. وهذه المراتب تتكاثر وتتوالد بصورة لامتناهية في حياة الإنسان، وهذا هو السر في اعتبارها لامتناهية، وتعالقها مع الموجودات كلها، فالقول بالطابع اللامتناهي للأخلاق، والطابع الاتساعي لها، يحررها من النظرة الفلسفية اليونانية التي تتركز فيها الفضائل على الإنسان، أو أن فضائلها تجعل الإنسان هو مركز الدائرة ومحور المحيط، وهذا مخالف لروح الثقافة الإسلامية، التي تجعل الإله هو مقياس الأشياء جميعًا وليس الإنسان، ومن ثمة وجب صرف القول إلى أن روح الخلافة كما تستبين هي الاقتداء والتشبه بأفعال الإله على قدر وسع الإنسان، وبما يكون مخصوصا بطبيعته الإنسانية النسبية في مقابل الوجود الإلهي المطلق في الذات وفي الصفات.
يتضح مما سبق، أن المكارم لا تطلق إلا على الأفعال الأخلاقية المحمودة، التي تترقى بها نفس الإنسان من حضيض الإخلاد إلى الأرض إلى يفاع التزكية والإنماء لدوافع الخير، أو من الميل إلى دواعي الطبع وقوى النفس الشهوانية والغضبية إلى موجبات نور العقل وإشراق شمس الروح، لكي تتحقق بذلك الصورة الحقيقية للإنسان، وهي صورة الإنسان المتيقظ المتحكم في قواه الغضبية والشهوانية والمستحق للرئاسة وللحكمة.
في استثمار الموروث الأخلاقي اليوناني
ثمة ما يجب الإقرار به، ونحن في طريق تقوية النفس الناطقة بالعلوم العقلية ومنهج التدرج نحو اكتساب محمود الصفات، وهو تقريب النظام الأخلاقي اليوناني إلى مجال التداول الإسلامي متوسلين بآليات تحرير الموروث اليوناني من الصفات المثالية، وإلباسه الصفات العملية، ومثال ذلك أن تلك الثنائية اليونانية السائدة “النظر” و«العمل”، أو العقل النظري والعقل العملي، قد صيرها العقل الإسلامي ثنائية جديدة هي : “أعمال القلوب” و«أعمال الجوارح”، فالقلوب محل للإيمان، والجوارح للأعمال؛ ذلك أن جميع التكاليف الشرعية التي تعبد بها الإنسان في خاصة نفسه ترجع إلى نوعين: أحكام تتعلق بالأعمال الظاهرة، وهي أحكام العبادات والعادات والمتناولات، وأحكام تتعلق بالأعمال الباطنة، وهي الإيمان وما يتصرف في القلب، ويتلون به من الصفات، إما المحمودة كالعفة والعدل والشجاعة والكرم والحياء والصبر، وإما المذمومة كالعجب والكبر والرياء والحسد والحقد. وهذا النوع أهم من الأول عند الشارع، وإن كان الكل مهمّا، لأن الباطن سلطان الظاهر المستولي عليه، وأعمال الباطن مبدأ في الأعمال الظاهرة، وأعمال الظاهر آثار عنها، فإن كان الأصل صالحا كانت الآثار صالحة، وإن كان فاسدًا كانت فاسدة. ومقتضى هذا أن التوحيد أصل، والعمل فرع، فإذا اتفق في الفرع شيء يفسده ويهلكه، جبره الأصل كالعصاة، وإذا خرب الأصل لم يصلحه بجبره الفرع كالمنافق. فهنا تلازمية بين الإيمان التوحيد؛ أفعال القلوب والعمل السلوك؛ أفعال الجوارح، فالكل هنا بات فعلا تتقوم به الذاتية الإنسانية، وتتكامل فيما بينها الفعاليات الإدراكية، مؤدية إلى الإنسان النموذجي المؤمن العامل.
وهذا القانون الكلي انعكس على مسالك الأخلاقيين في المعرفة الإسلامية، التي وصلت الآصرة الشديدة بين الاعتقادات والعبادات والمعاملات والمزاجر، وبين أبعادها الأخلاقية التي تورثها في السلوك، ثم رسمت مراتب الارتقاء بهذا السلوك من أحواله الاعتيادية إلى مقاماته الارتقائية التي تصله في الأخير بالسجود الاقترابي من الله سبحانه وتعالى، وبيان ذلك أن صفة القراءة التي اختص بها الإنسان، إن لم توصل هي إلى الربط والاتصال، فهي قراءة قد انحصرت في العالم الحسي، من غير أن تترقى؛ لكي تستنبط المعاني الروحية الملازمة لهذا الوجود الحسي، لهذا كان الإنسان دوما مخلوقا قارنا، يتجدد بالقراءة، ويتسع علمه بالقراءة، ويستقيم سلوكه بالقراءة ويصل إلى الله بالقراءة، وإذا تعطلت هذه الوظيفة الجوهرية، أي وظيفة القراءة، فإن المآل هو انحسار الإدراك والمعرفة، وتضييق الوجود الكوني والإنساني، والدخول في ظلام نسيان مشاهدة الملكوت الأعلى، وفقدان القوة على مخالفة الشهوات، وقلة التفكر في يوم الفصل والجزاء، ولهذه الترابطية الوثيقة بين القراءة ومعرفة الله، انتقد ابن عربي الفلاسفة عندما أخطأوا في نقطة الانطلاق لما كان بصدد تحليل مفهوم الفلسفة باعتبارها محبة للحكمة، فلو طلبوا الحكمة من الله لا من طريق الفكر، أصابوا في كل شيء.
وإذ تبين لنا هذا الأمر، فإننا نصرف السعي إلى ابن عربي الذي هو من الأخلاقيين الذين استثمروا مفاهيم الفلسفة الأخلاقية اليونانية في وصف قوى الإنسان، وفي رسم طريق الارتياض بمكارم الأخلاق مع تحريرها من الإحالات اليونانية الإنسانية، والاعتراف بقيمتها، ومعاندة من يعترض على هذه التعاليم الأخلاقية؛ بدعوى أن قائلها هو الفيلسوف، وأن الفيلسوف لا دين له، يقول ابن عربي: إذ الفيلسوف ليس كل علمه باطلا ، فعسى تكون تلك المسألة فيما عنده من الحق ولا سيما أن وجدنا الرسول - عليه السلام - قد قال بها ولا سيما فيما وضعوه من الحكم والتبري من الشهوات ومكايد النفوس وما تنطوي عليه من سوء الضمائر، فإن كنا لا نعرف الحقائق ينبغي لنا أن نثبت قول الفيلسوف في هذه المسألة المعينة وأنها حق.