”المطـر يكتب سيرتـه” لمرزاق بقطاش تمثّل نموذجـا متميّزا

”السّخريـــة”.. جوهر السّرد الرّوائي..(2)

د - محمد كاديك

هل يجب أن يكون العمل مضحكا، كي نصفه بأنه ساخر؟! طبعا لا، ولكن معظم الدراسات النقدية العربية، تربط عادة بين السخرية والضحك، دون اعتبار للتراتبية التي يتوزع عليها مفهوم «السخرية»، لهذا، عدنا في الحلقة الأولى من هذا المقال، إلى مفهوم «الكرنفالية» في الرواية، كما أسس له ميخائيل باختين، وتحدثنا عن طبيعة التشكيل الكرنفالي في الرواية، وقلنا إن باختين حدد ثلاثة خطوط لتطوّر الرّواية، وذهب إلى أن هذه الخطوط تنوّعت تبعا لجذورها النّظيرة (ملحميّ ــ خطابيّ ــ كرنفاليّ) دون أن ينفي وجود أشكال انتقاليّة بين الخطوط الثّلاث قد تنتج عن توليفات مختلفة، ولقد ذهب إلى أن «التحويل الكرنفالي» قيمة «مبدعة للجنس» (الرواية)، فهو لا يحدّد محتوى العمل فقط، ولكنه يحدد القواعد المؤسسة لطبيعة الجنس في ذاته، ومن هنا ركّز على منطلقات تنوّع التّطوّر في مجال «الهزليّ ــ الجادّ»، أي على مستوى الخط الثّالث الذي تجلّى في «المحاورات السّقراطيّة» و»الأهجيّة المينيبية»، وحقق للسّيرورة الانتقالية غاياتها في أعمال فرانسوا رابليه، ميغيل دي سيرفانتيس، وصولا إلى دوستيفسكي، وما نتعارف عليه اليوم – عموما – بـ «الرواية».

لقد لاحظ بوث - على تراتبية مفهوم السخرية - وجود المستقر من السّخريات، ورأى أنها تشترك في أربع علامات تميّزها عن غير المستقرّ منها؛ وهي كما يلي:
- أنّها جميعها موجّهة ولها مقاصدها، وهي إبداع بشري للسّماع أو القراءة أو الفهم، ولهذا فإن هذه العلامة لا تمتدّ إلى ما يمكن أن تصطنعه الصّدفة، ولا إلى ما يصدر عن غير وعي؛ وهي لا تنسحب -  بالتّالي - على ما يعرف بـ»سخرية الأحداث»، ولا على «الحبّ من أوّل نظرة» كما يقول بوث .
- أنّها جميعها تعتمد على تضمين مقاصدها التي ينبغي إعادة بنائها بما يوافق المعاني السّطحيّة المختلفة، وهذه علامة لا تنسحب على المقولات الصريحة؛ مثل: «إنه لمن السّخرية أن..»، وغيرها من العبارات المشابهة.
- أنّها كلّها تستقر أو تتثبّت بمجرّد تحقّق معناها الضّمنيّ، ما يعني أنّها لا تستدعي المتلقّي إلى هدم المعنى وبنائه من جديد؛ وإذا اختار المتلقّي، من تلقاء نفسه، إعادة بناء المعنى مرة أخرى، فإنّه يمكن أن يحوّل «المستقر» إلى «غير مستقر»، ولكنّ خياره هذا لا يؤثر مع أخذ العلامة الأولى بالجدّية اللاّزمة.
- أنّها تشترك كلّها في التّطبيق المحدود، وهي تتباين مع السّخريات اللاّنهائية (مستقرّة وغير مستقرّة)، ذلك أن معانيها التي يعاد بناؤها موضعيّة ومحدودة، وحتى حين يكون موضوعها عامّا ومتشعّبا، فإنّ مجال الخطاب بها يكون محدودا جدّا بالنّظر إلى اتّساع الموضوع الّذي تشتغل عليه.
ويسجّل بوث بأنّ العلامات الّتي حدّدها لـ «السّخرية المستقرّة» أبعد من أن تكون نهائية، ذلك أنّها لا يمكن أن تميّز السّخرية عن بقيّة الأشكال التي تقتضي القراءة بين السّطور، فهناك اجراءات كلاميّة كثيرة «تقول شيئا وتقصد إلى آخر» كي تستدعي القارئ إلى إعادة بناء المعنى، كما هي الحال مع «المجاز» و»الاستعارة» و»الكناية».
وإذا كان بوث يراهن في مقاربة المقول السّاخر على قصديّة المؤلف، فذلك لأنّه لا يتصوّر النّصّ دون حدود يضعها أمام القارئ، بل إنّه يرى هذه الحدود أمرا لا جدال فيه، والنقاش - كما يراه بوث - لا يتعلّق بتعدّد التّأويلات المفترضة لنصّ أو فقرة معيّنة، وإنّما هو متعلّق بالخيار بين تأويلين اثنين جادّين متعارضين تعارضا واضحا، وعلى هذا، تكون «السّخريّة» مستقرّة إذا توصّل القارئ إلى قصد المؤلف الضّمنيّ، بينما لا تكون مستقرّة في حالتين اثنتين: أولهما تلك التي يرفض فيها المؤلف اتّخاذ موقف، وهو ما يمنع القارئ عن إعادة بناء المعنى الحقيقي للنّصّ، والحالة الثّانية هي تلك الّتي يرفض فيها القارئ تلقّي العمل وفق مقاصد المؤلف، ويحاول - عوضا عن ذلك - أن يفرض تأويله الخاصّ.
أما بيار شاونتيس (Pierre Schoentjes)، فقد جعل «السّخريّة» أربعة أقسام: التّهكم السّقراطي، سخريّة الموقف، السّخرية اللّفظيّة والسّخريّة الرّومانسيّة؛ ثم خصّص لكلّ قسم منها مجاله الخاصّ الذي يوافق «نوع الخطاب» و»الغائية» و»المعنى» و»الشّكل»، فانتهى إلى ربط «التهكّم السّقراطي» بـ «السّلوك»، و»سخريّة الموقف» بالوضع العام أو المقام؛ بينما ربط «السّخرية اللّفظيّة» بـ»الخطابة»، و»السّخريّة الرّومانسية» بـ «الفنّ». ثم جعل أقسام السّخرية نوعين: نوع وسيط يستجيب لمعيار مادي (السّخرية في الكلمات والسّخرية في الأشياء)، ونوع ثان أوّليّ يستجيب لمعيار زمنيّ (التّهكم السّقراطي والسّخريّة الرّومانسيّة)، بينما اقترحت مونيك ياري تخصيص مصطلح «السّخرية الرومانسيّة» للظّاهرة في سياقها التّاريخي، ما يعني أن المصطلح لا ينبغي أن يتجاوز «تاريخ الأدب»، بل يجب التّخلّي عن هذا الاصطلاح في مجالات التّنظير والنّقد، وكل ما يتعلّق بـ «المفهمة» (Conceptualisation) والتّحليل، وانتهت ياري إلى اقتراح الاصطلاح بـ»السّخرية الحديثة» عوضا عن «السّخرية الرّومانسيّة»، ثم أسّست للسخرية الحديثة وفق تراتبية جعلتها في قسمين: السخرية المفارقة (Ironie paradoxale)، والسخرية الشعرية (Ironie poétique) أو «السخرية الفلسفيّة» و»السخريّة الفنيّة»؛ وسجّلت أنّ «السّخرية الفلسفيّة الحديثة» توصف أحيانا بأنّها «سخريّة مفارِقة»، وأحيانا أخرى بأنها «سخريّة عدميّة»، بينما يتوحّد النّظر إلى سخرية الحداثة البدئية الفلسفية (Ironie Philosophique Proto-Moderne) على أنّها «سخرية مفارِقة»، في حين، تختلف التوجّهات في النّظر إلى «السّخرية ما بعد الحداثيّة»، وهي التي ما تزال في حاجة إلى توثيق، فتُدرج أحيانا في مدارج الفكاهة، وأحيانا أخرى تُلحق بالسّخرية العدميّة، وذلك وفق المؤلف، أو بقدر أخصّ، وفق المجال الفنّي أو البلد، أي المناخ الثّقافي الذي تتجلّى فيه.
ولا نرى حاجة في مواصلة عرض صنافات السّخرياتيين، خاصة وأنها – في مجملها – تتفق على خاصية «الإخفاء»/»التظاهر»، بما هي الميزة الرئيسة لأي نوع من الأنواع الساخرة، حتى إن فرديريتش نيتشه 1844-1900م (Friedrich Nietzsche) كان يتجنّب في كتاباته الاصطلاح بـ «السّخرية»، ويفضل «الإخفاء» أو «القناع».

السّخرية في الرّواية

 قد يكون واضحا أننا تعاملنا مع الجانب الظاهراتي من «السّخرية» بحكم أن تجلّياتها في الألفاظ والعبارات البسيطة، غير كافية لاستيعاب تحوّلها إلى موقف يرمي إلى إعادة ترتيب الرؤى، أو إلى إعادة النّظر الشّاملة في المتصوّر العام، بتعبير اشليغل، وما دام «التشكيل الكرنفالي» أصل ثابت في الطبيعة الأجناسية للرواية، فهذا يعني تلقائيا أن «سؤال السّخرية في الرواية» هو نفسُه سؤال أجناسي، بحكم أن عمود كلّ رواية - مهما تكن الرواية - لا يمكن إلا أن يكون «السّخرية»؛ ولهذا تخيّرنا رواية «المطر يكتب سيرته» لمرزاق بقطاش، وهي - كما سبق القول - رواية تراجيدية لا تحفل بالسّخرية اللّفظية، على غرار السّرديات السّاخرة المحض، ولكنها تجعل عمودها ساخرا يتجاوز القراءات السّطحيّة التي تركّز على تفاصيل لا ترتبط بفنّ الرواية، وتترك - بالتالي - فاعلية السّخرية لـ»الكمون»، ما يؤدي بالضرورة إلى تعطيل قدرة العمل الروائي على القيام بوظيفته النّقديّة، بل حرمانه ممّا يسوّغ طبيعته الأجناسيّة .ويجب أن نسجّل - في هذا المقام - أن الرواية موضوع مداخلتنا لم تذكر لفظ «السخرية» بمتفرعاته، إلا في سبعة مواضع على الأكثر، بينها مشهد عبّرت فيه «لوسيان» عن ذهولها من صيحة أطلقتها «فاليريان» وهي في غيبوبتها، فسُرّ «فرحات» بما توسم أنه خيط أمل قد ينتهي إلى عودة محبوبته من الغيبوبة، بينما «علّقت الممرضة على سبيل السخرية منه: ها قد عدت، يا من يعرف أمور الطّب أفضل من الطّبيب المعالج!»، وهذه تدخل فيما لا يعتدّ به من علامات واين بوث المذكورة سلفا.

المطر يكتب سيرته

 تنقسم رواية «المطر يكتب سيرته» إلى قسمين كبيرين، تدور أحداث الأول منهما في تسعينيات القرن الماضي، بينما يركز القسم الثاني على أحداث وقعت عام 1946م، وقد وزعها بقطاش على ستّة فصول (مقبرة بحرية – فرحات - أورليان – فاليريان – ترجيعات سينمائية – توشية الغريب) وسيّر حبكاتها في فيلا فخمة تقع على شاطئ البحر قريبا من مدينة اسطاوالي، يستقبل بها مالكها، فرحات، ابن أخته المهندس المعماري (محمود) وابنَه الطالب بكلية الفنون الجميلة (نسيم)، حماية لهما مما يتربّص بهما من مخاطر الموت على أيادي الإرهابيين، وتكبر الألفة بين الشيخ فرحات نسيم، فيشاركه جولته الصباحية إلى «كثيب رملي» (مقبرة الحلازين)، فقد أدرك أن المأساة التي يعيشها ابن محمود تحتاج إلى شيء من التّرويح عن النفس، خاصة أنه كان يعيش الخوف على والده ووالدته التي اضطرت إلى إجراء عملية جراحية على القلب بباريس، وحدث أن وقعت مشادة مع سمسار يرغب في شراء الفيلا، عقّدت وضع نسيم النفسي، ليأتي خبر اغتيال واحد من أصدقائه بكلية الفنون الجميلة مع والده مدير الكلية، فيزداد الوضع تعقيدا يبلغ درجة دخول نسيم في حالة ذهول، خاصة أنه سمع والده من قبل وهو يحدّث صديقه المغتال قائلا: «لقد حطموا حياتي، ولا أريد أن يحطموا حياة ابني»، ثم سمعه، مرة أخرى، وهو يقول للشيخ فرحات بعد حادثة الاغتيال: «أخشى أن أُقتل، أنا وابني، مثلما قتل صديقي مدير معهد الفنون الجميلة وابنه في عقر دارهما بالذات»، وفي خضم الخوف، لم يجد فرحات ما يخفف به صدمة نسيم سوى العودة إلى كراستي صديقه «بليز» (ابن صاحب الفيلا الذي يشتغل بصناعة العطور في مدينة جراس الفرنسية) ليكشف تفاصيل المأساة التي عاشها عام 1946، مع وفاة أورليان نتيجة مضاعفات صحية بسبب حبسه في محتشدات الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، ثم وفاة فاليريان حزنا على خطيبها وزميلها بمعهد الموسيقى بباريس، ومع تصاعد الأحداث التي يرويها بليز في كراستين وفقا لوصية والده بقصد متابعة حالة ابنته المريضة، تتحسن حال نسيم، ويعود إلى طرح الأسئلة حين يعيش الجوانب الموثقة في «الترجيعات السينمائية»، ويحتم فرحات مأساته وهو يطلق من الكلافسان  جملا نغمية من مقطوعة «البحر» لكلود دبيسي، ويحولها في بضع ثوان إلى «توشية الغريب»، ثم يسود صمت كليّ عجيب.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19526

العدد 19526

الأربعاء 24 جويلية 2024
العدد 19525

العدد 19525

الثلاثاء 23 جويلية 2024
العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024