مراجعات نقديّة..

«النّهضة العــربـيّــة» واقع أم مـغـالــطة؟!

الدكتور: محمد كاديك

طرح الدّكتور أمين زاوي على صفحته بموقع التّواصل الاجتماعيّ «فايسبوك»، فكرتي «النّهضة» و»الصحوة» للنّقاش، ليفسح المجال لمجموع متابعيه كي يدلوا بآرائهم في هذين المفهومين، ذلك أنّ مفهوم «النّهضة» اصطنع براديغماته; منذ مطلع القرن العشرين، وتأسّس في المخيال العام، بما هو لحظة فارقة تمثّل التّخلص ممّا عُرف بـ»عصر الانحطاط»، تماما مثلما تُعتبر منطلق سيرورة تاريخية جديدة نحو آفاق أوسع، بينما تمثّل «الصّحوة»، بما هي نقيض «الغفلة»، خطابا سياسيّا عاما تلبّس بـ»التّدين»، وقدّم نفسه في صورة «حركة ثوريّة مخلّصّة»، ما يعني أن ما عُرف بـ»الصّحوة» اشتغل في حيّز البراديغمات التي أسّس لها مفهوم «النّهضة»، باعتباره تطبيقا إجرائيا، وليس نظرة فلسفيّة مؤسّسة؛ لهذا، نركّز – في هذه السّانحة– على مفهوم «االنهضة» مفردا.
أحسن الدّكتور زاوي بطرح فكرة «النّهضة» للنّقاش؛ ذلك أنّ هذا المفهوم يهيمن على التّفكير في صمت، ويوجّه كل قراءة للوضع العربيّ العام بما يوافق المأمول منه، خاصة وأنّه مضمّن في مناهج التّدريس، ويحظى بإجماع يمنحه التّعالي عن المساءلة، وما دامت صفحة الدكتور زاوي تحظى بمتابعة لا تحلم بها كثير من التّلفزيونات، بله عن وسائل الإعلام الكلاسيكيّة، فإنّ الواسطة التّواصليّة تسمح بتوسيع دائرة النّقاش، وتستعيد جهود المفكّرين الذين حاولوا أن يتجاوزوا المغالطات التي أنتجتها البراديغمات المهيمنة، ولقد أحسن الدكتور زاوي، مرة ثانية، حين اختار لغة تقريريّة كي يحرّك الرّاكد، فقال: «أكبر كذبة عربيّة، هي النّهضة».. ولقد لمسنا ما وصف الدكتور زاوي في أثناء دراستنا للانتقال الأجناسي في حاضنة الأدب، وسنحاول أن نوضّح خطوطه العريضة..
سؤال «النّهضة»..
تأسّس مفهوم «النّهضة» في منتصف القرن التّاسع عشر كـتعبير تاريخيّ وصفي وضعه جول ميشلي 1798م-1874م (Jules Michelet) الذي نظر إلى «النّهضة» على أنّها «اكتشاف للعالم والانسان»، فالقرن السّادس عشر يمثّل اكتشاف الأرض (كريستوف كولومب وكوبرنيك)، واكتشاف السّماء (كوبرنيك وغاليليو)، ليتجلّى أنّ «الانسان» أسّس نفسه مرّة ثانية على هذا المسار التّاريخيّ الذي اكتشفت فيه الأرض والسّماء. ولكن هذا «المفهوم البعديّ»، له أصوله الّتي تعود إلى القرن الثّالث عشر الميلاديّ في الأدب الفرنسيّ، وذلك مع «معجزات نوتردام» (Miracles de Notre Dame) لـ «غوتيي دو كوانسي» (1178م-1236م) (Gautier de Coinci) الذي عبّر به عمّا يُعرف بـ»الولادة الثانية» أو «الانطلاق وفق قواعد جديدة»، واستخلصه من معنى إنجيليّ خالص، وما قدّمنا يعني أن مفهوم «النّهضة» له محمولات تاريخيّة توافق الظّروف العامّة التي ينتشر فيها، ولعل هذا ما جعل نيكول لوميتر (Nicole LEMAITRE) تصف مصطلح «النّهضة» بـ»المرونة» (Terme élastique)، وأنه متعلّق بأسلوب خطابيّ لما نرغب في تعريفه بعديّا، ولكنّه مع ذلك - تقول لوميتر – «يحتفظ بمعنى إيجابيّ، وهو معنى المواجهة النّاجحة بين المتحرّك والثّابت، كما يحمل معنى الانفتاح والتّقدّم والحداثة، ولكنّه في أصله، ليس سوى «أسطورة»، فالمؤرخون يعرفون جيّدا أن الأساطير تدفع النّاس إلى التّفاعل والعمل من أجل تغيير العالم، وتغيير أنفسهم».
ولا يستثني مفهوم «الأسطورة»، كما وصفته لوميتر، اصطلاح جيل ميشلي في القرن التّاسع عشر، فقد لاحظ جيري بروتون (Jerry Brotton) أن تعريفات «النّهضة» الكلاسيكيّة التي تحتفي بالمنجز الحضاريّ الأوروبيّ، وتقصي كل منجز آخر، ومنها تعريف ميشلي، لم تتآلف بالصّدفة مع اللّحظة التّاريخيّة التي تبنّت فيها أوروبا خطابا عنيفا يشرّع لهيمنتها الكولونياليّة على العالم، ليذهب إلى أن مفهوم «النّهضة» لا ينبغي أن يتصوّر في شكل «تحقيب تاريخيّ»؛ لأنّه لا يعبّر عن مرحلة تاريخيّة بعينها، بقدر ما يعبّر عن «روح» أو «إحساس مشترك» يمكن له أن يحيل إلى «المثال» (Idéal) الذي يجتمع حوله المثقّفون  في مرحلة تاريخيّة معيّنة.
سؤال «النّهضة العربيّة»
ولن نتطرّق– في حاضنتنا العربية - إلى الطّابع الأسطوري لـ»النهضة» في حاضنتها الأوروبيّة، بل نكتفي بالحدّ الإيجابي، ونركّز على محمولاته التي تتضمّن «الانفتاح» و»التّقدم» و»الحداثة»، وهو ما يتمثّل أمامنا – في رؤية سلامة موسى مثلا – خطابا لا يعرّف المفهوم بعديّا، ولكنّه خطاب قبليّ؛ ذلك أن موسى، في مقدّمة كتاب «ما النهضة؟»، يتحدّث عن ضرورة تحديد مفهوم «النّهضة»، ثم يقول: «يجب أن لا نقف منها (أي من النّهضة) موقف المتفرّجين، إذ علينا أن نعمل فيها ونعاونها، ونعيش اتجاهاتها نحو المستقبل»، أمّا محمود أمين العالم، فهو يقدّم  «النّهضة»  على أنها «التّغيير الكيّانيّ الجذريّ الشّامل النّابع أساسا من الذّات المجتمعيّة»، ونلاحظ أن التّعريفين معا، ينحوان نحو «المستقبل»، أي أن الحدّين معا قبليين، ويعبّران عمّا يمكن أن يكون، لا عمّا هو كائن، أو ما كان، مع غموض وعتمة يكتنفان الحدّ الذي وضعه العالم، فجعله مطابقا للتّعريف اللّغويّ لا يتجاوزه.
وإذا ألقينا بنظرة على المسار التّاريخي الّذي تولّد فيه مفهوم «النّهضة» بالضّفة العربيّة، فإنّنا لا نجد له ارتباطا بالفكر والثّقافة، ولا بالرؤية العامة للكون، ولكنه مرتبط أساسا بالحراك السّياسيّ الذي دخله العالم العربيّ مع ظهور مؤشّرات نهاية الدّولة العثمانيّة، وكان هذا الحراك – وفق آلبرت حوراني - دافعا حقيقيّا لنشأة نخب من الموظّفين والأساتذة والضّبّاط الذين أدركوا إدراكا حادّا أهميّة الإصلاح، واقتنعوا بأن هذا الإصلاح لن يتمّ إلا بتبنّي بعض صيغ المجتمع الأوروبيّ (...) وقيّض لهم، في ستينيّات القرن التّاسع عشر، بوصفهم أوّل صحفيي العالم العربيّ، أن يكتسبوا قوّة جديدة نمت معها فكرة «الإصلاح» وتوّسعت إلى أن تأسّست فكرة «الوطن» مع رفاعة رافع الطهطاوي (1801م-1871م) وبطرس البستانيّ (1819م-1883م) وجمال الدين الأفغانيّ (1838م-1897م) ومحمد عبده (1849م-1905م) وشبلي شميّل (1850م-1917م) وفرح أنطون (1874م-1922م) وسلامة موسى(1887م-1958م) وطه حسين (1889م-1973م) وغير هؤلاء كثير ممّن اجتهدوا، وأثروا السّاحة الثّقافيّة العربيّة بالجليل من الأعمال، بل فيهم الّذين وضعوا مشاريع فكريّة غاية في الأهميّة.
هل تحقّقت «النّهضة»؟!
لا يتقبّل فيصل درّاج فكرة «النّهضة» من أساسها، ويراها - في مجمل ما جاءت به - مجرد دوران بين «أصالة» غير محدّدة، و»حداثة» ضبابيّة، بل إنه يقول صراحة: «ليس سهلا الحديث عن عصر نهضة أو عن مرحلة تنويريّة؛ ذلك أن أعداء النّهضة والتّنوير لم يفقدوا أبدا مواقعهم، وكل ما يمكن الحديث عنه هو: مراحل النّزوعات التّنويريّة التي اتّسعت مرّة وضاقت مرّة أخرى، إلى أن استعادت الأيديولوجيّات الماضويّة مواقعها.
أمّا محمد أركون، فهو يصف الفترة بين 1850م و1940م بـ»العصر اللّيبرالي»، ويعتبر أنّها فترة بشّرت بالخير وأرهصت بإمكانيّة استيعاب عقل التّنوير وتمثّله في العديد من المجتمعات والأوساط الإسلاميّة، ولكنّه - في المقابل - يُعبّر عن حيرته من الشّعور بأنّ تاريخ المجتمعات العربيّة والإسلاميّة هو تاريخ معكوس، يسير عكس تيّار الحضارة والرقيّ، وهذا ما يعني أن أركون لا يرى أيّ معلم لـ»نهضة» مفترضة، بل إنه يلاحظ بأن مأساة السّير عكس التّاريخ، عامّة في التّاريخ العربيّ والإسلاميّ، وتتكرّر منذ قرون، ولم تعرف الأمة كيف «تنهض» أو تتجاوز قدرها التّاريخيّ؛ رغم أنها أسّست لـ»الأنسنة» مع مسكويه (932م-1030م) والتّوحيدي (922م-1023م) في أثناء العصر الكلاسيكيّ.
وإذا كان محمود أمين العالم قد وضع حدّا غامضا لـ»النهضة»، فإنّه لم يخطئ توصيفها، ولقد لاحظ بأن أنّ الثّقافة العربيّة - في مجملها –ليست سوى ثقافة استقبال وتلقّي ورضوخ، لا ثقافة تجاوز وإنتاج وإبداع، ويذهب إلى أنّ «ثقافتنا» هي «صدمة حداثة» نجمت عن الحملة الفرنسيّة على مصر، ولم ير في ظواهرها التّحديثيّة سوى فروض من الخارج ومن أعلى، لا تعبّر إلاّ عن مصالح سلطويّة، تحيل إليها نظرة جيري بروتون التي ذكرناها آنفا.
ولقد تبنّه محمد عابد الجابري إلى أن وعي العرب بـ»النّهضة» تأسّس على «الإحساس بالفارق بين واقع الانحطاط الذي يعيشونه، وواقع النّهضة الذي يقدّمه النّموذجان: العربيّ الإسلاميّ في الماضي، والأوروبيّ في الحاضر، ولكن هذا «الوعي» الّذي أراد أن ينهض مثل أوروبا، بنيَ على مفارقة واضحة، فالاصطلاح الأوروبيّ - كما أسلفنا - صيغ بعديّا للتّعبير عن واقع محدّد المعالم والصّفات، كامل الوجود والمقوّمات، بينما تبنّاه الفكر العربي على أنّه مشروع مستقبلي، يطرح على صعيد الذّهن والوجدان كبديل عن الحاضر، وهو ما انتهى – كما يقول الجابري - إلى تضخّم يربط «النّهضة» في البلاد العربيّة بـ»قيادة الانسانيّة»، ليضيع الخطاب العام بكلّ أشكاله، لأنّ سؤال النّهضة لم يطرح باعتباره بديلا للواقع المعيش ينبغي صنعه، وإنّما تقاسمه النموذجان العربيّ -الإسلامي الموغل في الماضي، والأوروبي المسارع نحو المستقبل.
معالم أدبيّة..
ليس ما يوضّح واقع الانتقالات الحضاريّة، مثل سيرورة الانتقالات التي عرفتها الأعمال الأدبيّة عبر التّاريخ، فهي الحافظ لكلّ التّحوّلات التي تنسحب على الواقع، وهي الشّارح لآليات الاشتغال الذهني عبر مراحل تطوّره المختلفة (إحيائي – ثنائي – جدلي)، التي توافق موجات أوغست كونت (اللاهوتيّة – الميتافيزيقيّة – الوضعيّة).
ولقد سبقت الضّفة العربية إلى «تأصيل ثقافة الكتابة»، فحقّقت السّبق على مستوى المنظومة الأجناسية الأدبيّة حين جاءت بمقامات الهمذاني ومعارج المعرّي وأعمال الجاحظ وابن طفيل، وآخرين كثيرين، في زمن كانت نفس المنظومة بأوروبا، تعيش هيمنة الشّكل الملحميّ والأدب الدّرامي، وكان ينبغي للسّيرورة الانتقالية العربية أن تنتهي إلى «الرّواية»، فقد أعدّت لها «الكتابة» والاشتغال الذّهني الثّنائي، ولكنّها لم تتحقّق لها، لأسباب موضوعيّة، بينها – على سبيل المثال – الحرمان من الطّفرة التّاريخيّة الّتي أحدثتها الطباعة في القرن الخامس عشر، فقد استصدرت الدولة العثمانيّة فتوى تحرّم استعمال الحروف العربية في الطبع، وألغيت سيرورة انتقالية غاية في الأهمية، لم تستيقظ إلا مع مطبعة بولاق بين عامي 1819 و1821، لتتحقّق «الرّواية» بعد حوالي تسعين عاما، مع «زينب».
ولا تختلف حال «الرّواية»، بالضّفة العربيّة» عن حال «النّهضة»، فكلاهما ضيّع مساره التّاريخي الطّبيعي، ليعالج نقائصه التّاريخية بأثر رجعيّ، ويتحوّل إلى مجرد «محاكاة» يتداولها «الماضي» العربيّ و»المستقبل» الغربي.
ختاما..
ولن نختلف إذا قدّرنا مع فيصل دراج أن ما يسمى «النهضة» في البلاد العربية، لم ينتج سوى الثّنائيّات التي تتواصل في الخطاب العام إلى اليوم، وحتى محمد أركون الذي نوّه بطبقة من مثقّفيّ النّهضة سعت إلى التّأسيس لـ»الحداثة»، يرى بأنّ جهود هؤلاء اصطدمت بضعف القواعد الاجتماعيّة، والرّقابة السّياسيّة التي فرضتها القوى الاستعماريّة، وهذا وضع يبسط مبرّراته التّاريخيّة إذا وضعنا في اعتبارنا الحال التي عاشتها الضّفة العربيّة منذ سقوط دولة الموحّدين، على رأي مالك بن نبي.
إن سؤال «النهضة» يقتضي كثيرا من الورع في المعاملة، فمن الصعب، مع ما قدّمنا، الحديث عن لحظة انتقال حققت مبتغاها من التاريخ، خاصة وأن العقل الإحيائي استعاد «حيويّته» و»ألقه» في العالم العربيّ أجمع، وهذا واقع معيش لا ينبغي أن نداريه، ولا أن نداوره، وإنما مقتضاه التعامل الجادّ على كل المستويات.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024